رغم الحب الكبير للوالد، لم تكن فاتحة تجسرعلى مفاتحته في أمور تزعجها أو تعترض سبيلها، فقد كانت تفضل كتابة رسائل إليه تضعها بغرفته في انتظار أن يطلع عليها.
كانت أول مرة تخترق فيها فاتحة جدار الـ”نعم”، عندما قررت الزواج من الشاب “جمال” طالب الاقتصاد بجامعة منبولييه الفرنسية آنذاك. تقول فاتحة: “احتراما لقناعاتي الشخصية رفضت قبول مهر من زوجي وبسبب طبيعة أسرتنا المجزأة رفضت حفل الزفاف”.
لم يستسغ الأب الأمر، لكن الأقسى حين قررت توظيب حقيبتها والذهاب مع زوجها إلى بيت عائلته بعد عقد قران تم يوم الخطوبة.
بعد هذه الخطوة غير المتوقعة من الطالبة الوديعة، أصبحت كلما فكرت في زيارة منزل الأب يستحوذ عليها إحساس بقلق رهيب، لأنها كانت تعي جيدا تأثير كلمة “لا ” عليه خاصة من ابنة كان يدللها ولم يعتد منها إلا الطاعة والاستسلام.
ربما في هذه اللحظات فقط، تلمست فاتحة الطريق إلى صوتها الفردي، إلى كيانها المنفصل بالضرورة عن رغبات الآخرين وذواتهم. كان عليها أن تختط مسارا تتنفس فيه معنى أن تكون حرة، وكانت البداية لتعيش لنفسها، للمرأة داخلها، للشاعرة التي ظلت تكتم نفَسها التواق للانعتاق. لحظتها ستطرد الخوف والتردد، ستنزع عنها جلباب أبيها، وتختار طريق الحياة الضاجة بالحياة.
كانت ولادة ابنتها البكر، وأول حفيدة في العائلة، الخيط الناعم الذي أعاد رتق العلاقة التي أصابها بعض الوهن ظاهريا، فصورة الأب المثالي، المسؤول، العطوف لم يكن ليزعزعها حدث عابر. كانت المرة الأولى التي يزور فيها الأب بيت ابنته دون مواعيد مسبقة أو شكليات، وقد حدث نفس الأمر بعد إنجابها لابنها الثاني.
*لحظات لاغير: آخر نبضه، كان هدية لي
تغوص فاتحة في غمامة حزن عميق وهي تتذكر آخر اللحظات التي قضتها بجانب والدها بالمستشفى العسكري بجدة بعد تعرضه لحادثة سير توفيت على إثرها زوجته في مكان الحادث لينقل إلى المستشفى إثر إصابته إصابات بليغة. حدث ذلك في 2006 أثناء تأديته لمناسك الحج رفقة زوجته.
تتذكر فاتحة صعقة الخبر الذي تلقته. لم تصدق في بداية الأمر:
“سافر أخي الأوسط إلى السعودية أسبوعين قبلي، في انتظار أن أستكمل أوراق سفري. كانت لحظات الانتظار عصيبة، زاد من قسوتها ظروف السفر حيث كان لابد أن يحجز لي بالفندق ويستلمني بمطار جدة رجل، أنا الطبيبة القاصر في نظرهم. ولحسن حظي أن أخي كان لايزال هناك وقام بكل إجراءات الوصاية على حُرمة لاحق لها في ولوج بلد لم يغير نظرته للنساء في القرن الواحد والعشرين، قبل عودته إلى المغرب بعد حلولي بثلاثة أيام “.
الجميل في الأمر هو أنه بعد سفرها إليه، منحها الوالد المسجى على سرير الألم، فرصة أن يكونا معا.. أن يعلنا حبهما إلى آخر الطريق بعد أن بدآه من أوله. أحست أنها لحظات اختارها فيها لتقضي معه أربعة أسابيع لوحدهما رغم دخوله في غيبوبة طيلة هذه الفترة. لم تكن تبرحه، كانت متأكدة أنه يسمعها حينما تحدثه أو تقرأ له القرآن، تارة تدلك قدميه وأخرى تتتبع مسرى الحياة في جسده، آملة أن يعودا معا الى بيتهما الدافئ.
تتذكر ” أحسست أن هذه اللحظات معه نعمة وهبة من الله. تعايشت في هذه الفترة مع فكرة الموت وتقبلتها.عندما توفي والدي بالمستشفى العسكري بجدة أصررت على دفنه بمكة. كنت متّأكدة بداخلي بأنها الموت التي كان يتمناها طيلة حياته. لم يكن أمر نقله الى مكة ممكنا، فتواصلت مع القنصل المغربي الذي حاول إقناعي بصعوبة نقل الجثة لكنني صممت على دفنه بمكة أو ترحيله لمقبرة العائلة بالزاوية الناصرية، فطلب مني استخراج إذن من أمير جدة شخصيا، لتتدخل إحدى قريبات والدي المشتغلة بالخطوط الملكية السعودية ويتم نقله ودفنه بقبر خاص بمكة. والغريب أن تغسيله قام به طلبة كلية الطب المتطوعون. وبعد الطواف بالجنازة على الكعبة الذي يعتبر من عادات الدفن هناك، كان من ضمن حاملي نعشه أطفال صغار، حملوه مهرولين خِفافا إلى المقبرة المجاورة للحرم لوضعه بالقبر”.
هذه المشاهد المؤثرة لم تجد لها الطبيبة والشاعرة تفسيرا غير أن الطلبة والأطفال الذين حملوه لم يكونوا سوى رد جميل من القدر لما كان يقدمه للتلاميذ والأطفال من خدمات وتضحيات من أجل إتمام دراستهم.
” أظن أن أبي، الذي تنازل لوالدتي عن كفنه الأول، كان يحلم، مثل كل المؤمنين، بدفن وجنازة مثل تلك التي أقيمت له بمكة ولا أخاله إلا سعيدا بتلك النهاية”.
وتضيف عن إخوتها من أبيها: ” كنت حزينة لفقدي أبا لا يعوض وحزينة لحزن إخوتي الذين فقدوا أما وأبا في نفس الوقت، وعاجزة عن مواساتهم إذ لا شيئ بإمكانه مواساة فقد بهذا الحجم. ولأنه لا خيار سوى الاستمرار فقد استمروا على أحسن وجه إكراما لروح والدهم ووالدتهم وحققوا ما يجعلهما فخورين بهم من الهناك.”
مباشرة بعد رحيله، ستسلك فاتحة فجاج الرواية ، وتكتب “لحظات لا غير “. رواية كتبتها بسرعة كأنها كانت جاهزة داخلها، معلنة أنها ربما كانت تتحرج من كتابتها في حياته فقد كان القارئ الوحيد الذي تحسب له ألف حساب.
الحلقة 6: “يوم قلت: لا”، الاتحاد الاشتراكي، السبت/الأحد 6/7 يوليوز 2019، العدد 80122