0%
Still working...

يوسف الساكت لعبة التذكر الملهمات

الملهمات…لعبة التذكر: العمل الروائي الثالث للكاتبة الطبيبة فاتحة مرشيد يفتح سيرة الكتابة الذاتية والمرأة والجنس ويصفي الحساب مع الصمت

يوسف الساكت:

“ضاجعت كل المشاعر/ كنتُ قواد جميع الانفعالات/ كل الأحاسيس الصدفوية ضيفتني على موائد الآخرين/ غازلتُ كل إشارة مؤدية إلى فعل اللذة/ ووضعت يدي في يد كل شهوات الرحيل..”

ليس وحده فرناندو بيسوا، الشاعر البرتغالي (1888. 1935)، من اقترف جنحة البوح اللاذع في عدد من أشعاره، ومارس القلق والأمل واليأس، بطريقته الخاصة، بل “ملهمات” فاتحة مرشيد اللواتي حللن عقدة تذكر أبطالها وجعلن من القول المباح الذي يسير إلى أبعد نقطة ممكنة، شهوة خالصة، ومهنة لتصفية الحساب مع الصمت والقصاص من النسيان الرهيب، فكلما أمعنوا في التذكر، كلما تطهروا واغتسلوا أكثر بماء الحياة.

“الملهمات” من النصوص التي “تقرأ” في جرعة واحدة مثل كأس نبيذ معتق، وما أن تعلق اللذة بلسانك حتى تطلب قراءة/ كأسا أخرى، دون أن تحسب كثيرا لمخاطر عربدة وشيكة غير مضمونة العواقب.

تبدأ الرواية من غرفة للعناية المركزة في مصحة خاصة بالدار البيضاء، حيث تجلس أمينة، امرأة ميسورة ما بعد عقدها الرابع وأم لثلاثة أبناء أحدهم فارق الحياة، على طرف سرير زوجها “عمر”، الناشر المشهور، الذي يستلقي، منذ أيام بلا حراك، بسبب ارتجاج قوي في المخ، إثر حادثة سير تعرض لها على متن سيارته وأدت إلى وفاة عشيقته “كوثر”، مضيفة طيران، التي توفيت في الحــــــال.

منذ الكلمات الأولى، نفهم أن “أمينة” تعودت على طقس يومي شاق وممتع، في آن، بالنسبة إليها، شاق حين تجلس أمام جثة شبه هامدة هي لزوج تعرف أنه لا يسمع لكنها تصر أن تتحدث إليه، وممتع لأنها للمرة الأولى التي تجد نفسها، منذ سنوات، في مكان واحد معه دون ضجيج العشيقات والمواعد الغرامية وأسفار العمل التي لا تنتهي “أكان لا بد أن تدخل في غيبوبة حتى أنفرد بك؟/ أكان لا بد أن تهينني حتى يعرف الجميع بأنني زوجتك؟ فتختفي العشيقات كما بعصا سحرية، وكأن لهن منك الصحة والفرح ولي منك المرض والحزن” (9).

تدخل أمينة، بسبب هذا الطارئ، في حالة من التوتر والقلق والتيه الذهني، يزيد من حدته استمرارها في إخفاء مرض زوجها على ابنها “أمير” الذي يتابع دراسته في الولايات المتحدة، وابنتها خولة التي تتابع دراستها في باريس، ووضع حماتها التي لم تعد تتذكر شيئا بسبب مرض الزهايمر الذي خرب خلايا مخها، ثم مصير شركة النشر ومستخدميها وارتباطاتها والتزاماتها المالية والأدبية مع الكتاب والمؤلفين.

ولأن لكل ناشر كاتبا ملهما يمده بالنصوص والمؤلفات التي تلاقي نجاحا كبيرا في سوق المبيعات، كان لا بد أن تصنع فاتحة مرشيد شخصية “إدريس”، الأستاذ الجامعي والكاتب المشهور، التي يرتبط بأمينة، زوجة الناشر، بعلاقة متوترة مصدرها إحساس الأخيرة أن زوجها يحب صديقه الكاتب أكثر من اللازم، وظلت تشك أن الاثنين يعملان أشياء مريبة في خلواتهما وسهراتهما وأسفارهما وعلاقتهما مع الجنس اللطيف التي لا تنتهي.

منذ سقوط “عمر” في غيبوبة حادة، يعيش “إدريس” حالة شرود قصوى حزنا على صديقه الحميم، “عاد من زيارة صديقه عمر أكثر حزنا من الحجر” (11) وقد عوض هذا الإحساس بالغربة والوحدة بالانكباب على تدوين ما يشبه سيرة ذاتية حفر فيها عميقا في الذاكرة، مستحضرا بدقة عددا من نسائه وعشيقاته التي شكلت علاقاته الجنسية معهن مصدر إلهام ملتهب جعلته يردد لازمته الشهيرة “أنا أكتب بقلمين”، ومن هؤلاء النساء، مثلا، هناء، زوجته، وياسمين، طالبة عند الكاتب الناجح وكاتبة قصة، وزينة خادمة في مؤسسة عمر، وشروق نجمة غناء وثريا زوجة صديقه الشاعر، وزعيمة الزوجة الثانية للشاعر ورجينا الفنانة التشكيلية الألمانية وجون الصينية مغنية أوبرا ورجاء الصحافية الســـعـــــوديــــــة..

يأخذ “إدريس” حيزا مهما في الرواية، وتهتم به فاتحة مرشيد كثيرا في رسم مسارات شخصيته ومنعرجاتها وعذاباتها (كيف رأى أمه في ليلة عزاء والده وهي تمارس المثلية الجنسية مع خادمتها في غرفة النوم) وألمها ويأسها وفرحها ومغامراتها وغدرها وخيانتها وعربدتها ومسالك الإلهام لديها، مقلبة في شرطها الإنساني وكينونتها.

ومن خلال هذا الحفر الفني في شخصية وملامح إدريس، ظلت مرشيد تفتح مغارات لأسئلة بلا قرار عن علاقة الكتابة بالذات والآخرين والعالم والمرأة والجنس، بالمكان والزمان والحالات، وكان من الطبيعي، في نهاية الرواية، أن تكون الكتابة (مسودة السيرة الذاتية لإدريس) فاتحة علاقة متجددة بين زوجة عمر (أمينة  شمرت على ساعديها ودخلت معمعة مؤسسة النشر) وبين الكتابة/إدريس، وتفتح أفقا آخر للقراءة/كتابة جديدة “ففعل القراءة لا يحتاج إلى ملهمات”(204) من وجهة نظر أمينة.

بين إدريس غارق في التذكر وعمر المدثر بالنسيان والصمت ومرض حماتها المزمن وبعد أبنائها..، تحافظ أمينة على كوة فرح وأمل وتعاط إلى الحياة، حين تهرب إلى الحديقة الخلفية لصديقتها المتحررة والمخرجة “صباح”، هنا يأخذ البوح مجرى الجسد والمرأة والمغامرات العاطفية والأسرار الصغيرة وتتوطد العلاقة لتنجب بديلا، نصف واقعي ونصف افتراضي، عن عمر الخائن دائما، (المصور الفوتوغرافي الفلسطيني المقيم بالنرويج الذي تعرفت عليه في معرض للصور دعتها إليه “صباح”).

من خلال التذكر، الذي يفرد جناحيه مثل طائر جبار ويسافر إلى كل الأمكنة والأزمنة ولا يدع تفصيلا صغيرا إلا وجد له مكانه في بوزل البناء الدرامي، (من خلال ذاك) مارست “الملهمات” أشغال حفر عميقة في شخوصها التي تبدو هادئة وغير متوترة، بحكم وضعيتها الاجتماعية والثقافية والمادية، لكن تعتمل داخلها أمواج متلاطمة من الأحاسيس والرغبات والصور والمراجعات والتناقضات والرغبة في الانتقام ولو باقتراف فعل الخيانة مع مصور من غزة تراه لأول مرة.

وهكذا تتحول الرواية، كلما غادرنا صفحاتها الأولى، إلى شارع مزدحم من التوترات والانفعالات والبكاء والخوف والانتظار والضحك والنسيان والصمت والتذكر والخيانة، وتتلاطم أمواجه بالعلاقات والأمزجة والأسئلة المعلقة والحالات النفسية الطارئة والمزمنة، أو بصيغة أخرى إن شخصيات مرشيد تعيش “لحظات عادية لا غير” يمكن أن نصادفها، يوميا، في حياتنا اليومية، لكن بقليل من التأني يمكن أن نتحسس كم أنغرزت فيها وفي القراء المفترضين “مخالب من متعة” تقدم على امتداد 208 صفحات دعوات متكررة لتجريب شراكها.

الصباح الثقافي، السبت – الأحد 14/15/5/2011 العدد 3449

www.Assabah.press.ma

Leave A Comment

Recommended Posts