تاريخ النشر: الإثنين7/6/2004, تمام الساعة 12:53 صباحاً بالتوقيت المحلي لمدينة الدوحة
انفتاح علي المطلق عبر الجزئي
ورق عاشق يتفتح علي يدي الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد
الشاعرة المبدعة تنضم إلي قافلة الأطباء الأدباء
بقلم: شعبان يوسف:
فاتحة مرشيد شاعرة مغربية، وطبيبة أطفال، تأسرك لهدوئها الملغوم، وصمتها المتكلم، ولا يعرف المرء ما الذي يدفع طبيبا أو طبيبة الي مجال الأدب، إلا لوعة الاحساس بالحياة، وعلنا ان نسأل ابداعات يوسف ادريس ونوال السعداوي وشريف حتاتة وعبدالسلام العجيلي ومحمد المخزنجي وغيرهم، وها هي فاتحة مرشيد تنضم الي قافلة الأطباء الأدباء، وهذه المرة يكون الشعر، فمعظم أفراد القافلة يذهبون الي فن السرد، ولكن مرشيد ذهبت الي بحر الشعر، حيث الأمواج التي تعلو وتهبط بها، تكاد ان تغرق صورا وألفاظا، ولكن روح الشعر المجنونة الكامنة في اللغة تنطلق لتعطينا المعني الكلي الذي أبحرت الشاعرة طويلا من اجل اصطياده.
أصدرت فاتحة مرشيد ديوانا بعنوان إيحاءات عن دار الثقافة بالدار البيضاء عام ،2002 وها هو ديوانها الثاني ورق عاشقة يصدر – ايضا عن الدار نفسها – مدججا بلوحات الفنان أحمد جاويد، هذه اللوحات التي تصنع جدلا طوال قصائد الديوان.
ينقسم الديوان الي أربعة اقسام وهم علي التوالي: ورق عاشق، هسيس الفراشات، رشفات، ألوان القلق، ويتقدم كل قسم مفتتح، يقتطف من قصائد لشعراء آخرين، هذه المفتتحات تنسجم انسجاما جدليا مع المتون الشعرية.
في القسم الأول يطالعنا مقطع من قصيدة بورخيس يقول: من كل الورود التي ولّت. وفي أعماق الزمان تلاشت. اريد ان تستثني وردة واحدة .
لذلك سنجد أن هذا القسم الذي يحمل عنوان الديوان كله: ورق عاشق يأتي مشحونا بالطلب او الرجاء والضعف، بالرغم من ان الشاعرة تستخدم حيلة الضمير المعاكس ، بمعني ان كل الفقرات تأتي علي لسان رجل، ولكنها فقرات تعلي من شأن الأنثي، الخطاب يحمله رجل، ولكنه يحمل عبق الأنثي، وسحرها، وقوتها وجلالها، ورومانسية مزدوجة بين ناطق الخطاب ومحموله:
عودي
إلي شاطيء الأحلام
نورسة
عودي محارة
عودي موجة
وتكسري
علي شروخ القلب
عارية
كشراع
يراف للرياح
سنلاحظ أن ضعفا ما ينتاب الناطق لحساب المنطوق له، وانجذابا نحو حبيبة كالبحر، يستلهمها.. فتعطيه معانيها وأسرارها وأغوار روحها:
جئتكِ
عاري الروح
حافي القدمين
دثريني
بالرموش
فأنا
حين أعشقُ
أصير وليداً
يعانق الكون
في ثديين
كما أن هذا الخطاب المتفاني والعاشق، الذائب في ماء الآخر، لا يعتبر ضعفه ضعفا، بل يعتبره قوة، ويعتبر هزيمته انتصارا، وانسحابه إقداما:
مُحترف الهزيمة
ما ضرَّني
يا امرأة
أن أهزم فيك
وثغركِ
أعذب معركة .
هنا يتضح البعد الصوفي، أو المشابه لموقف الصوفي، وهو حلول الذات في الآخر، والإنكار لها:
حين أودعك
ألقاك بأغواري
قارب نجاة
أعبر به الفراغ
في انتظار..
عودة المعني
إلي المعني
بحضورك .
وفي نهاية هذا القسم، يستسلم الصوت تماما، ولا يعتبر استسلامه تلاشيا مستسلما انه حلقة من حلقات علوه، ورقيه، وفنائه ايضا، هذا الفناء الذي لا يهدد الذات..
أحنُّ
وقد تبدد سحُرك
سيدتي
إلي أيام التمائم
تلفني
بخيوط عنكبوت
فأرفل غافياً
في مرابض خلوتي
أستلذُّ ضعفي
وارتيابي
وأسبح باسمك
مولاتي
في القسم الثاني هسيس الفراشات تأخذ الشاعرة فقرة من الشاعر الاسباني المغدور فيديركو جارثيا لوركا.. تقول الفقرة:
لا أريد إلا يداً واحدة
يداً مجروحة إن كان
لا أريد إلا يداً واحدة
حتي لو أمضيت ألف ليلة بلا منام
وكأن هذاالقسم يأتي كحوار مع الذي سبقه، باختلاف موجه الخطاب، فهنا الذات الأنثي هي التي تتحدث، حاملة بوضوح كل قسمات وخصائص خطاب الأنثي، بأبعاده الرومانتيكية والحسية في آن واحد:
لا تكن قاسياً
علي الفراشات
قد تموت من حرّ أنفاسك
هذه الانثي تبحث عن نفسها في الآخر، وتتحقق عبره، وتفتت جزئيات خطابها، لتلم به فكرتها ومعناها وجدواها، في قصيدة بحثا عني تقول:
أتسكع
في سراديب
عينيك
بحثاً عني
أتيه..
في العتمة
يصدمني جدار
أحلم
أن انتحر فيك
أن يصهرنا.. الدمار
تحاول الشاعرة تحقيق الفكرة المزدوجة للابداع الشعري، ولا تضيع واحدة علي حساب الأخري، فيخرج المرء/ القاريء بالإحاطة بمعني ما، مع الاستمتاع بالقراءة، لغة وموسيقي كامنة في الجملة والألفاظ، حتي القصيدة قادرة علي تلبية أغراض وجدانية للقاريء وأغراض جمالية أيضا، وفي ذات الوقت تتشكل الذات الأنثوية في كل مفردات ومكونات القصيدة بالاضافة لاستخدام فضاء النص كمجال لتحقيق هذه الذات الأنثوية والمتأمل لمعجم الألفاظ المستخدم والمكون للقصيدة سنتعرف علي مجال أنثوي بامتياز وما الحوار الذي ينشأ بين القسم الثاني والأول إلا تحقيقا لهذه الأنوثة الطاغية.
في القسم الثالث تصر الذات الشاعرة علي تحقيق تجلياتها، وابرازها بأشكال عدة، ويتبدي ذلك في المفتتح الذي تضعه الشاعرة في البداية وهو فقرة من قصيدة للعراقي الشاعر بلند الحيدري:
.. لن تموت نشائدي
ما دام في قلبي وتر
ونلاحظ في هذا القسم تلمسا للمعاني الحسية، واكتشاف الحياة من خلال ذلك:
لماذا
كلما استهواني المدي
يأسرني الجسد؟
لا يبتعد المعني الشعري الكامن خلف السؤال الماضي عن السؤال الفلسفي الذي يضع طاقات الجسد الخرافية، أمام الضعف الشديد الذي يعاني منه، ونكتشف ان قصائد أو مقطوعات هذا القسم والذي بعده تدور حول قضايا ومعانٍ وأفكار شبه فلسفية صريحة وواضحة، ففي مقابل الموجة الشعرية التي تقول بتشعير اليومي والعادي، تلعب هذه القصائد لعبة تشعير الفلسفي والكوني ، ولو تأملنا مثلا:
كما الموج
ينفث
أنفاسه الأخيرة
علي الرمل
الذي لا يرتوي
أموت مرات
لكي نحيا
أو: سئم الأديمُ/ من تناوب الأقنعة/ أُيهم يا مرايا النفس/ لكُم أقرب/ جديدهم أم القديم .
فاتحة مرشيد تفتح طاقات روحها الشعرية علي المطلق والفلسفي والكوني، عبر مفردات الحب والجسد، بشعرية رائعة، خالية من
شوائب الارتباك والتهويم الضبابي الذي يقع فيه هذا النوع من الابداع.
جريدة “الراية القطرية”
7 يونيو 2004 العدد 8066