وحده الشعر يمنحنا الإحساس بأبدية اللحظة
هي شاعرة تكتب بماء الروح.. تكتب كي يزهو الحديد وتخضر الساحات لأنها تؤمن بقيمة الكلمات التي ليست كالكلمات. قدمت إلينا من جبال الأطلس على جناح الريح، تسبقها رائحة الزعتر وحبها للقريض. حيث نزلت ضيفة مبجلة على تونس وعلى صالون المبدعات في إيطار السنة الحميدة التي سنها النادي الثقافي الطاهر الحداد والسيد الهادي الموحلي مدير هذا النادي، في استرجاع ثقافة الصالونات الأدبية التي اندثرت أو تكاد.
هذه هي الطبيبة والشاعرة المغربية فاتحة مرشيد. وفاتحة لمن لا يعرفها شاعرة متمكنة أصدرت دواوين شعرية كثيرة من بينها “إيماءات” سنة 2002، و”ورق عاشق” سنة 2003، و”تعال نمطر” سنة 2006، و “أي سواد تخفي يا قوس قزح” باللغتين العربية والفرنسية سنة 2006، أيضا وأخيرا أصدرت روايتها الأولى “لحظات لا غير” عن المركز الثقافي العربي ببيروت، سنة 2007. شاركت بقراءات شعرية في عدت ملتقيات ثقافية داخل المغرب وخارجه، مثل معرض الكتاب بالقاهرة سنة 2004، وملتقى أصيلة البحيرين للثقافة والفنون سنة 2004، ونادي الشاعران بباريس سنة 2004، وفضاء لارماتان بباريس سنة 2006، وبيت الشعر التونسي سنة 2005. ترجمت بعض أعمالها إلى عدة لغات مثل الفرنسية والانجليزية والاسبانية والايطالية. لذلك كان لابد أن نلتقي هذه الشاعرة في هذا الحوار الذي تحدثت فيه بكل صراحة عن تجربها وعن اهتماماتها الثقافية الأخرى.
حاورها: مع عبد المجيد دقنيش
_ س: باعتبارك طبيبة أطفال تكتبين الشعر، هل من علاقة بين الطب والشعر؟ وهل هذه العلاقة هي علاقة انسجام وتكامل أم هي علاقة تنافر؟
_ ج: علاقة الطب بالشعر علاقة قديمة جدا، فالأطباء القدامى كانوا شعراء وعلماء فلك وعلماء رياضيات.. كل منهم كان موسوعة في حد ذاته. لكننا الآن في عهد التخصصات العلمية والتيكنولوجية. والتخصص يتطلب التعمق في ميدان واحد وهذا ما جعل سؤالا كهذا يطرح نفسه تقريبا في بداية كل حوار أجري معي، مع أن الأطباء أبدعوا ولا زالوا وأذكر منهم على سبيل المثال: يوسف إدريس، نوال السعداوي، إبراهيم ناجي..وغيرهم. وهذا لسبب واحد هو كون الطب مهنة والشعر هوية وهواية، والمبدع بإمكانه أن يمتهن أي مهنة تمكنه من العيش بكرامة دون أن يجد نفسه مطالبا بالبحث عن العلاقة التي تجمع بين هذه المهنة والإبداع. لكن إن كان لا بد من إيجاد علاقة ما، فسأقول إنها علاقة انسجام وتكامل. يكفي أن نرجع لتعريف الأطباء القدامى للطب لنجد أنهم يعرّفونه على أنه تطبيب ومواساة. فالتطبيب هو كل ما يتعلق بالعلاج والجراحة. والمواساة هي التعامل مع المريض على أنه إنسان يمتلك جسدا وروحا.. إنسان يجب الإنصات إليه ومواساته. والمواساة تعتمد الكلمة أساسا.
فالكلمة لها القدرة على أن تكون بلسما كما يمكنها أن تكون مقصلة. والإنسان يحتاج للتطبيب جراحه الجسدية والروحية معا، وربما لهذا يبقى الطب من أقرب المهن للشعر وللإبداع عامة. ووعي الأطباء بهذا جعلهم يستعملون العلاج بالموسيقى والعلاج بالتشكيل في بعض الأمراض النفسية علاوة على حصص العلاج النفسي التي تعتمد الكلمة كوسيلة تفريغ وترميم.
_ س: هل الشعر في تجربتك سابق للطب أم الطب سابق للشعر؟
_ ج: الشعر سابق للطب إذ بدأت الكتابة منذ الصبا الأول. ودراسة الطب أتت لاحقا لتصبح لسنوات أولى أولوياتي. لكن ممارستي للطب، كمهنة، ومواجهتي اليومية للألم والمعاناة البشرية جعلتني ألمس هشاشة الكائن من جهة وتخوم الطب من جهة أخرى.. جعلت حاجتي أكبر لغذاء روحي.. لوهم بالخلود..
وحده الشعر – والإبداع عموما – يمنحنا الإحساس بأبدية اللحظة.
ثم إن طبيعة تخصصي ( في طب الأطفال) جعلتني أقرب ما أكون من عالم الإبداع من عالم التلقائية. فالمبدع يقتات من الألم ويحتاج أن يغوص عميقا في طفولته ووجعه الأول، يحتاج أن يحتفظ بدهشته الأولى.. دهشته الطفولية.
_س: ما هي الأغراض التي تكتب فيها فاتحة مرشيد؟ وأي الأغراض أقربها إليك؟
_ ج: ليست لي أغراض معينة أو مواضيع معينة أو قضية معينة. أنا أكتب كلما اصطخب شيء في نفسي. ويشكل الإنسان بمعاناته جوهر اهتماماتي.
_ س: هل تؤمن فاتحة مرشيد بأن هناك كتابة نسائية وكتابة رجالية، أم أن اإبداع واحد لا يتجزأ في رأيك؟
_ ج: أومن بأن هناك كتابة إنسانية بأحاسيس مختلفة، ليست باختلاف جنس الكاتب ولكن باختلاف التجربة وباختلاف المرجعيات الثقافية والمعاشية وكذا التركيبة النفسية للكاتب.
_س: يقول نزار قباني ” أكتب كي أوسع من زرقة السماء.. وأقلل من ملوحة البحر” فلماذا تكتب فاتحة مرشيد؟ ولمن تكتب؟
_ ج: لماذا أكتب؟ حقيقة لا أعلم، هي حاجة ماسة للتعبير. قد يكون مردها البحث عن نوع من المصالحة مع الذات ومع الآخر.. ثم لا أظننا نختار أن نكون كتابا أو شعراء.. إن كان الطب اختاري بمحض إرادتي فالكتابة كتبت لي كقدر جميل.
_س: حين يجد الشاعر نفسه محاصرا وتتمنع اللغة الشعرية هل يهرب إلى أشكال تعبير أخرى كالرواية والقصة والمقالة؟
_ ج: ليته كان بإمكان الشاعر أن يصير روائيا متى أراد ذلك أو العكس. قلت بعد قليل إنها ليست مسألة اختيار. فالفكرة تأتي محملة بالصيغة التي ستكتب بها. وأنا ما كنت أظنني قادرة يوما على نَفَس الرواية الطويل قبل أن أكتبها_ أو تكتبني_ وجدتني كعازف للآلة موسيقية واحدة وجد نفسه يتقن العزف على أخرى، بمجرد ملامسته لها، ومن يدر ربما أعزف قريبا على ثالثة.
_س: هل مازال الشعر ديوان العرب اليوم أم أن الرواية والقصة أخذت مكانه؟
_ج: الشعر كان ولا يزال ديوان العرب وديوان الإنسان ككل ولا مفاضلة بين جنس أدبي وآخر. المهم هو صناعة الأدب. نحن نحتاج كل الأجناس نحتاج كل ما ينمي الذائقة البشرية و يرقى بالإنسان إلى أعلى مدارج الإنسانية. نحن نحتاج إلى تطوير كل الأجناس عوض الخوض في نقاش عقيم لن يفيد أحدا.
_س: هل يمكن أن نعتبر روايتك الجديدة ” لحظات لا غير” والصادرة عن المركز الثقافي العربي ببيروت سيرة ذاتية باعتبار أن الشخصيتين الرئيسيتين هما شاعر و طبيبة؟
_ ج: أنا أعتقد أن كل سيرة ذاتية معلنة هي أكذوبة إذ كيف نتق في الذاكرة؟ وأين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال؟ وهل يمكن رسم حدود بينهما؟ وأين هي حدود الوعي باللاوعي؟ وهل يمكن كتابة السيرة الذاتية بموضوعية وعالم الكتابة والإبداع مرتبط بالذات وانفعالاتها؟. كما لا أعتقد أنه بإمكان الكاتب الكتابة خارج الذات.. وكل رواية تحمل في طياتها سيرة ذاتية.
يقول ميلان كونديرا ما مفاده: ” بالطبع كل ما تكتبونه متعلق بحياتكم. الرواية تنبثق من انفعالاتكم الشخصية ولكنها لن تأخذ مداها إلا إذا قطعتم الحبل السري مع حياتكم الخاصة وبدأتم في مخاطبة الحياة بصفة عامة”.
للجواب على سؤالك بطريقة أكثر وضوحا أقول: هي ليست سيرة ذاتية بالمعنى الأكاديمي للكلمة لكنني لا أستطيع نفي وجود بعض من ذاتي بين سطورها.
تسألني أين أنا من الشخصيتين؟ يقول فلوبير: ” مدام بوفاري هي أنا” وأقول أنا “أنا الطبيبة والشاعر معا” وقد يتسرب شيء من ذاتي في الشخصيات الأخرى.
_س: لماذا هذا الموضوع تحديدا هل الموضوع هو الذي فرض نفسه أم أن الاختيار مقصود ونابع من واقع تجربتك في الميدان الطبي؟
_ ج: يقول ماريو فارغاس يوصا في “رسائل إلى روائي ناشئ” إن “كاتب القصة ليس مسؤولا عن مواضيعه (فالحياة هي التي تفرضها عليه) ولكن عما يصنع بها بتحويلها إلى أدب”.
_ س: هناك أزمة تلقي وفهم بالنسبة للقارئ العربي مع الشعر الحديث الذي يغرق في الابهام والغرائبية والقاموس الصعب الذي يستعمله شعراء هذه المرحلة من الحداثة. فهل الخلل في المتلقي أم في الشاعر؟
_ج: لا يمكننا تعميم ظاهرة الغموض في الكتابة على كل ما يكتب. الغموض له علاقة بالتجربة أكثر ما له علاقة بالشعر ذاته. قد يكون الغموض عنصر إثراء وقد يكون مجرد وسيلة لمداراة ضحالة النص.
يقول رسول حمزتوف “أروع الجرار تصنع من الطين العادي وأروع الأشعار من الكلمات البسيطة” ويقول كذلك: ” وأتساءل كيف يمكن أن نطلق في العالم كلمة لم تكن قد عاشت في قلب”. المهم أن تكون الكلمة قد عاشت في قلب الشاعر وإلا فلن تستطيع النفاذ إلى قلب القارئ.
الذي يجب الاهتمام به قبل كل شيء هو شعرية النص ومدى قدرته على التأثير.
_س: ترجمت بعض أعمالك إلى لغات أخرى، فهل أن حركة الترجمة في الوطن العربي مواكبة لتطلعات القراء والباحثين؟ وهل هناك حركة للترجمة أصلا خاصة إذا علمنا أن دولة مثل اليونان تترجم أكثر مما تترجمه الدول العربية مجتمعة. لما يعود هذا التقصير؟
_ج: أعتقد أن هناك حركة للترجمة في العالم العربي بدأت تأخذ مداها، قد لا ترقى إلى مستوى التطلعات الآن لكنها تبرز عن وعي لدى الكتاب والباحثين بضرورة مد الجسور بين الثقافات، وحوار، وتواصل تفرضه العولمة ومحو الحدود. هناك حاجة ملموسة لدى الكتاب المغاربة إلى نقل أعمالهم إلى لغات أخرى وقد ظهر لدينا في السنوات الأخيرة جيل من المترجمين الشباب الجيدين.
ثم لا ننسى أن الترجمة الأدبية ليست بالشيء الهين فهي بمثابة إبداع ثاني للنص، تتطلب دراية ومعرفة باللغة التي يُنقل عنها واللغة التي يُنقل إليها وكل ما يحملانه من بعد ثقافي وتاريخي واجتماعي.
_س: لمن تقرأ فاتحة مرشيد وما هي أهم التجارب التي تعجبك؟
_ج: كوني لم أتلق تكوينا منهجيا في ميدان الآداب خلف لذي إحساس بنقص ما. الشيء الذي جعلني ألتهم الكتب التهاما، بكل أنواعها وأشكالها، بالعربية والفرنسية. مؤمنة بأن كل قراءة تضيف لنا شيئا.
أما عن التجارب التي تعجبني: فهي كل تجربة تجعلني أحس من أعماقي ما قاله فرناندو بيسوا عن الأدب:” الأدب هو الدليل على أن الحياة لا تكفي”.
وهنا تكمن جدوى ما قد يبدو للوهلة الأولى غير أساسي للحياة مثل الفن والشعر والموسيقى وغيرها.. لأن هذا ما يجعل الإنسان في مرتبة أعلى من الحيوان لأنه وحده قادر على الخلق والإبداع.
مجلة “الإذاعة والتلفزة (تونس)، العدد 1445، السبت 31 مارس 2007