مخالب المتعة .. رواية محلقة رغم إهدار الصفحات الثمينة
وجدي الأهدل:
يبدو أن مجتمعات ما بعد الحداثة سوف تظهر فيها مهن جديدة، لم يكن لها سابق وجود في التاريخ البشري.
تتنبأ الروائية المغربية فاتحة مرشيد في روايتها «مخالب المتعة»(1) بظهور واحدة من هذه المهن الجديدة، ألا وهي مهنة «بائع الهوى».
بطل الرواية «أمين» هو شاب مغربي أنهى دبلوم الدراسات المُعمقة في التاريخ والجغرافيا، كانت والدته تزهو به، وتقول عنه إنه سيكون «مؤرخ المملكة الجديد».
لكن هذا الطموح العالي تكسر إلى شظايا على الأرض الصلبة للواقع، لأنه لا أحد يرغب في توظيف شخص متخصص في التاريخ والجغرافيا.
افتتاحية الرواية تبدأ بالتركيز على «أمين» العاطل عن العمل الذي يتقاضى مصروفه من أخته التي تعمل في صالون التجميل. هو لا يطلب، وهي لا تخبره، تتصرف معه بشهامة وتدس المال كل صباح في جيب بنطلونه خلسة من العيون.
كل يوم يذهب «أمين» إلى المقهى ويشتري الجرائد، يقرأ الإعلانات بتمعن، الإعلانات متشابهة، وتطلب خريجي الاقتصاد أو الإدارة أو الإعلاميات. لكن المفاجأة أن الوظيفة التي كانت بانتظاره لم تعلن عنها أية جريدة، وإنما هبطت عليه مصادفة يحملها إليه صديق دراسته «عزيز».
في اللقاء الأول يعدُ «عزيز» صديقه بأنه سيدبر له شغلاً.. يحاول «أمين» معرفة طبيعة الشغل، ولكن «عزيز» يكتفي بتلميحات، ويضع ورقة نقدية كبيرة على الطاولة، ثم يعبر الشارع ويركب في سيارة فخمة تقودها امرأة جميلة لا عمر لها.
في اللقاء التالي يعرف «أمين» الوظيفة التي وُعد بها:
-وما هي طبيعة عملك؟
– أنا بائع المتعة.
أسقط في يدي، وقد بدأت أفهم ما تجاهلت فهمه من قبل. أحسست بشيء يشبه الإهانة، وبدمي يغلي، فانفجرت معلقاً:
– أهذه طبيعة العمل الذي تعيش منه وتقترحه عليّ.. تريدني أن أشتغل عاهرة؟
– لا تبالغ يا أخي، كيف تقول هذا وأنت الرجل، أتخاف على شرفك؟ أنت الرجل.. أتفهم ما معنى الرجل؟ لن يعيب عليك أحد، أنت تعطي المتعة وتستمتع بدورك، وتتقاضى أجراً لا يستهان به.
كمن لا يصدق ما يصل إلى مسامعه سألت للتأكد:
– أتريدني أن أبيع جسدي؟ (2).
الممانعة الأخلاقية التي أظهرها «أمين» في البداية، سوف تنهار كقلعة من ورق عندما يتعرف على «بسمة».
تدخل الروائية فاتحة مرشيد إلى عالم «الجيغولو» وتتوغل فيه.. تفهم كيف يفكرون ويفلسفون وظيفتهم الاجتماعية المستجدة. يقول «عزيز» وهو بائع هوى محترف في سياق حواره مع صديقه «أمين» المتردد:
«ما دخل زوجها بالأمر، ثم أنا أسدي له معروفاً، أقوم بما لم يعد له الوقت ولا الرغبة ولا حتى القدرة على القيام به»(3).
مجسات الروائية تغوص إلى القعر الموحل لنفسيات بائعي الهوى، وتتمكن ببراعة من تصوير مشاعرهم التي تخالجهم أثناء أدائهم لعملهم.. يُدعى «عزيز» إلى حفلة جنسية في ضيافة ثري فرنسي مقيم في مراكش. يرجع إلى الدار البيضاء بروح منتهكة ومُذلة، يبوح لصديقه «أمين» بما حصل معه:
«كان الشباب والجمال في خدمة المال. لم أكن عشيق ليلى، كنت أحد الشباب والشابات المدعوين لخدمة أسيادهم. وطبعاً أنت لا تختار، فكوني مع ليلى لا يمنع أي سيدة من صديقات فرانسوا، تبين لها تحت وطأة المخدر أو الشمبانيا أنني مطابق لذوقها، أن تمد يدها، بكل ثقة، إلى سحابة بنطلوني. وطبعاً لا أستثني بعض الرجال المثليين أو ثنائيي الجنس»(4).
ما كان يعذبه تحديداً، هو أن أولئك الأثرياء استخدموه كـ «أداة جنسية» متوفرة في خدمة الجميع. لقد تلاشى شعوره بالتفوق، واكتشف أنه لم يعد إنساناً، بل مجرد آلة للمتعة يستطيع أي عابر طريق قادر على الدفع أن يتسلى بها.
تفضح صفحات الرواية هذا العالم الخفي، وتجارة المتعة الجنسية التي تسري فيه. وهي لا تهمل الطرف الآخر «المرأة مُشترية المتعة» وتحدد صفتها على لسان عزيز:
«إنها تكبرك سناً، جميلة، ثرية، وتعيسة: مواصفات تجعل منها زبونة مثالية»(5).
كل صفحة من صفحات الرواية مشغولة بمهارة، وتقدم باطراد تفاصيل مثيرة وغنية عن الحياة السرية لبائعي الهوى.
حبكة الرواية محورها شخصية «أمين» وانزلاقه التدريجي في مهنة بيع جسده، والصراع النفسي المُصاحب للشخص حين الانخراط فعلياً في هكذا عمل.
لقد تطرقت الرواية إلى مسائل أخلاقية بالغة التعقيد، نحن نعرف الحكم الأخلاقي المُسبق على هكذا مهن ونعتبرها منافية للأخلاق العامة. وفي الرواية ذاتها نجد حكم المجتمع القاسي على لسان الشرطي الذي تجادل معه «أمين» دفاعاً عن صاحبه «عزيز» المعتقل:
«كفاك دفاعاً عنه. شباب مستهتر، لم تعد لديكم حدود، وسختم البلاد، كنا نحارب دعارة النساء وإذا بالرجال ينافسونهن.. يُحطم حياته من أجل امرأة في سن أمه، لماذا برأيك؟»(6).
لكننا حين نقرأ رواية «مخالب المتعة» بتمحيص وتدقيق – وهي التي تقدم لنا قطعة صادمة من الواقع – سوف تتوافر لنا زاوية رؤية جديدة، تضعنا في قلب مفارقة أخلاقية لم تكن في حسباننا.
لا تدين رواية «مخالب المتعة» أي أحد، ولكنها على العكس من ذلك تجعلنا نتعاطف مع بائعي الهوى، ونغفر لأولئك الشبان الوسيمين الذين اضطرتهم ظروف معيشية بائسة إلى القبول بأعمال تهبط بكرامتهم البشرية ومكانتهم الاجتماعية إلى الحضيض الأسفل.
تختلف الدروب باختلاف القلوب، وفاتحة مرشيد تختم روايتها العذبة بنهايتين متباينتين:
»عزيز» بائع الهوى المحترف يقع في نهاية الأمر في عشق زبونته، وتدفعه الغيرة العمياء إلى قتلها.. يُسلم نفسه طوعاً للشرطة، وينتظر حكماً بالسجن المؤبد.
«أمين» بائع الهوى المبتدئ، أوقعته الأقدار السعيدة مع زبونة غريبة الأطوار، وهبته نشوة ومتعة أسمى من الاتصال الجنسي المباشر، قررت في نهاية علاقتهما أن تلحق بزوجها في المهجر، وتركت له «توصية شغل».
نمو الشخصيات وتطورها مدروس بعناية، ويتبع مساراً درامياً سليماً. لكن هناك شخصية تبدو مُقحمة في نسيج الرواية، هي شخصية الرسام إدريس. لقد كونت رأيين عن هذه الشخصية المحيرة، رأي نقدي ورأي ذوقي.
والرأي النقدي يتعلق بسلامة المعمار الروائي، ومما لا شك فيه أن رواية «مخالب المتعة» مبنية بناءً مُحكماً، ومعمارها الفني مُشيد بحرفية عالية، وأحداثها جرت بسلاسة وتناغم، لكن المساحة التي أعطيت لشخصية الفنان التشكيلي «إدريس» وهيامه الأبدي بحبيبته العراقية «بلقيس» لم تكن جزءًا أصيلاً من القصة الأساسية التي تسردها الرواية.
لقد جرى إهدار صفحات ثمينة من المتن الروائي في قصة ثانوية.. إن قصة الفنان إدريس وحبيبته العراقية على ما فيها من رومانسية باذخة، إلا أنها بعيدة كل البعد عن حبكة الرواية: إغواء الشبان للعمل في الدعارة.
كان من الممكن استغلال هذه المساحة السردية الناشزة عن بناء الرواية في الشغل أكثر على تصوير العلاقة الحميمة المتفجرة بالأحاسيس بين «أمين» وزبونته «بسمة».
والرأي الذوقي الذي كوّنته عن شخصية الرسام «إدريس» وهو نتاج القراءة الثانية للرواية، إن الروائية فاتحة مرشيد استخدمت هذه الشخصية لتقدم نموذجاً إيجابياً للعشق والعشيق.
والرسام «إدريس» هو نموذج أيضاً للإخلاص والتفاني الذي لا حدود له في الحب. فهذا الفنان الكهل حرّم على نفسه حب بنات حواء، باستثناء امرأة واحدة، ظل رغم رحيلها إلى بلدها، يرسم لها بورتريه جديداً كل ليلة مستعيداً ذكراها وتفاصيل وجهها المحبوب، وكأنه نذر نفسه لعبادة الحبيبة المستحيلة حتى آخر أيامه.
تمثل شخصية الرسام «إدريس» ذات المظهر الزهدي، النقيض التام لشخصية «عزيز» الذي يمنح الحب مقابل المال.
إن وجود شخصية الرسام «إدريس» تخلق توازناً أخلاقياً للنص، وتجعله يسير على قدمين.
دون شخصية الرسام «إدريس» وموقفها الوجودي المثالي – الذي يبدو أنه يُمثل ضمير الكاتبة – فإن الرواية كانت ستبدو عرجاء.
من الناحية التقنية، يمكن القول إن الدخول على عالم الرسام «إدريس» وسيلان السرد باتجاهه، كان خدعة فنية نفذتها الروائية بذكاء، لتشتيت انتباهنا عن «عزيز» الذي كان يتحرك في خلفية السرد كشبح لتنفيذ جريمة القتل.
الزمن الروائي الذي استخدمته فاتحة مرشيد لسرد حكاية الفنان «إدريس» كان يسير بموازاة الزمن غير المرئي للقارئ الذي استغرقه «عزيز» في مطاردة ضحيته وقتلها.
حين أوازن بين الرأيين، النقدي والذوقي، أجدني منحازاً للرأي الذوقي، لأن كل قراءة جديدة للرواية تجعلني أوافق الروائية فاتحة مرشيد في الخطة السردية التي اتبعتها في صياغة روايتها.
الفن الروائي له حواس غامضة جداً.. وأية ملاحظات قد تكون وردت هنا، لن تنقص شيئاً البتة من جمال رواية «مخالب المتعة» وتحليقها العالي في سماء الخيال والإبداع.
جريدة الوطن القطرية،السنة 14 العدد 5562، الخميس
25/11/2010