0%
Still working...

وائل السمري إطلالة على الرواية المغلربية لحظات لا غير

إطلالة على الرواية المغربية رواية لحظات لا غير لفاتحة مرشيد نموذجا جدلية الشاعر /الروائي بين الحب والزمن

وائل السمري:

في “لحظات لا غير” محاولة للقبض على الزمن والانفلات من وطأته والاستسلام لأبديته وسرمديته، والتعامل معه بشيئية وعدم اكتراث في آن، فالرواية تبدأ بنص ما تنتهي به ويتصدرها اقتباس من نهايتها “تريث قليلا أيها الموت أني أكتب”، وهذا حينما تبدأ الراوية/البطلة في كتابة تجربتها مع المجتمع، الحب، المرض، الموت، وهذه التقنية ـ ألا وهي الابتداء بالنهاية أو الانتهاء بالبداية ـ تخرج من تصنيفها كاستباق أو استرجاع ـ وهي التقنيات التي تستخدم في الرواية بالأخص ـ وتدخل في حكم “البناء الدائري” كتقنية مستعارة من الشعر لأن موضع الاقتباس خارج متن الرواية أي على عتبة الرواية، كما تعمدت الكاتبة “التناص” مع أعمال إبداعية أخرى و”الاقتباس” منها في كثير من أجزاء وأحداث الرواية فنرى تناصات مع واقتباسات من “عزت سراييج، روني شارو، رسول حمزتوف، لويس غارسيا نطيرو، فريدريك بيكر، لوركا، ومحمود درويش، نزار قباني وأغاني جاك بيرل، والأمثال الصينية والأمثال المتوارثة بالإضافة إلى…

رواية “لحظات لا غير” الصادرة عن المركز الثقافي العربي في طبعة قيمة وغلاف خلاب هي الرواية الأولى للشاعرة المغربية “فاتحة مرشيد” بعد أربعة دواوين شعرية هم “إيماءات”، “ورق عاشق”، “تعال نمطر”، “أي سواد تخفي يا قوس قزح”، وبهذه الرواية تسهم الكاتبة في زيادة قائمة الشعراء الذين تحولوا من الشعر إلى الرواية، وهذه ظاهرة تستحق الدراسة والتحقيق للكشف عن آليات تشكيل الإبداع الأدبي وعلاقة جنسه بطرح الرؤى الفنية، وديناميكية تشكيل اللغة وتفاعلها في كل جنس على حده، والبحث عن المضامين الواحدة وكيفية تشكيلها بين الشعر والرواية، وعن مدى تلاقح كل من آليات البناء السردي في الشعر وآليات البناء الشعري في السرد، وكذلك رصد حساسية العصر، وصلاحية وجدارة أي من الأجناس الأدبية بأن يكون خليقا ليصدَّر كإطار يحوي داخله روح العصر وفلسفته وخطابه الخاص.

وفي “لحظات لا غير” محاولة للقبض على الزمن والانفلات من وطأته والاستسلام لأبديته وسرمديته، والتعامل معه بشيئية وعدم اكتراث في آن، فالرواية تبدأ بنص ما تنتهي به ويتصدرها اقتباس من نهايتها “تريث قليلا أيها الموت أني أكتب”، وهذا حينما تبدأ الراوية/البطلة في كتابة تجربتها مع المجتمع، الحب، المرض، الموت، وهذه التقنية ـ ألا وهي الابتداء بالنهاية أو الانتهاء بالبداية ـ تخرج من تصنيفها كاستباق أو استرجاع ـ وهي التقنيات التي تستخدم في الرواية بالأخص ـ وتدخل في حكم “البناء الدائري” كتقنية مستعارة من الشعر لأن موضع الاقتباس خارج متن الرواية أي على عتبة الرواية، كما تعمدت الكاتبة “التناص” مع أعمال إبداعية أخرى و”الاقتباس” منها في كثير من أجزاء وأحداث الرواية فنرى تناصات مع واقتباسات من “عزت سراييج، روني شارو، رسول حمزتوف، لويس غارسيا نطيرو، فريدريك بيكر، لوركا، ومحمود درويش، نزار قباني وأغاني جاك بيرل، والأمثال الصينية والأمثال المتوارثة بالإضافة إلى بعض المقاطع الطويلة نسبيا للشاعر بطل الرواية أو للراوية الشاعرة، كما استخدمت الكاتبة الحوار كأداة أولية وأساسية لرسم الشخصيات وللتعبير عن اللحظات الشعورية العميقة من خلال أكثر من زاوية رؤية، كما لجأت إلى المجاز كحل سحري للتعبير عن أشد لحظات الحيرة والقلق الوجودي، وطبعا بالإضافة لما يمكن أن نطلق عليه شعرية السرد. واستخدام تقنيات ـ كالبناء الدائري، التناص، الاقتباس، الحوار والمجاز ـ ومضامين ـ كالسؤال حول الزمن والاشتباك مع الموت وطرح الحب كوسيلة وغاية وسبب ونتيجة ـ هي تقنيات ومضامين رافدها الأول أجناس أدبية أخرى غير الرواية كالشعر بالأساس أو المسرح، وقد ظهرت في هذه الرواية على سبيل الاستعارة والتلاقح والتقاطع؛ لتحميل الرواية بحمولات فنية أثْرَت العمل في كثير من الأحيان.

واتساقا مع هذه الفكرة جاء استهلال الرواية على شكل “استدعاء” لذكرى أول يوم قابلت فيه البطلة / الراوية / الطبيبة النفسية مريضها محور الرواية، ممهدة لتداعٍ أشبه بما يحدث في جلسات العلاج النفسي ومن هنا يمكن أن نلمح أن الكاتبة تكرِّس لفكرة الخلاص بالكتابة، ومنذ بداية الرواية نتيقن أن المريض ليس الـ “مريض” وأن الطبيبة كذلك ليست الـ “طبيبة” وإنما هناك تبادل في الأدوار، فقد تحولت جلسات العلاج إلى حلقات صراع بين المريض/ الشاعر الذي كان قد فقد قيمة الحياة وجدواها وأصيب بالاكتئاب وحاول الانتحار وبين الطبيبة التي كانت قد خرجت لتوها من تجربة الزواج التقليدي المنتهية بالانفصال وخلال هذا الصراع المتأجج لا نلمح انتصارا لأحد على حساب الآخر فقد أفضى الصراع إلى زيادة معرفتهما بنفسيهما، ظهر هذا في شفاء المريض من الاكتئاب وعودته إلى كتابة الشعر وبهذا يتسق مع نفسه ومع العالم، وعادت الطبيبة إلى كونها أنثى لتشعر بأنوثتها المفتقدة التي حرمت منها ماديا ومعنويا، وقد عبرت الكاتبة عن عودة هذه الأنوثة بطريقة فنية غاية في الرشاقة والرهافة، واتضح هذا من خلال حجب اسم البطلة منذ بداية الرواية وعدم التصريح به إلا في ص92 وقبل هذا كان يشار إليها بصفتها المهنية وبهذا الحجب والتصريح تجعل الكاتبة من أسم البطلة معادلا أيقونيا لأنوثتها المستعادة .

وترصد الرواية حساسية التعامل مع المجتمع الغربي وثقافته من خلال بطل الرواية العربي الذي ذهب إلى فرنسا لإتمام دراسته واشتبك مع مجتمعها من خلال عدة مناحي قاسية على فكره ووجدانه، كالانضمام إلى لحلقات النقاشية العاصفة، والتورط في علاقة حب مع فتاة يكتشف أنها “مثلية”، مما يكون له أكبر الأثر عليه وعلى نظرته للحياة الغربية وعلى مفهومه للأنوثة وللرجولة التي شعر بها تتهدد من خلال تلك التجربة المريرة، وتسير هذه التجربة بالتوازي مع موقف هذه الشخصية من الأب/ الوطن/ القيمة، فيقول في البداية ” يهيأ لي أنني لم أكره أحدا في حياتي مثلما كرهت والدي” بل يقرر أن يستأصل والدة منه كعضو ينخره السرطان لتستمر الحياة” لكن بعد المرور بتجربته في الغرب يعود ليعرف أن نظرته السابقة إلى الأب لم تكن إلا نظرته هو لنفسه المستغربة المشتتة الحائرة القلقة اللايقينية، ويتجلى ذلك الإحساس في رصده لموقف وهن وكبر الأب “لقد أحسست وأنا أراه في حالة الكبير والوهن، بالخوف من فقدانه قبل أن أحضنه وأبكي على كتفيه كانت نظرته تشي بطمأنينة داخلية …. تخلى عن تطرفه السابق وعانق إسلام الرحمة والمحبة والتسامح وكل ما يشكل الجوهر الحقيقي للعبادة” وفي هذا الرصد الفني لموقفه من الغرب الموازي لموقفه من الأب ومدى التحول الحاصل في الموقف انعكاس شفيف لحالة المجتمع المغربي المتأرجح بين الشخصيتين العربية والغربية ورصد لحالة الفصام بين الوجدان والعقل التي ينتصر فيها الوجدان العربي الحميم على التعقل المادي الجاف . 

وخلال أحداث الرواية ـ التي تتخذ النفس الإنسانية وسبر أغوارها هدفا أساسيا ـ تظهر إشكاليات اجتماعية مصاحبة كمشكلة العلاقات الزوجية الروتينية ومسئولياتها التي عبرت عنها الكاتبة بمصطلح ثقافي أكثر منه فني، فقد آثرت الكاتبة تسمية هذه العلاقة  بـ”مؤسسة الزواج” وناقشت أبعاد هذه المؤسسة ورواسبها على النفس والمجتمع في محاولة منها لتعيد هيكلة هذه المؤسسة بما يناسب روح الإنسان المتحررة، كما التفتت الكاتبة لخصيصة إنسانية معقدة ومتشابكة وهي معالجة السواء بالمرض وكأن الأسوياء هم المرضى وليس العكس، وهذا من خلال مريضها/حبيبها ـ محور الرواية ـ أو من خلال صديقها الثائر القديم.

وبروح شفيفة تجمع بين الصوفية والوجودية في آن كررت الراوية مقولة “إن الخلود ليس الامتداد في الزمن بل هو الامتداد في أعماق اللحظة” وتدعونا هذه المقولة المفتاحية إلى إعادة قراءة الرواية بدءً من العنوان؛ لنبحث عن هذه اللحظات الخالدة/المخلدة لنكتشف أننا لسنا أمام “لحظات لا غير” بل أمام ” خلودات لا غير”.

جريدة الأهرام الدولي” 29 ماي 2007 السنة 131 العدد 43003

Leave A Comment

Recommended Posts