“هوية المرأة بين وهج الذات وعتمة الآخر” في رواية “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد، قراءة الأستاذ عبد الغفور روبيل بالمجلة الثقافية الجزائرية ليوم السبت 2 أبريل 2022.
“هوية المرأة بين وهج الذات وعتمة الآخر”
في رواية “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد
عبد الغفور روبيل
يحمل السرد النسوي بين طياته عدة خطابات موجهة إلى المتلقي والمجتمع بصفة عامة، حيث حاولت المرأة من خلال الخطاب الروائي الكشف عن الحيف الذي يمارس عليها من طرف الهيمنة الذكورية، والنظرة التي ينظر إليها، والطريقة التي يتم التعامل بها معها داخل المجتمع. فالسرد النسوي لا يقف عند هذه الحدود بل يتجاوزها إلى نقد المؤسسة الثقافية والاجتماعية والفكرية، التي قيدت المرأة واختزلت قيمتها في جسدها، خاصة في بؤرة بكارتها كما هو الحال في مجتمعنا، أو الاتجار بجسدها في المجتمعات الرأسمالية الغربية (العروض الاشهارية/ استقطاب الزبائن…)، بل ذهب بعضهم إلى التساؤل هل يمكن عدّ المرأة “إنسان”، وهذا السؤال كان عنوانا لإحدى الندوات بالسعودية، والتي خلصت بالقول أنه يمكن تصنيف المرأة من “الثدييات وليس من البشر”.
إن الرجل في أغلب معتقداتنا هو رمز القوة والطهارة والعفة والفحولة، وهو الذي يسمع له صوته، ويُؤْخذ برأيه، في حين كانت المرأة هي رمز الضعف، والتبعية، والثرثرة، ومجرد مستمعة ولو بشكل نظري. لذا تطرقت فاتحة مرشيد إلى هذه القضية بطريقة إبداعية، تخييلية، نقدية، ساخرة في خطابها الروائي المبثوث في رواية “لحظات لا غير”، لتثور في وجه القوانين الموجودة في المجتمع. حيث ظهرت لنا المرأة في هذا الخطاب هي الساردة، والمعالجة النفسية، والمتحكمة في خيوط السرد والبناء الحكائي، وفي رسم حدود الحبكة… لكنها كانت فاقدة للإحساس بهوية الذات لكونها تدخل في صراع مع الزمن في علاقته بالجسد الذي يترهل ويشيخ، لتجد نفسها على هامش التاريخ والمجتمع، وكذلك في علاقتها بالآخر وبذاتها أيضا المثقلة بعقلية وثقافة المجتمع. فإلى أي حد نجحت فاتحة مرشيد في إعادة الصوت الأنثوي إلى الواجهة؟ وكيف عملت على تصوير الأنثى بوصفها صوتا لا يقل قيمة عن صوت الرجل في المجتمع المغربي؟ وما أهم المرتكزات والمقولات السردية والتخييلية التي وظفتها، لتشكيل هوية الذات في روايتها تلك لتبني عليها صرحها الإبداعي؟.
تعتبر رواية لحظات “لا غير” لصاحبتها فاتحة مرشيد من أهم الأعمال الروائية التي وضعت الذات الأنثى في مرآة التخييل الروائي، كاشفة آهاتها ورهاناتها، وآمالها وآلامها، محاولة إعادة تشكيل هوية الذات الأنثى من منظور ردّ الاعتبار لهذه الذات، وملامسة بواعث تشكل الهوية لديها، من حبكة وأماكن وأزمنة وشخوص، جعلت منها المحرك الأساس للسيرورة السردية لديها في هذا العمل، وسنركز في هذا الإطار على مطاردة مفهوم الهوية وعوامل تشكله من عدمه.
من أبرز الشخوص التي استدعتها فاتحة مرشيد في روايتها هذه، نجد “أسماء” التي حاولت بوصفها “الأنا الساردة” في رواية “لحظات لا غير”، أن تبحث عن ذاتها عبر التذكر، كما يقول بول ريكور “إن الذات تبحث عن هويتها على مستوى الحياة بأسرها”(1)، أي البحث عن الهوية بين الأزمنة، الذي لن يتم إلا عبر تذكر الأيام الجميلة التي قضتها رفقة “وحيد الكامل”، الذي أعاد لها الحياة بفضل حبه لها، حتى جسدها الذي كان شبه ميت، استطاع أن ينبعث مجددا من رماد المعاناة والمرض، بفضل وهج الحب والعشق.
قبل أن تعي أسماء ذاتها وتشرب نبيذ الحياة مع وحيد، فقد عاشت المعاناة والأزمات النفسية، رغم كونها طبيبة نفسية، وذلك بسبب المرض الذي أفقدها أنوثتها، وبسبب زوجها الذي حرمها من حق الأمومة والامتداد، إلى درجة لم تعد تبالي بالحياة وبشبابها، لذا أصبح همها الوحيد هو أن تحيا وأن تعيش ولو بأبسط الأمور، “أجهض أملي بعد عملية الإجهاض التي أجبرني عليها زوجي السابق وأنا لازلت طالبة”(2)، فهذه العملية خلفت مضاعفات تسببت في عقم مكتسب، ف “زوج أسماء” الذي تم استحضاره بضمير الغائب، هو الذي تسبب لها بهذه المعاناة والآلام بسبب سلطته التي يكتسبها من المجتمع ومن المؤسسة الزوجية. وبهذا يكون الرجل رمز السلطة والهيمنة بالنسبة للمرأة، خاصة بالنسبة لأسماء المتمثل في زوجها، لذا حاولت التخلص من هذا الوباء الذي كبل أنوثتها وأجهض أملها في الأمومة بطلبها الطلاق منه، تمردا عليه وعلى قيود المؤسسة الزوجية التي تجعل المرأة تحت السلطة المتحكمة في اتخاذ القرار والاختيار، بل أكثر من ذلك فرض السلطة على جسدها الذي يصبح مملوكا من طرف الرجل، تقول أسماء “أصبحت – بما فعلته بي مؤسسة الزواج وتبعاتها – إنسانة آلية بلا روح ولا وجدان.. إن ضحكت، فبدون رنين، وإن بكيت، فبدون شجن”(3).
لذا كان قرارها الأول أن تنفصل عن زوجها، صاحب السلطة والكلمة الأولى والأخيرة، فطلبت منه الطلاق فرفض، لكن لامتلاكها قرار الفعل والإرادة، رفعت عليه قضية الخلع كالذي رفع عليها نهدها في أحد المستشفيات بباريس، فهي تريد أن تعيش حرة ولو على فراش السقم، لأن المرض كما تقول الذات النصية “أسماء” هو الذي جعلها تتخذ القرارات بعدما كانت تفتقدها وهي سليمة معافاة.
وبذلك أصبح المرض نبراسا وموقدا للذات الإنسانية، حيث يجعل الإنسان قريبا لجوهره وهويته وذاته الحقيقية، مما دفع أسماء إلى التساؤل، أيكون المرض هو الجزء الأكثر سلامة في جسد الإنسان؟.
لقد طفت هنا ثنائية العبودية والحرية؛ العبودية والتبعية التي كانت تعيشها أسماء مع زوجها، والحرية التي منحها المرض، فأسماء أصبحت تمتلك إرادة الفعل ومعرفة ماهية ذاتها، وقيمة الجسد الذي لا يتمثل في الدور الذي يؤديه داخل المجتمع، بل في أساسه الوجودي.
كل هذه القوة والحرية التي أصبحت تتمتع بها أسماء، والتي جعلتها سيفا أمام جبروت الواقع الذي كان يكبلها، دفعها إلى التساؤل، والدخول في حوار مع ذاتها، (أوليس السؤال هو الذي يوقد الوعي ويكسر سلطة المعتقدات والتصورات الجامدة في باطن عقولنا؟) أسماء تتساءل، وهذا يدل على أنها أصبحت تمتلك مشروع التحرر وخيوط بناء المستقبل، ومعرفة ماذا تريد في الحياة ومن أجل من تعيش، والذي جعلها تتخذ قرار إجراء عملية جراحية تجميلية لنهدها، “وهكذا وجدتني أتفق على أمر لطالما رفضته. ما الذي جعلني أغير رأيي؟. أهو عزمي على معانقة الحياة من جديد؟ أهو الذي يصالحنا مع أجسادنا؟ وهل أخضع للتجميل من أجله هو، الذي لم ينظر إلي يوما كأنثى؟ أم من أجلي، مقتنعة أنه لا بد أن نحب أنفسنا لكي يحبنا الاخرون”(4).
لذلك اتخذت القرار بمفردها دون استشارة أحد، لا أمها ولا أصدقائها، فلهيب الوعي بالذات جعلها تدخل في دوامة التساؤل مع الأنا، لتصل إلى نتيجة مفادها أن وحيد هو الذي صالحها مع نفسها، وجسدها، ومع القراءة والقلم، حيث تقول: “سبق أن جربت حصص التحليل النفسي على يد أحد أساتذتي لكنه لم يستطع أن يمدني بالأكسجين الضروري للغوص. وها هو مريض يتخبط في أمواج وعيه ولا وعيه استطاع أن يمنحني الأمان للإبحار بعيدا في محيطات الذاكرة. جعلني أحب نفسي من جديد هو الذي كره نفسه حد العدم” (5).
لتطفو ثنائية متناقضة في الحب؛ إما أن يقتل ويقضي على الذات، كما وقع لأسماء مع زوجها السابق، أو أن يحيي الذات وينشر فيها بذور الأمل والعشق كما وقع في حب أسماء لوحيد.
فالآخر المتمثل في الرجل يظهر هنا في ثنائية متناقضة، إما سلطوي متوحش أمي لا يفقه شيئا في التعامل مع الأنثى ومع جسدها “زوج أسماء السابق”، أو إنسان يهب الحياة إلى الآخرين، ويفقه قوانين العشق وقواعده، ويتقن إشعال لهيب الجسد “وحيد الكامل”. فزوج أسماء لم يكن لديه وقت للوقوف عند عتبات جسدها، ليتأملها أو يعريها، ويسبر أغوار مكنوناتها، رغم أنها كان طبيبا متخصصا في جراحة القلوب، إلا أنه فشل في جراحة قلب أسماء والفوز به إلى الأبد. لكن هذا الجسد سيشتعل حبا وتفيض أنهاره وتنفتح أقفاله برحيق حب وحيد، الذي يجيد الطريق إلى سبر أغوار الجسد الانثوي الذي لديه لغة خاصة، تقول أسماء عندما وجدت من يفهم جسدها:
“ما كنت أدري أن لي أنهارا بهذا العطاء.. تفيض على جنبات الروح فتنعشها.. تورق البراري ويستحيل الكون جنة وأستحيل عروسا.. عذراء كنت قبل اليوم… وما نجح زوجي السابق خلال عشر سنوات على فراش واحد، في فتح قلعة الجسد، ليس كل رجل فاتحا” (6).
يظهر أن أسماء عاشت توترا وتشظيا على مستوى الذات، توتر بين تطلعاتها وتصوراتها المستقبلية مع وحيد، وبين تحقق هذا الحلم؛ أي أن حلم أسماء يتشكل بين زمانين “زمن الرغبة”، حيث كانت علاقتها بوحيد علاقة إبحار دون احتمال العودة، وبين “زمن الواقع” الذي كانت له كلمته الأخيرة في موت وحيد واستيطانه الذاكرة والقلب، فقد ذهب ولم يعد، فأصبحت تنتظره على عتبات الزمن فوق سريرها تسترجع ملامحه، وكلامه، واللحظات التي قضتها معه. لذلك فهوية أسماء لم تظهر بالشكل الحقيقي، بسبب هذا التوتر بين هذين الزمانين، فعوضت أسماء نقص ومحدودية الجسد، بضامن الخلود التجريدي بفعل القراءة والكتابة اللتان لا تعترفان بالحدود ولا الزمان.
الذات بين سندان التطلع ومطرقة التحقق.
الذات تريد وتتطلع والواقع يفرض سلطته وقوته، وبين هذا وذاك تتحقق هوية الذات أو تتفسخ، فالذات تبني في باحة مخيلتها أبهى الصور من الأحلام والآمال ذات أجنحة بيضاء. رغبة الذات تريد أن تكون مثلا (إنسانا خارقا/مشهورا/غنيا /فيلسوفا)، ما دام الحلم لا يكلف شيئا من التعب، فالرغبة لا تعترف بالحدود الزمكانية الموضوعية، بل تدمرها وتقضي عليها، غير مكترثة بمحدودية الإرادة والجسد والوسائل التي تمتلكها في تحقيق أهدافها، لكنها في الأخير تجد نفسها أمام إرادة الواقع الذي يجعل الرغبة تصطدم بجدار شروطه الموضوعية، التي لا تقبل تحقيق ندى هذه الرغبة إلا تحت رحمة مطرقته، حيث لا يظهر ضوء هذا التوتر بين التطلع والتحقق إلا بفعل الذاكرة التي تعد وسيطا بين الأزمنة (بين الماضي والحاضر)، تذكر ما كانت تطمح إليه الذات في الماضي أمام ما وصلت إليه الذات في الحاضر. وبهذا تكون الذات الموجودة في الحاضر مزيفة، تبحث عن ذاتها الحقيقية في المستقبل عندما لا تصل إلى ما كانت تطمح إليه.
فقد كان حلم أسماء رهينا بالرجل، أي أنها أرادت رجلا تحبه ويحبها على امتداد العمر، رجل يختزل رجال العالم، وهي تختزل في عيونه كل نساء العالم، إلا أن هذا الحلم لم يتحقق مع زوجها السابق، الذي ولد لديها معاناة “إحساس فظيع أن نمارس الحب مع شخص لا يخلع قفازاته المطاطية لملامستك. أكان يحبني ؟ “(7).
رغم هذه الانكسارات وخيبات الأمل التي عانت منها أسماء في علاقتها بزوجها السابق، والتي قلمت أجنحة أحلامها الوردية معه، عندما أحست أنها أصبحت مجرد آلة بدون شعور ولا إحساس في إطار مؤسسة الزواج، فطلبت الطلاق منه، فكان لها ذلك.
أحبها وحيد وأعاد السعادة إلى قلبها، خصوصا عندما قال لها “كان لي مع سوزان تواطؤ الروح، ومع بعض الأصدقاء تواطؤ الفكر، مع عشيقاتي تواطؤ الجسد. معك فقط أحس بامتلاء الروح والفكر والجسد. وهذه حالة لا نصادفها إلا نادرا، وقد نبحث عنها عمرا بأكمله دون أن نحظى بمصادفتها. يهيأ لي أنني كنت أبحث عنك في كل امرأة عرفتها”(8)، فتعلق أملها على أن تعيش العمر كله تنظر إليه وهو يكبر إلى جانبها، وهو كذلك، تتقاسم معه الأفراح والمعاناة، أن ينظر إليها وهي في سن الشيخوخة ويقول لها “لازلت جميلة”.
إلا أن هذا الحلم أجهض بمطرقة الواقع التي كسرت زجاج تطلعات أسماء، عندما حضر ضيف ثقيل يعيش بينهما، والمتمثل في مرض السرطان الذي أصيب به وحيد، واضعا بذلك حدا لحياته، وقاتلا لأنغام أحلام أسماء التي كانت تراود مخيلتها على البقاء مدى الحياة مع وحيد .
كل هذا يظهر التوتر بين رحى التطلعات والتحققات؛ أسماء أرادت أن تعيش العمر كله مع من تحب غير مكترثة بالحدود الموضوعية (الموت/الانفصال)، لكن للواقع سلطته على هذه الاحلام يفرض كلمته الأخيرة، المتمثلة في انشقاقها عن زوجها السابق، وموت وحيد، لتظهر هوية أسماء متشظية بين الفرح أحيانا والحزن أحيانا أخرى، مما يدل على هشاشة هوية أسماء في ظل التوتر الحاد بين التطلع والتحقق على ضوء الذاكرة، في ظل تقويمها للهوية في الماضي والحاضر. وبهذا ظهرت الذاكرة بكونها عزاء للهوية التي لم تتحقق في الواقع، وبالتالي تكون الذات الموجودة في الحاضر غير مكتملة وواضحة، تبحث عن ذاتها وهويتها الحقيقية في المستقبل “بفعل الكتابة” الذي سيكون السلاح البديل لتحقيق الذات وملء فراغها.
المجلة الثقافية الجزائرية
السبت 2 أبريل 2022