0%
Still working...

نفس الشعر وحبكة الرواية التي لا تنتهي

نفس الشعر وحبكة الرواية التي لا تنتهي

حاورتها: نور الهدى غولي

: تركت الشعر إلى الرواية.. هل منحك المتن الروائي مساحة أخرى كنت تنشدينها؟

: أجل، عانقت الرواية يوم أحسست أن هناك صخبا بداخلي أكبر من أن  يمتصه الشعر. جاءتني الرواية دون استئذان وأنا أخرج من تجربة مريرة،  بعد وفاة والدي في ظروف صعبة، كتبت خلالها قصيدة رثاء طويلة تحت عنوان “يوميات الحزن بجدة”، لكنني أحسست ولأول مرة أن القصيدة بالرغم من عمقها وقوتها لم تستطع أن تفرغني من السيل الذي كان يجرفني. ساعتها، أصبح يلزمني فضاء أرحب ومساحة أوسع من تبددي واختناقي بفوضاي الداخلية.

الرواية حلم كل كاتب، لأنها الجنس الأدبي الذي يستوعب كل أشكال التعبير وأنواعها من شعر ونثر ورسائل.. وغيرها. جنس مفتوح على كل الاحتمالات والتوقعات. قابل للإضافة وللسفر البعيد.

: سيكون من السذاجة اعتبار أن كل ما يكتبه الكاتب هو محصلة لأشياء عاشها. لكن في نصك “لحظات لا غير” تتركين للقارئ بعض التفاصيل التي قد تشي بأن للحكاية جانب من الواقع. إلى أي مدى يصح معك هذا؟

: لا يستطيع أحد ( ولا حتى الكاتب نفسه) رسم حدود فاصلة ودقيقة بين الواقع والخيال، بين الوعي واللاّ وعي في أي رواية كانت.

يقول  ميلان كونديرا ما مفاده:

“بالطبع كل ما تكتبونه متعلق بحياتكم. الرواية تنبثق من انفعالاتكم الشخصية ولكنها لن تأخذ مداها إلا إذا قطعتم الحبل السري مع حياتكم الخاصة وبدأتم في مخاطبة الحياة بصفة عامة”.

وإذا كان الغرض من سؤالك هو معرفة إن كانت الرواية سيرة ذاتية أم لا،  فسأقول بأنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى الأكاديمي للكلمة ولكنني لا أستطيع أن أنكر تسرب بعض من ذاتي في ذوات الشخوص التي تؤثث الرواية. لأنني بكل بساطة أعتقد أن كل رواية تحمل في طياتها سيرة ذاتية وكل سيرة ذاتية معلنة هي أكذوبة. إذ كيف يمكن أن نتق في أطياف الذاكرة ومناورات اللا وعي؟ وهل نعرف أنفسنا بحق حتى نتحدث عنها بكل موضوعية؟ السيرة الذاتية تشريح ولا أحد يستطيع تشريح نفسه بنفسه. ومع ذلك لا كتابة خارج الذات.

ثم ما تضيف للقارئ معرفة إن كانت الرواية من نسيج الواقع أم الخيال أم كلاهما. أليس المهم لديه أن يستمتع بحكاية، أن يعيش معها حد التماهي؟.

: هل كنت تكتبين وتخزنين نصوصك بعيدا عن أعين متطفلة أم أنك كنت تنشرين للفضاء أي نص تكتبينه وما علاقتك بنصوصك؟

: خزنت كثيرا بحيث بدأت الكتابة منذ الصبا الأول ولم أخرج إلى عالم النشر إلا من سنوات قلائل. لا أنشر في الجرائد والمجلات أحتفظ بنصوصي إلى حين صدورها في كتاب. أعود إليها مرات. فما دامت لم تنشر بعد إلا وهي قابلة للتغيير والتنقيح.

علاقتي بنصوصي كعلاقة الأم بأبنائها تحتفظ بهم حتى السن التي يشبون فيها عن طوق الحنان ويمكنهم الانفصال عنها وخوض حياتهم الخاصة.

: هل تعتقدين في قدرة أي شاعر غير معروف أن يضع اسمه الآن وسط الأسماء الشعرية الكبيرة مهما أبدع من نصوص؟ أم أنه يحتاج إلى ذات التراكم الذي صنعته الأسماء الكبيرة ليستقر في نفس مكانتها؟

: استطاع رامبو رغم حداثة سنه من أن يرسخ اسمه وأن ينقطع عن الكتابة بعد زمن وجيز. ما يهم في مجال الإبداع هو الكيف وليس الكم. فتواجد الشاعر في الساحة لسنوات لا يجعل منه بالضرورة شاعرا جيدا وقد يظهر اسم بقوة ويفرض وجوده منذ بداياته.

هذا لا يعني أنني لا أومن بتراكم التجربة، فكل تجربة تستفيد من معاشنا ومن قراءاتنا ومن صقلنا لها. ولكن لا بد من وجود شيء أولي يدعى الموهبة.

ثم إن التراكم الحقيقي يكون داخليا.

: لا يبدو غريبا أبدا أن يكتب طبيب نصا مميزا..ذلك أننا اعتدنا على الكثير من النوعية الأدبية من طرف الأطباء. هل ترين تفسير لهذه الخصوصية؟

: عموما لا يكفي التكوين المنهجي في الآداب ولا التمكن من اللغة لكي يصبح الإنسان مبدعا.

الذين جاؤوا الإبداع من فضاءات أخرى كالطب مثلا أو العلوم لا يؤهلهم  تكوينهم المنهجي، مبدئيا، للكتابة. وهم مطالبون أكثر من غيرهم بإثبات قدراتهم الإبداعية، وتمكنهم من أدوات الكتابة.

وعليهم قهر التصنيف السائد الذي ينعتهم بالأطباء وسط الأدباء وبالأدباء وسط الأطباء. وهم في حقيقة الأمر أدباء يمتهنون الطب كما يمتهن آخرون التعليم وغيره. ولهذا لا يصمد منهم إلا من هو مبدع حقيقي يحلق فوق العادي والمسموح به.

ربما هذا ما يفسر النوعية الأدبية التي أشرت إليها.

: هل ترين أن لك نفسا طويلا في الكتابة أم أن الجملة عندك مختزلة ومكثفة؟

: أميل إلى الكتابة الشذرية في الشعر وإلى الجمل المكثفة لدرجة أنني كنت دائما أظنني غير مؤهلة لكتابة الرواية لما تتطلبه من نفس طويل. لكنني اكتشفت مع تجربة الرواية أن النفس الطويل يُكتسب مع الممارسة ثم قد يكون عبارة عن مجموعة أنفاس قصيرة، كتلك البرك الصغيرة التي تنضم إلى بعضها لتصنع بحيرة.

: ماذا تحضرين الآن بعد الإنتاج الأدبي الأخير الطازج؟

: أنا بصدد تنقيح ديوان شعري جديد نشرت منه _ وهذا كان استثناء _ قصيدة “يوميات الحزن بجدة” التي أشرت إليها في بداية الحوار.

وأعتبره محطة مختلفة نوعيا في مساري الشعري.

جريدة “الجزائر نيوز”، 8 يوليوز 2007
www.djazairnews.info