يحيى بن الوليد:
لم تكن الدكتورة فاتحة مرشيد، وبالنظر إلى السائد من المنتوج الأدبي، وفي المغرب ابتداء، في حاجة إلى مزيد من الوقت لكي تعلن عن ولادتها الثانية، وهذه المرة، في خريطة الرواية مترامية الأطراف، التي اهتدت إليها بعد انغراس متماوج في دنيا الشعر التي ولجتها بعملها الأول “إيماءات” (2002) الذي أفضى بها إلى “ورق عاشق” (2003) و”تعال نمطر” الذي سيظهر في العام نفسه الذي سيظهر فيه “أي سواد تخفي يا قوس قزح” (2006). وجميع هذه الأعمال تتكشف عن نوع من تلك “الشرارة” أو “النبرة” المتحدرة من حقيبة الجسد المحموم بالإبداع الصامت، وكل ذلك أيضا في المنظور الذي لا يفارق دلالات “النص المؤنث” الذي هو قرين “الكتابة النسائية” بمعناها الحائم والعائم.
ولا يبدو غريبا أو نشازا أن تحط الشاعرة، وإن بعد رحلة قصيرة في عالم الشعر، في الجنس أو النوع الروائي؛ وهو مسلك انتهى إليه العديد من الشعراء من المكرسين وغير المكرسين في العالم العربي. وقد أثارت الكاتبة، هنا، وفي انعطافتها المحمودة نحو النوع الروائي، أن تواصل انغراسها في نص “الأنوثة” الذي انتظمت في إساره أعمالها الشعرية سالفة الذكر… لكن بدافع مضموني مغاير لا يمكن التعاطي له من خارج النوع الروائي الذي يتيح ما لا تتيحه القصيدة الشعرية البارقة على مستوى التقاط النبض المتشظي وعلى مستوى الخوض في التقاط ذبذبات العلاقات الاجتماعية الموغلة في التراوح والتعانق والتراكب. ولعل هذا ما يفصل ما بين الرواية والشعر، لكن دون أي تقليل من أي طرف لفائدة طرف آخر في سياق النظرة القمعية التراتبية للأنواع الأدبية، وخصوصا إذا ما ذكرنا بما كان قد ذهب إليه هايدجر من أنه في كل شعر عظيم يوجد شعر عظيم. وهي الفكرة التي سعت رواية “لحظات لا غير”، وبـ”إرادتها الشكلية”، إلى التلويح بها.
وعلى الرغم من “النبرة المغربية” لنص “لحظات لا غير”، ومن حيث هي نبرة مضاعفة طالما أن أي نص محكوم بالجغرافيا الثقافية التي ينبثق منها، فإنه ثمة ما يجعلنا نصل اللحظات بالأفق الروائي الذي راحت تنتظم في سياقه المتدافع نصوص روائية حظيت بتداول إعلامي ملحوظ كما في حال “بنات الرياض” لرجاء عبد الله الصناع و”برهان العسل” لسلوى النعيمي وسواهما من بنات جنسهما من الكاتبات والروائيات، لكن دون التغافل عن الروائية الجزائرية أحلام مستغانمي التي فجّرت هذا النمط الكتابي الذي كان قد ساد في بيروت في ستينيات القرن الماضي كما لا ينبغي أن نتغافل عن ذلك. وأهم ما يميز النمط الروائي، وفي انفجاره الراهن، هو سنده الكتابي الممزوج بنشيد البوح والتسارر الذي يبلغ، في أغلب نماذجه، حدا بعيدا على مستوى الجرأة في التعاطي لموضوع المرأة المحاط بأدغال الذكورة وأسلاك البطريركية الشائكة. هذا وإن كانت الكاتبة فاتحة مرشيد آثرت، في هذا السياق الجديد/ القديم، أن تنأى بنصها عن لوثة الجرأة لاعتبارات تبدو لنا “اجتماعية” جنبا إلى جنب حرصها على نهج تسريب الأنوية الدلالية بدلا من تجزيئها وتفصيلها. ومن ثم منشأ “الأسلوب البرقي” الذي يكاد يكون علامة مائزة وغالبة في التيار الروائي النسوي الجديد.
ولا ينطوي عنوان العمل “لحظات لا غير” على أي دلالة من دلالات المفارقة والتعارض والانشقاق التي يلهث وراءها دعاة “التجريب” الذي كثيرا ما يلتبس بـ”التخريب” كما قال الشاعر المغربي الراحل والمنسي عبد الله راجع. فالكاتبة تضعنا بإزاء عنوان “سمح” و”أتي” بلغة الناقد العربي القديم. عنوان يمكن تأطيره ضمن خط الرواية الساعي إلى التقاط “اليومي” و”العابر” و”المطرح”، دونما أي نوع من الرغبة في التقاط “المستحيل” و”المنفلت”. وكل ذلك في المنظور الذي يتكشف عن تلك العلاقة المتشابكة مع نص الواقع عبر إواليات التمثيل الذي يتقوم على المطابقة لا المخايلة أو التصريح لا التلميح.
وقد آثرت الرواية، بعلائقها اللغوية العارية الموازية لعلائقها الإنسانية الصامتة، أن تخوض في الموضوع ذاته الذي راح يستأثر بالعديد من النصوص الروائية والسيرذاتية والمذكرات والمحكيات واليوميات والشهادات… إلخ. ونقصد إلى موضوع “الاعتقال” الذي كان قد طال مرحلة السبعينيات بأكملها، وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق ما كنا قد عبرنا عنه، وعلى مستوى دراسة موضوعة أو مستقلة، بـ”الكتابات ما بعد السجنية”. فالبطل، في نص “اللحظات”، بدوره كان منخرطا، وعبر “التلمذة”، في الخط الأمامي من المواجهة الذي كان يعبر عنه التيار الماركسي الأبرز والأشهر (المعروف بتنظيم “إلى الأمام”) في تلك المرحلة الصاخبة والساخنة والمفصلية في تاريخ المغرب المعاصر. وكل ذل ذلك في المدار الذي كان لا يفارق مطلب “الدولة الوطنية” التي كانت لا تفارق بدورها، وعلى صعيد “نعيم الإيدويولوجيا”، “الدولة اليعقوبية”، وكل ذلك في إطار من “الأحلام” التي كانت حصيلة “التموضع” (إذا جاز مصطلح سارتر) في “اليسار” بمعناه “المطلق”. المعنى الذي كان يلتبس، في أحيان كثيرة، بـ”الحقد الإيديولوجي” على كل ما عداه وسواء على مستوى العلاقة العمودية الصدامية مع الدولة بـ”أجهزتها المخزنية” المباشرة والقامعة أو على مستوى العلاقة الأفقية مع بعض الأطياف الدينية والسياسية المتصاعدة.
فقد كان الانتماء لـ”اليسار”، في تلك الفترة، عملا يسارع نحوه، وكان عملا يمتزج بـ”الحظوة” كذلك. فاليسار كان هو القضية، والقضية كانت هي اليسار. يقول البطل في هذا الصدد (ونستحضر النص على طوله لعدم قابليته للتلخيص): “حظي أني كنت من جيل عانق القضايا الكبرى لزمنه قبل أن يبلغ النضج الضروري لاستيعابها. جيل تعطش للمعرفة وطرح الأسئلة. كان لي حينئذ صديق يدعى إبراهيم يكبرني بثلاث سنوات، طالب بشعبة الفلسفة بالرباط. نلتم حوله، كلما جاء في عطلة نهاية الأسبوع لزيارة والديه، كما يلتم مريديون حول شيخهم.. نناقشه بجدية، يصحّح معلوماتنا، يفتح عيوننا وأفكارنا على العالم. يمدّنا بكتب الفلسفة والاقتصاد والآداب. عرّفنا بالماركسية، بالفكر بالشيوعي، بنيتشه.. وبالقضية الفلسطينية. كان ينتمي إلى تنظيم يساري يدع “إلى الأمام”. استيقظنا واحدا واحدا ونحن فخورون بالدور العظيم الذي نلعبه للدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام. نلتقي في سرية تامة ونوزّع المناشير في المؤسسات التعليمية، نتقدم صفوف الإضرابات الطلابية مثل الأبطال” (صص22ــ 23). ولعل ما تجدر ملاحظته، هنا، أن حجم الأحلام كان أكبر، بكثير، من حجم الوعي السياسي. وتلك هي حماسة الشباب في تلك الفترة التي طبعها الزئير والهدير وأحلام التغيير والثورة… إلخ. يقول البطل: “كان لنا هدف وأمال وأحلام كبرى، أكبر من وعينا السياسي آنذاك” (ص23). ولعل هذا ما يندرج في نطاق ما كان قد عبّر عنه عبد الله العروي، في كتابه “العرب والفكر التاريخي”، وفي سياق النقد الصارم الذي وجهّه لـ”المثقف الإيديولوجي”، بـ”النتف الماركسية”.
ولم يكن غريبا أن يصطدم البطل، وبسبب من توجهه الإيديولوجي المعلن والزاعق، مع والده. يقول موضحا: “زاد نشاطي السياسي من حدة صراعي مع والدي الذي غرق في تطرفه الإسلامي. كان يهون عليه كل شيء إلا كوني شيوعيا، كان يقول لي “ليتك كنت لصا أو مجرما أو معوّقا أو مريضا أو ميّتا حتى” (ص23). وليس من شك في أن الأب، هنا، “جماعي” و”رمزي”… وأنه دال على مدلول النمط العقائدي الديني الذي كان وقتذاك لم يبلغ درجة الهيمنة على “القوة المحايثة” للحقل المجتمعي/ الثقافي. وحتى إن كان هذا النمط لم يبلغ الدرجة سالفة الذكر فإنه شكّل حائطا سميكا لامرئيا عمّق من عزلة اليسار وانسلاخه ــ بالتالي ــ عن القاع المجتمعي جنبا إلى جنب العنف الدولتي الاستئصالي تجاه اليسار نفسه في سياق استراتيجية “الدولنة” وتسييج المجتمع. مما دفع باليسار، في أطيافه المختلفة، إلى الاستقالات الفردية والجماعية وعلى إيقاع من الخيبة الفولاذية بل والمرض الذي بلغ حد “العاهات الجسدية” التي نجمت عن وجبات “الرطوبة” و”التعذيب” في أقبية السجون والمعتقلات السرية موازاة مع الاختلال النفسي الناجم عن الخيبة سالفة الذكر.
وحتى إن كان البطل (وحيد) قد نجا من “الإقامة” بين “أسوار” أو بالأحرى “أنياب السجن” فإنه بدوره انتهى إلى الإقامة في فكرة الانتحار. وقبل ذلك تجدر الملاحظة، وهذا موقف مكرور في الكتابات ما بعد السجنية، إلى أنه لم ينج من الاعتقال إلا بسبب من معلمه إبراهيم الذي صمد صمودا بطوليا بل وصمّم على أن يذوق أصنافا شتى من التعذيب من أن يشي بأي اسم من أسماء المجموعة. ومن ثم لم يجد وحيد بدا من أن يحلّق، ووحيدا، إلى باريس لاستئناف الدراسة موازاة مع استئناف النضال لكن في مجالات أو جبهات مغايرة كالحرية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والعقيدة وحرية الإبداع والحق في الاختلاف… وغير ذلك من المجالات التي لم تكن قد امتدت أصداؤها إلى المغرب الذي كان النقاش فيه لا يزال متمحورا حول الدولة الوطنية.
وكانت باريس، حتى الفترة التي نزل فيها البطل ما تزال، وإن من بعض الوجوه “عاصمة العالم” بتعبير فالتر بنيامين، وملتقى المنشقين والمقتلعين والمنفيين والمتشردين والشيوعيين،،، إلخ. والحديث عنها هو حديث عن “الغرب” الذي يعتقد في جدوى الحرية والاختلاف والتسامح… مما يصدم “الشرقي” القادم إليها بجراح “التأخر التاريخي” بتعبير العروي. وأول ما يصطدم به الشرقي هنا، هو المرأة المتحررة والمنتشرة في المجال العام. وكل ذلك في المدار الذي يجعل الشرقي يتمنى لو كان لكل نساء الغرب فم واحد لكي يقبّله وبالتالي يستريح إذا جاز أن نحور عبارات الشاعر الإنجليزي.
وفي الحق لم يجد البطل صعابا كثيرة على مستوى التأقلم مع مناخ باريس، المغاير، جذريا، لبلده الذي كان لا يزال غارقا في “التقليدانية” إذا جاز المفهوم الجامع للمؤرخ المغربي الذي سلفت الإشارة إليه قبل قليل، وخصوصا من ناحية المرأة التي تشكل اختبارا عسيرا لـ”أنساق التقليدانية المفترسة” للشرقي. ومرد ذلك إلى مناخ السبعينيات المتحرر نسبيا والذي كان البطل وحيد قد تشبّع به في بلده المغرب الذي كان قد نال قسطا وافرا من اللغة الفرنسية حتى وإن كان هذا البلد لم يبلغ أن يكون “فرنسا الثانية” مقارنة مع الجزائر. وفي هذا السياق سيتعرف إلى ماري، بل سيحبها من أول وهلة وسيأخذ يرى بـ”عينيها” “باريس الفن”، تعيينا. وكل ذلك قبل أن يكتشف “سحاقيتها”، مما سيخدش من “نرجسيته” التي هي نرجسية ذلك العربي الذي لم يأت، وبالضرورة، إلى باريس، الغرب، “غازيا” بـ”عضوه الجنسي” على نحو ما نجد في بعض الروايات التي جعلت من الغرب موضوعا لها. والبطل، وبالنظر إلى أنساقه الشرقية المتكلسة، وهويته الكبسولية، لا يمكنه أن يرقى إلى النظر إلى “السحاق” باعتباره “اختيارا” أو “فعلا ثقافيا” دالا على استيعاب “الآخر الخارجي والهامشي” كما يدرس ذلك النقد الثقافي أو باعتباره “أسلوبا” لـ”تنظيم الذات” كما يتصور دارس “الجنسانية” الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. لقد استلخص فيه “إهانة” لـ”النحن” أو لـ”الذات العربية” وقبل ذلك استخلص فيه “عجزا جنسيا فاضحا”. و”الرجل العربي”، كما تحسم الرواية، “يحمل من إرث القبيلة ما يجعله يفضل الموت على أن يصبح عاجزا جنسيا أمام المرأة” (ص30).
وعلى إيقاع “مكانك حيث زوجتك”، تبعا لمعزوفة جحا، سينسج البطل، ومن جديد، وعلى إيقاع من جرح “السحاق”، علاقة زوجية مع فرنسية أخرى تدعى سوزان. وأهم ما سيميز هذه العلاقة أنها ستساعد البطل على إتمام دراسته الجامعية، والأهم أنها ستساعده على الإقلاع عن الكحول التي أدمن التعاطي لها. وكل ذلك في إطار من فيوض “الكرم العاطفي” الشبيه بالكرم الذي تغدقه الأم على ابنها.
إجمالا فالرواية، ومن ناحية البطل تحديدا، وفي علاقاته بالمرأة الغربية تعيينا، لم تبلغ، على مستوى المسلكيات المميزة للبطل، حد “العدوانية الجنسية” الذي سقطت فيه الكثير من الروايات العربية/ الشرقية السابقة، وخصوصا تلك الروايات لم تخرج عن فكرة الصدام بين الشرق والغرب التي سادت في الخمسينيات الصاعدة. وهذا موضوع عالجته، وبدقة منهجية ونظرية فائقة، الدراسات المنتظمة في دائرة ما يعرف بـ”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” التي تصدت للاستشراق الكلاسيكي.
وربما أمكننا أن نرد هذا المسلك، النبيل، إلى “روح الشاعر” الذي تحلى به البطل؛ وهذا جانب آخر، ومهم، ينضاف إلى الجانبين الآخرين الدالين على البطل ونقصد إلى جانب المناضل وجانب الأستاذ الجامعي. والرواية لا تفصح عن البدايات الأولى لهذا الشاعر ولا عن تشكلاته وتعثراته الأولى على سلم الشعر الصعب. وقد تمّ التنصيص عن الشاعر في أول مقابلة لوحيد مع الطبيبة النفسانية أسماء التي ستسعد، كثيرا، ومنذ أول لحظة، لمقابلته في عيادتها، لأنه من المصادفة النادرة أن يزور شاعر طبيبة نفسانية ولا سيما إذا كان شاعرا مستفزا مثل وحيد كما تصفه.
والظاهر أن التردد على الطبيبة كان معدودا، ولم يشغل إلا “لحظات لا غير” تبعا للعنوان المطابق. وقد تمحورت المقابلة حول موضوعين متعينين أولهما كان حول فكرة “الانتحار” التي أخذت تراود البطل، والثانية حول انقطاعه عن الكتابة. وفي سياق استخلاص دواعي الانقطاع عن الحياة والكتابة (فكرة الانتحار المزدوج) يخلد البطل إلى البوح، المقتصد، بعلاقته بالمرأة والشعر والكتابة. والخلاصة، هنا، أن البطل، ورغم فكرة الانتحار، لم يبلغ حد الانشطار والانقسام في دلالة على الذات المنشطرة والمنقسمة على ذاتها، لكن دون أن يبلغ هذا التشظي أو الانقسام حد التمزق المطلق أو الاكتئاب الأسود الذي يفضي، ومن باب علاقة السبب بالنتيجة، إلى الانتحار الأرعن. بل إن هذا الانتحار لا يعدو أن يكون “فكرة” لا يظهر أنها ضاغطة بقوة على البطل إلى ذلك الحد الذي يستنزفه ويستخرجه بالتالي من عنقه.
غير أن أهم ما يميز الرواية، وعلى مستوى الحكاية، هو “منطق التحول” بلغة الرطان النقدي البنيوي للستينيات موازاة، وهذه المرة على مستوى السرد، مع “التناوب” بلغة الرطان نفسه. ومن ثم منشأ “حكاية الطبيبة” الموازية، عبر تقنية “المونتاج الموازي” العائمة، لحكاية وحيد الذي وضع ذاته بين يديها. ومصدر الثقل كما أسلفنا أن “المريض” شاعر، وصاحب ديوان “شظايا الشمس” في دلالة على التشظي الذي أشرنا إليه.
وأول ما يلفت الانتباه، وفي أول بادرة دالة على معاكسة العلاقة، وعلى طريق منطق التحول سالف الذكر، أن المريض سيدفع الطبيبة إلى أن تبحث عنه في شبكة الاتصال الدولية التي لم تترك شيئا غامضا. وكل ذلك في المنظور الذي سيفضي بها، وفي إطار من تنامي أو تصاعد حدة منطق التحول، إلى أن تتساءل حول “الغذاء الروحي” الذي لا يتوفر عليه الطبيب. وصفوة التحول، هنا، أن المريض سيخاطب الجانب الصعب في الطبيبة؛ ونقصد إلى جانب “الأنوثة”. وبما سينجم عن هذا الخطاب من مفعول سيبلغ حد الزواج منها الذي سيكلفها التفريط في مهنتها بسبب من “مقاضاة” (مقاضاة أخلاقية) سوزان لها. الطبيبة التي كانت بدورها قد انفصلت عن زوجها الطبيب الجراح بعد عشر سنوات من الحياة الزوجية لم تشعر خلالها أبدا بأنه يعاملها من قلبه. فهي تقر بما تسميه “الفشل العاطفي” الذي أفضى بها إلى وحيد الذي سيفارقها بدوره بعد أن أخذه وحش الموت إلى مكان اللاعودة عندما عبث داء السرطان الخبيث برئتيه. وهو الداء نفسه الذي فطنت إليه الطبيبة أيضا، لكنها تمكنت من التخلص منه بعد أن بترت نهدها ودون أن يخدش ذلك الإحساس بأنوثتها. الظاهر، هنا، أن الطبيبة تخرق قاعدة المحلل النفسي الذي لا يستطيع “النظر فوق الرحم” في دلالة على العبارة الرومانية الشهيرة: “لا يرى للإسكافي أعلى من الحذاء”. فقد حادت، في حال وحيد، عن جادة “الصواب المهني” أو “فن المداواة”.
غير أن المرض لا يخلو، هنا، من “دافعية” أو “قوة” كما تتحدث الرواية في أكثر من موضع. فقد يكون هذا الأخير “حافزا” على الإبداع، وكل ذلك في المنظور الذي يجعل من “الكتابة” نشيدا لمجابهة “الموت” الذي يلتبس بالصدأ الذي يصّر على اقتلاع جوهر الإحساس الكامن في الإنسان، ذلك الجوهر الذي يضمن لهذه الأخيرة نوعا من الانتشار والسريان في نص العالم والوجود. وفي الحق فإننا لا نألف، في الرواية، على ما يدل على الإبداع بمعناه التفصيلي التجزيئي، غير أن ذلك لا يحول دون الحديث عن الإبداع بمعناه العام والخلاصي في الوقت ذاته. وكما أن المرض، في النص، بغير معناه الباطولوجي الدرامي. المرض، في الرواية، “إحساس” و”مرحلة” كذلك. وفي هذا السياق أمكننا الإشارة إلى حادث القتل بسلاح حاد الذي تعرضت له الشيخة الضاوية التي كانت قد قالت للطبيبة: “قالت لي مرة: “الشيخة عندما تكبر تصبح كـ”البندير” المثقوب الذي لا يطرب أحدا. فلولا ولد الحلال، الحاج المعطي، الذي لم ينس الأيام الجميلة وتكفّل بعلاجي لمت من الحسرة والغُمّة السوداء” (ص106). و”البندير”، هنا، في إشارة إلى غناء “العيطة” المنسي والمحتقر في الثقافة العالمة مع أنه منغرس في القاع الاجتماعي: في الأسواق والمواسم الدينية والأعراس والحفلات… إلخ. وكما أن شيخة، في حجم الضاوية، لا ينفع معها “الطب الغربي”، إذ لا بد من تكييف “الطب الإثني” في حالها التي هي حال المرض الذي يرتبط، وعبر “آليات مخصوصة”، بمجتمع دون آخر.
إجمالا فالرواية تعيد إلى الأذهان المناخ الرومانسي الذي ساد في فترات سابقة. غير أن “الرومانسية”، هنا، بغير معناها المنهجي المترهل الذي ينص على المبالغة في تصوير المكابدة وتقريب الألم والمعاناة. إنها رومانسية “النهد النابض” لا “النهد المجرم”. فالكاتبة تترفع عن “البورنوغرافيا” التي صارت، في أذهان العديد من كاتبات زماننا، مرادفة لـ”الحداثة” و”ما بعد، وبعد بعد، الحداثة”. رومانسية الكاتبة ذات بعد إنساني خليط، إضافة إلى أنها لا تخلو من أصداء بوفارية نسبة إلى مدام بوفاري التي عنون بها فلوبير إحدى روايات. ودون التغافل عن أنها رومانسية لا تخلو من أصداء عولمية كذلك، وتكمن هذه الأصداء في الإفادة من التقانة أو الثورة الإلكترونية في مجال الاتصال.
على أنه لا ينبغي أن نحصر الرواية، وعلى مستوى المرجعية الداعمة لها، بل والمنتظمة في إطارها، في الرومانسية بمفردها. وبالنظر لمناخ السبعينيات الذي تنغرس فيه المراكز الدلالية للرواية لا يبدو نشازا أن تفصح هذه الأخيرة عن الأصداء الوجودية التي كان قد أشاعها الفيلسوف الفرنسي الأبرز والأشهر جان بول سارتر على مدار الستينيات الصاعدة. ولقد تجاوز تأثير هذا الأخير مجال الذهن نحو مجال السلوك، لقد كان له تأثير واسع في حياة الشباب بسبب من تشديده على إشاعة ثقافة الحرية ومناهضة الاستعمار وعلى أن يضطلع المرء بدور المثقف الحاضر في الشارع ودور الشاهد على العصر.
ولا تتأكد السارترية من خلال الإحالة على سارتر فقط، وإنما من خلال الأنوية الدلالية التي تلوي بالرواية. هذا بالإضافة إلى أسماء أخرى ميّزت المرحلة مثل الشاعر المجنون والمغني اللاهب جاك بريفير الذي تحيل عليه الرواية. ودون التغافل، وضمن العلامات المائزة للنص، الأقوال المأثورة (الغربية) التي تسعين بها الكاتبة في سياق التأكيد على الفكرة. هذا وإن كانت هذه الأقوال تبدو، في بعض الأحيان، مقحمة وغير مستجيبة للنبرة المتسربة في الفضاء الدلالي. وهو مأخذ يسجل على الرواية النسائية، الجديدة، ككل.
جريدة المساء العدد 738 الأربعاء 4/2/2009
www.almassae.press.ma