مُشْكِلَةُ النِّهايَةِ- مُشْكِلَةُ الرِّوَايَة
(بصدد «لحظات لاغير» رواية فاتحة مرشيد)
د.محمد فكري[1]
مقدمة
ما أَحْفَلَ “لحظات لا غير”[2]، أَوَّل الأعمال الروائية للشاعرة المغربية فاتحة مرشيد، بالنهايات وما أَكْثَرَ تنوُّع هذا الجانب المهم فيها! بيد أنَّ الرواية ككلٍّ تَهَبُ نفسها، لقارئها المحتمل، ولا سيما عند إشرافها على منْتَهاها المُفْتَرَضِ، بهيئةِ الروايةِ غيرِ القابلةِ للإِنْهاء! ليس ذلك طبعا لعدم انتهائها فعلا، من منظور مادّية الكتاب، بل لأنها، من حيثُ المَنْطِقُ النَّصِّيُّ، تَنْتَهي مِنْ غَيْرِ أَنْ تُنْهِيَ عَمَلَها، أي من غير أن تَنْتَهِيَ بما هِيَ عَمَلٌ (œuvre). إنها خاصية جوهرية في هذه الرواية، ومن شأن عدم مُراعاتها، إساءة فهمها، بل وَنَسْف مشروعها من الأساس، مثلما حصل في القراءات النقدية الكثيرة التي حَظِيَتْ بها تِباعاً. فمن غير المعقول اختزال الرواية إلى النص وحده، إذا كانت هي نفسها تُوَزِّعُ ذاتها، مُشْرِفَةً على النهاية، إلى نصٍّ (Texte) وأَثَرِ (œuvre)[3]، إلى مُحايَثةٍ (Immanence)[4] وَتَعالٍ (Transcendance)[5] حسب التمييز الجونيطي الشهير الذي شَرَّعَ السَّرْدانِيَّةَ (Narratologie) على التداوليةِ (Pragmatique)[6]. كيف تُحَوِّلُ هذه الروايةُ النهايةَ إلى إشكاليَّةٍ حقيقيَّةٍ، كيف تُحيلُها إلى نهاية غير نهائية؟ كيف تكونُ مُشْكلةُ النهايةِ مُشْكِلةَ هَذِهِ الرواية؟ وما الاشتراطات الجمالية والأخلاقية التي تُبَرِّرُاختيارَها هذا؟
- جاذبية النهاية في الرواية
لنستعرض هذه النهايات التي تنتصب كمعالمَ مُحَدِّدَةٍ لصَيْرورَة النص الروائي ولتركيبة أحداثه وتتحول أحيانا إلى مضمون روائيٍّ، بل موضوعٍ للكتابة قبل أن نعود إلى المسألة الأساس التي هي بالتحديد نهاية الرواية ذاتها.
وإذا انطلقنا في التحليل من مُسْتَهَلِّ النصِّ نفسه فَسَنُلاحِظُ أنَّ بدايةَ الروايةِ نهايةٌ من العيار الثقيل ل «مريض غير عادي» (ص.10)؛ لكنها مُعَلَّقَةٌ لم تُحْسَم بَعْدُ. هل يجوز نسيان ذلك؟ هو أستاذ جامعي وشاعر، وسَيَتَبَيَّنُ لاحقا أنه يدعى وحيد الكامل، وقد هُرِعَ به للعيادة لمحاولته الانتحار. وحين تسأله الطبيبة النفسية عن سبب قراره وَضْعَ حَدٍّ لحياته: “أهروب هو؟” يجيب حاسماً، بما يُشْعِرُ بإمكان تكراره لمحاولة الانتحار: ” لا.. هو إقدام”. ولإعطاء نوع من العمق الشعري لموقفه هذا يستشهد بمقطع من قصيدة للشاعر البوسني عزت سراييج، ” مسترسلا فيما يُشْبِهُ المُرافعة، وكأنه يُخاطِبُ العالَمَ بأسره:
لم يسبق أن كتبتم رسالة عشق
أو فكرتم في الانتحار
فكيف، إذن، تجرؤون على قول إنكم عشتم.”
وإذا أضفنا إلى هذا تصريحَهُ الحاسم، كما لَوْ بِحكمةٍ أو قَوْلٍ مأثور: “الانتحار ظاهرة كونية وكلنا ينتحر بطريقته الخاصة”(ص.9)، يمكن القول، إن هذا المريض الموصوف بالذكاء والتحدي معا، موقن بأهليته لتلقين الطبيبة، من على شفير الموت، حقيقة الحياة، باعتباره أعرف منها بها، وباعتبار الطبيبة، في تصوره، ليست، في النهاية، سوى ضائعة باحثة مثله عن نفسها في عيادتها الجديرة بأن تسمى “وكر التائهين”(ص.8). هل ينذر هذا بنهاية أشد قوة؟ هل يلزم من هذا أنَّ للقارئ الحَقَّ- باعتبار هذا الجَوّ النهائي (أو اللحن الجنائزي) المخيم على الرواية منذ انطلاقتها الأولى- في أن يتوقع لهذه البذور الشعرية والأقوال الحِكْمِيَّةِ أو المأثورة المزروعة في بداية النص، ببراءة مشكوك فيها، والمُدَعِّمَةِ ضِمْناً وِجْهَةَ نظر المريض على حساب الموقف المفترض للطبيبة، ثمرةً سرديةً، بمقتضاها تَتَحَوَّلُ الطبيبةُ إلى مُنْتَحِرَةٍ حتى تكون جديرةً برسائل حُبٍّ يَكْتُبُها لها المَريضُ، بِحَيْثُ يَهْتَدِيانِ معاً إلى طريق الحياة الحقيقيّة؟هل يُمْكِنُ هذا؟ لِننتظرْ وَ لْنَرَ!
وَلَسَوْفَ تَلْفُظُ ذاكرةُ هذا المريض، من أعماقها، في جلسات العلاج النفسي المتواترة، نهايات أُخَر، شديدة الأثر فيما يصدر عنه من تصرفات، منها: نهاية أمه وهو بَعْدُ طفلٌ في حادثة سير، جراء تهور والده وهو يسوق السيارة، سكران، منتشياً بسرعتها الجنونية، يَحْكيها للطبيبة بألم طفولي، في أول جلسة: ” ناديت ماما.. ماما.. لماذا لم أَمُتْ ساعتها بَدَلاً منها؟ آه كم تمنيت موتي يَوْمَها!” (ص.11-12). كما يستحضرها في ديوانه ” شظايا الشمس” الذي يهديه لها وهي في الخلود، هناك حيثُ لانِهايَة. يقول: ” إليها.. حيث لا غروب” (ص.14). وَقَدْ وَرَدَ فيه أن نهاية أمه أَنْهَتْ وجودَ كل امرأة في وجدانه:
رويدك يا امرأة
ما كنت
ولن تكوني البديل
فبعد رحيل الشمس
لا يرهبني رحيل ” (ص.15).
والديوان الذي أخضعته الطبيبةُ لقراءةٍ نَفْسيّةٍ إكلينيكية بقصد تشخيص حالة الشاعر المريض ليس سوى تنويعٍ مُتَجَدِّدٍ على فكرة ثابتة، خُلاصتُها هي التالية: “غربت أمه إلى الأبد، وقد كانت الشمس التي تداعب وجهه كل صباح، ولا تغرب قبل أن ينام” (ص.12). إنها نهاية هي بالفطامِ أَشْبَه وهي مرجع كل ما سيتهيأ له لاحقا بهيئته.
ومنها نهاية علاقته بأبيه وبأخته وأخيه من زوجته الثانية.
ومنها نهاية جدته من جهة الأم بالموت، وكان ما يزال لم يتجاوز العام الرابع عشر من عمره، هي التي كانت دائما ملاذه عند غضبه من أبيه.
ومنها نهاية والده التي كانت سببا في انقطاعه عن كتابة الشعر، ثم محاولته الانتحار، اعتقاداً منه بِأَنَّ تَمَنِّيهِ موت أبيه في السابق هو الذي عجل بوفاته، في حادثة سير، تسبب بها سائق مخمور، صدمه وهو في طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر، وكأن موت الوالدة يعيد نفسه فيما حدث للوالد. و ما زاد من شِدَّةِ الموقف عليه هو عجزه عن تَحَمُّلِ ما لم يُقَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أبيه. بدأ شاعرا بِمَوْتِ أمّه وانتهى شاعراً أيضاً بِمَوْتِ أبيه. وهذه النهاية المزدوجة (المتمثلة في سَعْيِهِ إلى الانتحار وانقطاعه فعليا عن الكتابة) هي التي قادته إلى عيادة الطب النفسي للعلاج.
وهناك ملامح نهائية أخرى، منها الطلاق الذي كان مآل زواجه من سوزان والانفصال الذي اختتمت به علاقاته العاطفية والجسدية المتتالية مع عدد من النساء. ومنهن ماري وصديقاتها.
أما ذروة النهايات كلها، فهي نهاية وحيد الكامل مريضا بالسرطان، بِدايَةَ زواجهِ من الطبيبةِ الذي كان بمثابة حلم مستحيل تحقق بإرادتهما الصلبة، رغم اعتراض أمها، وآخرين، أقارب وأباعد.
متتالية نهايات هي إذن سيرة وحيد الكامل، بيد أن النهايات لا تخصه وحده، بل تخترق مسار الطبيبة نفسها بارزة كالنتوءات الحادة وتوجه إلى أبعد حد حياتها هي أيضا. من ذلك: فقدانها أباها وإنهاؤها ميولها الأدبية وتجربتها الواعدة مُلتحِقةً بكلية الطب وعاملة على إسكات قسري لصوت الإبداع الصارخ في أعماقها؛ ما أدى، في تقديرها، إلى إصابتها بالسرطان.
ومن هذه النهايات انصياعها لقرار زوجها السابق إنهاء حلمها بالأمومة، حين فرض عليها الإجهاض، وما ترتب عن ذلك من عقم مكتسب.ومنها إنهاؤها علاقتها الزوجية بطبيب القلب الجراح طلاقا خُلْعيا، ورفضها في الوقت نفسه فكرة إجراء جراحة تجميلية لصدرها لاستعادة كامل أنوثتها، الأمر الذي لن تراجع رأيها بشأنه إلا بعد حبها لوحيد الكامل.
ومِمَّا يَدُلُّ على هذا الحس «النهائي» المهيمن على المتخيل الروائي «انتحارها» انتحاراً وَظيفِيّاً، مُخالفةً “أخلاقيات المهنة”، بإصرارها على الاعتراف العلني للجنة التأديبيَّة بحبّها لمريضها. ذلك الحُبّ الذي سيتكلل بالزواج منه لاحقا. وهكذا تجاهلت التحذير الذي وجهه أستاذها لها قائلا: “عشقك للشاعر انتحار للطبيبة” (ص.100)، كما ستتجاهل أيضا تهديد زوجة وحيد الفرنسية لها، اقتناعا منها “بجدوى الموت لتنتصر الحياة”، ولأنه كما ستقول: “لابد من انتحار بحجم رغبة سوزان في اغتيالي” (ص.146). الأمر الذي يعني تحقق ما تنبأ به مريضها، على مسمع منها، في أول جلسة علاجية.
ومن تجلياته أيضا إنهاؤها في المَهْدِ المَيْلَ العاطفي إليها الذي كان يُنَمِّيهِ من جانب واحد زميلُها الدكتور محمد صافي، الطبيب النفسي. ثم هناك هذه الحصص العلاجية التي تنتهي مرة تلو المرة، لكن دون أن تكون قد بدأت من قبل أبدا (إذا ما اقتصرنا على مراعاة صريح ملفوظ السرد وحده الذي لا يعلن انطلاقها قط[7]). مما يؤكد روح النهاية التي لا تَحُفُّ بالنص وحسب بل تتخلله كذلك.
و يجدر التذكير بملفوظ العنوان نفسه أي “لحظات لا غير”: فهو صيرورة أكثر مما هو سيرورة، مآل أكثر مما هو متتالية زمنية. أَمَّا دلالته على حتمية انتهاء اللحظات موضوع الاستمهال فأشد وأقوى من دلالته على هذه اللحظات نفسها، حتى وهي قصيرة، معدودة، محصورة. اللحظاتُ الروائيةُ المُبْهَمَةُ في العنوان مُحَدَّدَةٌ بِقِصَرِها وانقضائها العاجل المرسوم سلفا؛ ذلك لأنها أَمَدٌ زمنيٌّ مَحْسوبٌ مَعلومُ المُنْتَهَى، مُفَقَّطٌ بِلَفْظِ “لا غير” الحَصْرِيِّ، حتى لا يُزَادَ عَلَيْه. في العنوان إذن إلماح إلى أن الرواية تَتَهَيَّأُ بِهَيْئَةِ المُهْلَةِ التي تَسْبِقُ النّهاية، الأمر الذي يُؤكّدُهُ التَّصْدير، في مَقامٍ ثانٍ، تَأْطيرِيٍّ وتَوْجيهِيٍّ لِكُلِّ قراءةٍ مُحْتَمَلَةٍ للنص: فهو ليس سوى استبطاءٍ لما هُوَ مَحْتومٌ، لَيْسَ سوى استمهالٍ لِلْمَوْتِ من أَجْل إِتاحَةِ فُرْصَةٍ للكتابة وللحياة في الكتابة وبالكتابة، تكونُ حصيلتُها غَيْرُ المُتَوَقَّعَةِ هي هذه الرواية نفسها، الجديرة باسم “رواية ما قبل النهاية”. هو ذا نَصُّ التَّصْدير: ” تريث قليلا أيها الموت…إني أكتب” (ص.5). أما مسؤوليته فتعود للمؤلفة فاتحة مرشيد، في هذا الموضع، على الأقل، علماً بأن الوضع سيتغير في موضع آخر، كما سيجري بيان ذلك لاحقا.
أخيراً، نَصِلُ إلى ما هو أَهَمّ في هذه الدراسة: أين ومتى وكيف تنتهي رواية “لحظات لا غير”، وهل تنتهي فعلا؟ وهَلْ لِمَوْقِفِ النّهاية المُحْتَمَلِ علاقة بإعادة توزيع الأدوار العامِليّة والتداوليّة في مواضع متأخرة من النص، وهل لها انعكاس على بروتوكول قِراءَتِهِ، أي الميثاق السرديّ نفسه الذي يُفْتَرَضُ أَنْ يَسْري فيه.
2- تَرجيع الرواية من غير انتهاء.
إنَّ الفاجعة التي يُمْنى بها كُلٌّ من «بطل» الرواية و«بطلتها»، لا تُنهي الرواية، لأن نهايتها ليست نهائية ولا حَدّاً باتًّا قاطعاً حاسماً، بل هي مسلسل اللانهائيّ الذي يَتَحَدَّى القارئَ أنْ يُسايِرَهُ، وَإنْ لاحَ بهيئةِ النهاية. فاستيفاءُ قِراءَةِ صفحات الرواية المائة وخمس وسبعين لا يعني الفَراغَ من قراءة الرواية، بل يَتَأَكَّدُ – في آخر صفحة – عدم إمكان ذلك مطلقا؛ لأن الرواية تستأنف نفسها- في نهايتها- ببدايتها السابقة، وتستمر مُسْتعيدةً حَرْفِيّاً في المَقْطَعِ ما سبق أن ورد في المَطْلَعِ، بصفحتيه الأولى والثانية، مُعَزِّزَةً ذلك بنقط الحذف الثلاث الدالة على التَّتِمَّةِ والبَقِيَّةِ، ومُوَجِّهَةً القارئَ إلى ضرورة الاستمرار في قراءة الذي لم يُكْتَبْ بَعْدُ، باستحضار ما كُتِبَ مِنْ قَبْلُ، وإلى تلقّي ما يَحْدُثُ الآن باعتبار ما حَدَثَ آنفاً، اقتفاءً لِأَثَرِ نِهايَةٍ مُعَلَّقة غير مُغْلَقَةٍ ولا مُدْرَكَةٍ لِحَدِّ الآن؛ مما يعني أن صيغة انتهاء النص ليست هي التوقف عند نقطة معينة كَحَدٍّ حاسم، بل الرجوع المفاجئ، ودون أيّ تمهيد صريح أو ضمني، إلى بِدايَتِهِ، بِقَصْدِ الانطلاق من جديد.
إنَّ صيغة انتهاء النص هي أن يَرْجِعَ عَوْدُهُ على بَدْئِهِ، هي ألا يَقْطَعَ ذَهابَهُ حتى يَصِلَهُ بِرُجُوعِهِ. الدّائِريَّةُ هي السِّمَةُ المُمَيِّزَةُ لزمن النصّ، والدَّوَّامَةُ هي الاستعارة الأَنْسَب لِوَصْفِ طريقة اشتغاله؛ لأنَّ الوسيلةَ التي يَتَّخِذُها لِتَفادي النهاية هي أن يَسْري في مَجْرىً مُدَوِّمٍ، بحيثُ تَتَحَوَّلُ دَيْمومَةُ النصّ نَفْسُها إلى تَدْويمٍ لا يَنْقَطِعُ إلاّ بِتَعَبِ القارئِ منه، وَالكَفِّ عن القراءة، نتيجةً لذلك. “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد هي رِوايَةُ العَوْدِ الأَبَدِيِّ، أو هي العَوْدُ الأَبَدِيُّ لِلرِّوايَةِ، سَيَّان! وَقارِئُها مَحْكوم عليه بأن يقع في شرك مُفارَقَةِ زَيْنون الأَيْلي (Zénon d’Elée). كَيْفَ يستطيع الإِفْلاتَ مِنْهُ، وَالحالُ أنَّ الروايةَ هي التي تُوقِعُه فيه، باعتبار وُقوعِهِ ذاك من بروتوكولات قراءتها؟ فَحينَ يَبْتَكِرُ القراءَةَ (من بداية النص، في أوانها) ثم يُعيدُها من نهاية النص، بعد أوانها، بشكل دَوْرِيٍّ، وبلا أيِّ انقطاع، يكون حالُهُ حينئذٍ كَحالِ أخيل (Achille)، العَدَّاءِ الإغريقيّ الأَكْثَرِ سُرْعَةً، السّاعي عَبَثًا إلى اللّحاق بالسلحفاة، المخلوقِ الأشدّ بطءً. مِمَّا يعني، بتعبير آخر، أَنَّ عَلَى قارئِ الروايةِ من آخرها، بِتَوْجيهٍ مِنْها، أن يَلْحَقَ بذاته قارئاً إياها من بدايتها، بِإيعازٍ مِنْها أَيْضاً، إِنْ هُوَ أرادَ أن يَقْرَأَها قراءةً مُطابِقَةً لِمُتَطَلَّباتِها الضِّمْنِيَّة ! والمُرَجَّحُ أَنَّهُ سَيُخْفِقُ، مِثْلَ أَخيل، في إزالةِ المسافةِ الفاصلة، لأن جمالية الرواية وأخلاقيتها يقتضيان هذا الإخفاق؛ ممّا يشير إلى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أو موضوعين جماليين للنص نفسه مَرْصودَيْنِ لأَنْ يَظَلَّا مُدْرَكَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لا مُتَّصِلَيْن، وَهَلُمَّ إِعادَةَ قراءة!
3- الرّوايةُ ذاتُ الأَثَرَيْنِ
الروايةُ التي تبدأ من جديد من آخر الكتاب هي جزء لا يتجزأ من الرواية نفسها التي سبق أن انطلقت من بداية الكتاب؛ لأنها بأكملها ليست سوى حدث في حبكتها: إنه حدث الكتابة أو الكتابة بما هي حدث.ولئن كان المُتَوَقَّعُ من رواية كهذه، ذات الموضوع العاطفيّ أن تكتمل إما بالزواج أو بالموت، فهذان مجتمعان لم يكفيا لإكمال هذه الرواية الكلاسيكية، ربما لأنها ذات هواجس حداثية بالغة العمق، خلافا لما هو ظاهر للوهلة الأولى: إذ اختير ما لا ينتهي (وهو الكتابة قيد الحدوث والاستمرار) ليكون هو صيغة انتهائها المعلَّق. وما يُخْرِجُ النصّ من زمن طولي إلى زمن الدَّوّامَةِ والدُّوّار هو رغبة الكتابة الطارئة الموصولة بالتنفيذ الفوري. الرواية الحاصلة عن هذه الرغبة انعكاس مرآوي لنفسها بصيغتها الأولى بالغ التعقيد، يسميه لوسيان دايلنباخ الانعكاس المعضل (réflexivité aporistique)، لأن ما كتبته الشخصية بعد أن صارت مُؤَلِّفَةً «مَقْطَعٌ من المُفْتَرَضِ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ العَمَلَ الأَدَبِيَّ الذي يَتَضَمَّنُهُ»[8]. ومع أن صيغَتَي الرواية مُتطابقتان مَتْناً فَلَيْسَتا الرّواية إياها. وقد سبق لبورخيس ” أن ذهب إلى حد المنازعة في مدى كفاية التطابق الحرفيّ في اللغة نفسها للتَّعرُّف على عمل ما: فلئن كان سرفانطيس وبيير مينار كتبا الكلمات نفسها في اللغة نفسها أي الإسبانية، هَلْ كتبا العملَ نفسه، بَلْ هَلْ كتبا النص نفسه؟”[9]. لم يَكْتُباهُما طبعا، رغم تماهيهما الظاهري. لقد تَغَيَّرَ النص نظراً لِتَغَيُّرِ قارئه ولانتسابه إلى مُؤَلِّفٍ إضافيٍّ. ومن الضروري التفريق بين النص وعمله حتى وإن لاحا بهيئتين مُتماثلتين. وما ينطبق على دونكيشوط المتنازع عليه بين المؤلفين الفعليّ و الوهميّ، يصدق على هذه الرواية. فهي لا تهب نفسها للقراءة الكاملة في نطاق مفهوم النص وحده، بل تبدي حاجتها للتلقيّ من خلال ثنائية النص/ العمل التي كان لجمالية التلقي ومدرسة براغ الفضل في إثارتها[10] ، بالإضافة إلى كولينكوود وكودمان وفيكو وجونيط، ولاسيّما بعد تشريع سَرْدانِيَّتِهِ على التَّداوليّة. وما يجب على القارئ استنادا إلى منطق رواية فاتحة مرشيد، هو التَّمْييزُ بين طَرَفَي الثنائية وإن أوهماه بالتطابق: فالعمل وظيفة أو، بتعبير آخر، هو “الطريقة التي يؤثر بها النص”[11]، في حين أن النص صيغة وجود..ثم إنَّ “ما تقيم عليه الدليل ليس هو إمكان انفراد عملين مختلفين كلّ بنص خاص به ومختلف عمّا سواه (فهذا أمر بدهي، في غير حاجة لدليل) بل هو إمكان اشتراك عملين متباينين في النص نفسه”[12]. باختصار، إن هذه الرواية مثال ناصع للنص المفرد ذي العملين المختلفين، بل إن العمل، في ما كتبته المؤلفة الثانية، يهيمن على النص المنسوب للمؤلفة الأولى، لأنه تكرار، و قد تعلمنا من كلود ليفي ستروس أن “التكرار طريقة في الدلالة على أن هناك دلالة”[13]. هذا الجانب بالذات هو حيث تكمن خصوصية الرواية، كما سيتبين ممّا يلي.
4- تغيير الرواية مؤلفتها
تبلغ”لحظات لا غير” في الصفحة ماقبل الأخيرة مشارف حَدِّها المادي الأخير، بيد أن طريقتها في التَّمَرُّسِ بموقف النهاية غير مألوفة. فهي لا تكتفي باستئناف نفسها ببدايتها السابقة (كما تَقَدَّمَ بَيانُ ذلك )، بل تنسب ذاتها أيضا، تفاديا من ضرورة الإنهاء، لمؤلفة أخرى غير متوقعة، هي أسماء لغريب، التي كانت تتقلد وظيفة الشخصية المحورية الساردة لحكايتها والطبيبة النفسية، في الرواية. و ما أن يقع إسناد الرواية المُفاجِئُ إلى مؤلفة جديدة إضافيّة حتى تتطابق الصفحتان الأخيرتان الرابعة والسبعون ومائة والخامسة وسبعون ومائة مع الصفحتين الأوليين في متن النص أي: السابعة والثامنة من الكتاب. حينئذ، يُدْعى القارئُ إلى إعادة قراءة النص نفسه تَحْتَ إِمْرَةِ مُؤَلِّفَةٍ خيالية، هذه المرة، لا كالأولى. وهكذا يظل النص كما هُوَ حرفيّاً، لكنه في نفس الوقت يُغاير ذاته (بَلْ يُفارِقُها)، بحيث يَكْتسبُ أبعاداً جديدةً، ويُخَلِّفُ أصداء غير متوقعة، تُغْنيهِ (من حيث هو موضوع للإدراك والتلقي)، وتحفز خيال القارئ ورغبته في إعادة بنائه. ما جاء على لسان أسماء لغريب شخصيةً ساردةً حَصْرِيَّةً هو طبعا ما كَتَبَتْهُ فاتحة مرشيد مُؤلِّفةً؛ غير أن هذا المسرود المكتوب لا يصل إلى نهايته المفترضة بل يتحول – بِمُقْتَضى نَوْعٍ من الغُموض التَّلَفُّظِيِّ وَضَرْبٍ مِنْ سَبْقِ الانتحال (Plagiat par anticipation) – إلى ما سَتَكْتُبُهُ الآن مَنْ قَرَّرَتْ فجأةً أَنْ تصير مُؤَلِّفَةً روائيةً للروايةِ التي هي شخصيتها المحورية، وكأنما لِتُدَوِّنَ قصة حياتها. والمقصود ب«الانتحال السَّبْقِيِّ» أو «الانتحال الاستباقي»: «استلهام أعمال كاتب لاحق، مع إخفاء ذلك»[14]. ولا شك في أن فاتحة مرشيد وَفِيَّةٌ وواعيّةٌ بِدَرْسِ بورخيس الذي اقترح اقتراحه الشهير المُتَمثِّلَ في قراءة جديدة لدون كيشوت، مُسْتَمِدَّةٍ طرافَتها من إسنادها هذا العملَ إسناداً تخييليّا، لا لِمُؤَلِّفِهِ سرفانطيس بل لِمُؤَلِّفٍ وهمي متأخر عنه، بثلاثمائة عام، مدعو ببيير مينار (Pierre Ménard)؛ بيد أنها تَزيدُ عليه مُحدٍّدَةً أنَّ مَنْ يُسْنِدُ المُؤَلَّفَ لِلْمُؤَلِّفِة المتأخرة ليس هو القارئ بل المُؤَلِّفَة “الأصلية”. الأمر الذي يُكَيِّفُ دلالة النص إلى أبعد حد ممكن، ويوجه عمله ويفسح للكتابة آفاقا كُلّها جِدَّة؛ لكنه يُمَشْكِلُ أيضا هذه الممارسة، ويكشف نسبية واعتباطية أعرافها؛ فممّا صارَ اليوم مُكْتَسَباً هو أنَّ أَفْضَلَ طريقة لتغيير كتاب ما، ولجعله أكثر غنى، هي تَغْيير مُؤَلِّفِهِ، فيما يُقَدِّرُ بورخيس؛ فذلك ممّا يفسح لِفَهْمِهِ سُبُلاً غير معهودة. ويذهب بيير بايار إلى ما هو أَبْعَد، حيث يَتَوَسَّلُ (يَتَوَصَّلُ) إلى ” صيانة حيويّة النص وفائدة القراءة بالمطالبة باعتماد الإسناد المُتَغَيِّرِ، أيْ أَخْذِ جميع العوالم الممكنة التي تتلاقى في كل عمل على حدة، وجميع المؤلفين الذين كانوا يستطيعون كتابته، بعين الاعتبار”[15].
ولئن كان كلا النصين مَنْسوباً بنفس العنوان إلى مؤلفته ومطابقا للآخر حَرْفِيّا، فثمة فارق أساس هو أن الأول يبدأ في هيئة نص- وجه من بداية النص، والثاني يبدأ بالمقلوب في هيئة نص- ظهر من نهايته. وَلَيْسَ الوَجْهُ كَالظَّهْرِ. النص واحد، من وجهة نظر سطحية ، حتّى مع التعدد في محفله التأليفي، لكنه- فِعْلِيّاً – بمثابة موضوعين جماليين مَرْصودين لِتَلَقِّيَيْنِ مُخْتَلِفيْن وهما يَتَجَلَّيانِ، تَتابُعاً، بالقراءة طرداً وعكساً بلا تغيير؛ ومع ذلك، فالنصّ تَغَيَّرَ لأن مؤلفه تغير وقارئه تغير أيضا وبالضرورة، ووظيفته وتأويله كذلك. ومن المتوقع تَشَكُّلُ موضوعات جمالية (Objets esthétiques) بعدد القراءات المتتالية بلا انقطاع ولا تَماثُلٍ يُجْريها (يُجَرِّبُها) القارئُ الواحد. والمقصود بمفهوم الموضوع الجمالي المأثور عن موكاروفسكي، “الأثر الأدبي مُتَحَوِّلاً إلى تحققات متتالية” أي تلقياتٍ مُتَجاوِزة لبعضها بعض. فبينما يظل ” النص الأدبي كما هو غَيْر مُتَغَيِّر(…) يَكونُ الموضوعُ الجماليُّ عُرْضَةً لِلتَّغَيُّرِ، لارتهانه بالوعي وبعملية التحقيق التي يقوم بها القارئ المتلقي.”[16]
واحدٌ هو النص في “لحظات لا غير”، لأن المؤلفة الثانية تكتفي بنسخ ما كتبته المؤلفة الأولى من غير مسخ، إلا أنه سند لغوي لعملين (œuvres) متمايزين. وهو إذ يُعْزى إلى الشخصية التي اخْتَلَقَتْها المؤَلِّفَةُ من وحي أوهامها (لتكون ذاتَها الثانية أو ظِلَّها) والمُسَمَّاة: أسماء لغريب، يحيل على عمل آخر مُغايرٍ، بمقتضى كونه تكرارا للأول، واعتباراً لما سيترتب عن صفته هذه من انعكاسات على توزيع الأدوارالعاملية والتداولية بل على بروتوكول القراءة، والميثاق السردي الذي ينبغي أن يفي به. وهكذا، فما أن تَنْسِبَ الروايةُ نَفْسَها لِمُؤَلِّفَةٍ جديدةٍ حتى تَبْدأَ من جديد، من غير أن تُنْهي نَفْسَها، بِحَيْثُ تكونُ نهايَتُها غيرُ الحاصلةِ بدايةً فعليةً جديدةً لها. ومما يضاعف الجانب الإشكالي في المسألة هو أن البداية الجديدة هي نفسها القديمة رغم أن من يتصورها هي مؤلفة أخرى. هل يتعلق الأمر بتخاطر، أم ينبغي أن يقرأ النصّان الصّنوان من زاوية الانتحال الاستباقي الذي يقلب وجهة زمنية الكتابة أم من منظور آخر يُشَوِّشُها أكثر، منظور الانتحال التبادليّ[17] بين مؤلفتي الرواية، المتباعدتين في دائرتي وُجودٍ مختلفتين، كاختلاف الحقيقة والخيال؟ لا ريب في أن الاحتمال الأخير يبدو الأرجح والأشدّ إغناءً للنص. والخلاصة هي أن البناء الإشكالي للنهاية في رواية فاتحة مرشيد يُدْرجها تلقائيا وبدون تعمد فيما يسمى “مشكلة بورخيس”، كما سبق بيان ذلك. والخلاصة هي أن ازدواج التأليف يفرض ضمنيّا التمييز في “لحظات لاغير” بين روايتين، لا رواية واحدة: الرواية-النص المتمثلة في ما هو عائد للمؤلفة الفعلية، والمتعلقة ب«نظام المحايثة» والرواية-الأثر المنسوبة للمُؤلِّفة المُتَخَيَّلَةِ، والمُتَمَثِّلِ فيها «نظامُ التَّعالي»، عِلْماً بِأَنَّ الأخيرة لا تُرَدِّدُ الأولى وَتَحْمِلُها على استئناف نفسها بلا نِهايةٍ فحسب، بل تُهيمن عليها أيضا، وكأنما من الأعلى، هَيْمَنَةَ كُلِّ عَمَلٍ على كُلِّ نَصٍّ. كما أنها تتهيَّأ ، في نهاية الأمر، وفْقاً لمصطلحية جيرار جونيط، بهيئة نص فَوْقِيٍّ (Hypertexte) مُرْتَسِمٍ على نَصِّهِ التَّحتيّ (Hypotexte) بقصد التأويلِ والتحويل والنقدِ الداخليّ، وَلَرُبَّما المُعاكَسَة[18].
5- اشتطاط السرد
سَيُلاحِظُ القارئُ أنَّ الروايةَ كما تَكْتُبُها – الآن – الشخصيةُ المحوريةُ، الطبيبةُ النفسيةُ، أسماء لغريب، لَيْسَتْ سوى الروايةِ ذاتِها كَما سَبَقَ أن كَتَبَتْها الأديبةُ فاتحةُ مُرْشيد. فَهَلْ يُعتبر هذا إعلاناً من الكاتبة أنها هي نفسها الشخصيةُ الروائيةُ المِحْوَرِيَّة؟ هل تَقْصِدُ اخْتِزالَ الروايةِ، في نَصِّها الأَوَّل، إلى مُجَرَّدِ مادَّةٍ خامّ للرِّوايَة، في نَصِّها الثاني، مَعَ أَنَّ النَّصَّيْنِ مُتطابقين حَرْفِيّا؟ لا تَنْحَلُّ المُشْكِلة حتى لَوْ سَلَّمْنا بهذه الفَرْضِيَّة، عِلاوَةً على أَنَّ التَسْليمَ بِها مُتَعَذِّرٌ مَنْطِقِيًّا؛ لأن انتماءَ النصّ إلى الجِنْسِ الرِّوائيِّ مُثْبَتٌ على غلاف الكِتاب، وَمِنْ آثارِهِ التِّلْقائية عَدَم تَطابُقِ هُويَّتَي المُؤَلِّفَةِ والشّخصيةِ-السارِدَة. ومِمَّا يَتَرَتَّبُ عَمَّا بَيْنَ «النص- الأصل» للرواية و«نُسْخَتِه» مِنْ تَماثُلٍ حَرْفِيّ، يُقابِلُهُ تَغايُرٌ مُؤَلِّفِيٍّ، هو الانسلاخُ غيرُ القابلِ للالتئام، والشاملُ لِلتَّخْييلِ وأصدائه الدلالية والتداولية. في هذه الفَجْوَةِ التي تَرْهَنُ كتابةَ الروايةِ وَقِراءَتَها معاً، ينبغي التماسُ السؤالِ الجماليِّ والأخلاقيِّ الأساس الذي يَفْسَحُ أُفُقَ فَهْمِها، مُتيحاً تَمَثُّلَ الطريقةِ المُلْتَبِسَةِ التي اتَّخَذَتْها للتَّمَرُّسِ بِمَوْقِفِ النِّهاية.
ولا شك في أن قراءة الرِّوايَةِ تستدعي افتراض ثلاثة عوالمَ مُتمايِزة ومُتَناضِدَةٍ، بشكل تَراتُبِيٍّ، على هذا النحو:
– العالم الواقعي المرجعي الذي نَحْيا فيه: أنا وأَنْتَ وفاتحة مرشيد، المالكة القانونية للكتاب، ولحقوق تأليفه؛
– ثم عالم المُتَخَيَّل الذي هو بمثابة واقع جديد من إنتاج الرواية ومحدود بحدودها النصية، وفيه تَنْساقُ أسماء لغريب- الشخصية للمصير الذي تَصَوَّرَتْهُ لها المُؤَلِّفَةُ الحقيقيةُ؛
– ثم عالم مُتَخَيَّلٌ من الدرجة الثانية، أي مُتَخَيَّلٌ مَرَّتَيْنِ، مُتَضَمَّنٌ في سابقه ومُتَضَمِّنٌ له في الوقت نفسه، تَتَحَوَّلُ فيه أسماء لغريب- الشخصيةُ إلى مُؤَلِّفَةِ نَفْسِها بِنَفْسِها وما يَتَعَلَّقُ بها من أحداث وأجواء ومواقف، سَبَقَ الإلمام بها في عالم المتخيل الأَوَّلِيِّ سالفِ الذِّكْرِ.
ومِمّا يَجْدُرُ ذِكْرُهُ أن المهمة الأساس التي اضْطَلَعَتْ بها الساردةُ ضمنيا هي إِزالةُ الحدود الفاصلة بين هذه العوالم المُتَبايِنَة وإغْراقها في جَوٍّ من الالتباس خِدْمَةً لأقصى انطلاقٍ مُمْكِنٍ للتَّخْييلِ، وتَمْكيناً للمؤلفة من فُرْصَةٍ لِشَرْعَنَةِ كِتابَتِها للرِّوايَةِ في أثناء كتابتها لِأَوَّلِ نص روائي، لا بَعْدَهُ؛ وهو ما سيتضح لاحقاً في التحليل تَدْريجيّاً. ومما يترتب على هذا التدبير المُرافِق لِدَوَرانِ الروايةِ على ذاتها مُرْتَكِزَةً على إِعادَةِ كِتابةٍ حَرْفِيَّةٍ لها مِنْ لَدُنِ شخصيتها المِحْوَرِيَّةِ هو تَوَزُّعُ هُوية الشخصية- المُؤَلِّفَةِ الجديدة وتَذَبْذُبُها بَيْنَ هذه العوالم الثلاثة المُنْفَصِلة مُنْفَلِتَةً من كُلِّ ثباتٍ مُمْكنٍ، وَمَعَها يَتَذَبْذَبُ كُلُّ ما يَنْجَذِبُ إلى دائرةِ وُجودِها المُلْتَبِسَةِ من أحْداثٍ ومَواقِفَ وأَفْضِيّة. حينئذ، تبدو الرواية دَوّامَةً حقيقيةً وَيَتَّخِذُ جميعُ ما يَحْتَشِدُ فيها هَيْئَةَ الدَّوامَةِ وَشَكْلَ الخُلودِ في اللّحْظَةِ: قِصّةُ الحُبِّ وما يَحُفُّ بِها مِنْ أَقْوال وأفعال ومَشاعِرَ وَأَخْيِلَة، حركةُ الوَعْيِ، والزَّمَنُ نَفْسُه.
أعودُ لِأَقولَ بِلُغَةٍ سردانية جونيطية أكثر دِقَّة: بِصَرْفِ النَّظَرٍ عن المستوى المُتَمَثِّلِ في ما هو خارج نطاق المحكي (Niveau extradiégétique)، (والمُطابِقِ للعالم الأول سابق الذكر)، السَّرْدُ في “لحظات لا غير” مستويان:
مستوى أَوَّل يُدْعى المستوى الحكائي أو الحكائي الداخلي (Intradiégétique/Diégétique)، (يطابق العالم الثاني سالف الذكر) ويتمحور حول أسماء، الطبيبة النفسية في الرواية وما يتعلق بها وبمريضها من أحداث مَحْكِيَّة. وهو يَتَحَدَّدُ (مَبْدَئِيّاً) بحدود النص الذي كَتَبَتْهُ الروائية المغربية فاتحة مرشيد.
أما المستوى الثاني فَيُسَمَّى المستوى الميطاحكائي (Métadiégétique)، وهو مُتَضَمَّنٌ في الأول، ويدور على أسماء بعد أن استقالت من مهنتها وصارت مُؤَلِّفَةً روائية للرواية التي هي، أَصْلاً، شخصيتها الأساسية. ويَأْخُذُ هذا المستوى السردي الأخير في التَّشَكُّلِ باستئناف الرواية لنفسها في ما تُدَوِّنُهُ أسماء بكُرَّاسَتِها، استعادةً لما مضى من حياتها. في ثاني مستويي السرد، (أي العالم الثالث سابق الذكر) يتقرر كل شيء، و تكمن البؤرة الدلالية والتداولية الأكثر إثارةً. لذلك، فالقارئ مَدْعُوٌّ للانتباه إلى التَّحَوُّلِ الذي يعتري المُسْتَوى المُؤَلِّفيِّ في الرواية أكثر من انتباهه إلى التحولات الحَدَثِيّة نفسها. في هذا الحيز الأخير، يُمَشْكَلُ السَّرْدُ نفسه مستوىً وضميراً وزمناً وصَّوْتاً فيخيّم الإبهام على علاقة من يَسْرُدُ بِما يَسْرُدُ. وما يَنْبَهِمُ في هذا المستوى الميطاحكائي لَيْسَ هو أحداث الرواية فقط، بل إِحْداثِيَّاتُها، على الخصوص، بحيث يَضيعُ القارئُ تماماً في فضاء روايةٍ مَطَّاطةٍ، غامضَةٍ ومُفارِقةٍ مُنْقَسِمةٍ إلى عالَمَيْنِ حكائيين، كلُّ واحدٍ مِنْهما بالقياسِ إلى الآخرِ داخِلٌ وخارِجٌ، كُلٌّ وجزءٌ، مُتَضَمِّنٌ وَمُتَضَمَّنٌ، مُمَاثِلٌ وَمُغَايِرٌ، في نفس الوقت. ثُمَّ إِنَّ إسْنادَ النصّ لمُؤَلِّفَةٍ ثانيةٍ، دون إلغاء المؤلفة الأولى، يفسح للرواية بأقصى قُوَّةٍ ممكنة آفاق مجاز المستوى الذي يدعوه جونيط ب”الميطاليبس السردي” (la métalepse narrative)، ونتواضع على ترجمته من الآن فصاعدا بِ«الاشتطاط» لعدم توفر ما هو أفضل منه، في سياق التداول العربي لهذا المصطلح السَّردانيّ الفرنسي، دلالةً ونسبةً واشتقاقاً[19]. والمقصود به انتهاك الحدود المنطقية المنيعة للسرد المرتبطة بمستوياته إلى درجة السقوط في اللاّمعقول.
يُعَرِّفُهُ جونيط بأنه ” كُلُّ تَدَخُّلٍ يقوم به السارد أوالمسرود له الخارجيّ الحكي في العالم الحكائي (أو تقوم به شخصيات من مستوى حكائي في عالم ميطاحكائي، إلخ.) أو العكس، […]، مُحْدِثٍ أثراً غريباً إمّا هزليّاً […] وإمّا خارقاً. ونحن نَمُدُّ المدى المفهوميّ لمصطلح الاشتطاط السردي ليشمل هذه الانتهاكات كلها.”[20]
من الأمثلة الشهيرة لمفهوم «الاشتطاط» قصة ” رجل اغتالته (أوْ كادتْ) إحدى شخصيات الرواية التي كان عاكفا على قراءتها” الموسومة بعنوان:”استمرارية الحدائق” لخوليو كورتازار[21]، ورواية جون لاهوغ ذات المنحى البوليسي المتحرّية عن قاتل السارد الذي حَيَّرَ أَمْرُهُ المحققين ليتبين أخيرا أنه هو قارئ الرواية نفسه لأنه من أنهى حياة ضحيته بإغلاقه دفتي الكتاب[22] ، وحكاية “لأنقاض الدائرية”[23] التي تختلق عبر الحلم رجلا ، وإذا هو في النهاية، الشخصُ ذاتُهُ يحلمُ به شخصٌ ثالث ، إذن يَخْتَلِقُهُ : ما يمكن اختزاله في صيغة “الحالم المحلوم به” المجازية التي هي بمثابة تصوير استعاري لأقوى تَجَلٍّ للنشاط الإبداعي، ولا سيما الكتابي. ومن أمثلة الاشتطاط التي لا تقل أهمية عمّا ذكر، تلك الطفرة التي تحدث في الصفحات الأخيرة ل “لحظات لا غير” لِيَعُمَّ أَثَرُها الرِّجْعِيُّ والفوريّ عالم الرواية بأكمله. ذلك أن الشخصية المحورية فيها تصير هكذا فجأة هي المؤلفة بدل المؤلفة، وكأنما من تلقاء ذاتها، ومن غير أن يعلم أحد سواها، مُتعسّفةً بشدة في استعمال سلطة السرد الموكلة إليها حصراً. فأسماء لغريب الشخصيةُ الساردةُ ما يَدورُ عليها من أحداثٍ تَخْضَعُ للتحوُّل جراء اشتطاطها في السرد، حيث ترتفع فوق المستوى الحكائي الداخلي (Niveau intradiégétique) الذي هو مستواها إلى مستوى حكائي خارجي (Niveau extradiégétique) لا يُتَصَوَّرُ إطلاقا إمكان أن يصير هو مستواها مع بقاء الرواية روايةً، أي دون تغيير النصِّ جِنْسَه ُالمُنْدَرِج فيه أصلاً إلى جنس آخر جديد (كالسيرة الذاتية مثلا أو التخييل الذاتي Autofiction )؛ والحال أن الشخصيةَ المتحولة إلى مُؤَلِّفَة هي روائيةٌ على وجه التحديد، ما دامت تُنازِعُ صاحبةَ الرواية، مِحْفَلَ التأليف (Instance auctoriale). تفعل ذلك من غير أن تفقد انتماءها إلى المحفل العاملي (Instance actoriale) بصفتها شخصيةً وساردةً حكايَتَها، أيضا، ودائما. وإذن، فالصلة بينهما لا تظل في هيئة علاقة بين روائية وشخصية اختلقتها اختلاقا وحسب، بل تتغير فتصير أيضا علاقة مؤلفتين بالتتابع للنص نفسه من غير أن تشتركا الاشتراك الفعلي في تأليفه وتحبيك أحداثه الروائية.
إنَّ ارتقاء الشخصية الروائية إلى مقام مؤلفة الرواية التي هي “بطلتها” بمثابة قَفْزٍ (وجودي) مِمَّا تَحْتَ سَقْفِ الرواية إلى ما فَوْقَهُ، هو انتقال من المستوى الحكائي الداخلي إلى المستوى الحكائي الخارجي ، هو تغييرٌ للهُويَّة، كما أسلفت. غير أن التَّحَوُّلَ بمثل هذا العنف الرمزي والوجودي من الداخل إلى الخارج لا يتحقق، ويا لَلْمُفارَقَة، إلا بواسطة مزيد من التغلغل في داخل النص إلى حَيْثُ المُقَعَّرُ المرآوي الذي تنعكس عليه الرواية بأكملها، من غير أن تتقلص قَدْرَ أنْملة، وإلى حيثُ مُستواها الميطاحكائي (Niveau métadiégétique)، أيضا، إذ إنهما في سياق هذه الرواية الخاص الشيء نفسه. القَعْرُ المرآويُّ المُنْعَكِسُ فيه السردُ (ملفوظاً وتلفظاً وشفرةً) من غير نقصان من ناحية أولى والأفق الميطاحكائي المُنْفَسح أمامه في صفحتي الرواية الأخيرتين بشروع “بطلة” الرواية في تأليف هذه الرواية نفسها الوشيكة الانتهاء، من ناحية ثانية، ليسا سوى وَجْهَيْ عملة واحدة. ففي منزلة المؤلفة “الميطاحكائية” التي تَنَزَّلَتْها الشخصيةُ المحوريةُ، يكفيها العمل على إدامَةِ دوران الرواية النرجسي اللانهائي على نفسها بإكمال كتابتها(إذن، سَرْدِها)، من دون أيّ تصحيف أو تحريف، لتصير هي مُؤلفَتَها، مُتخطيةً العتبة الحكائية، إلى درجة الإيهام بالتماهي مع مُؤلِّفتها الفعلية الأصليّة ، وتَبَدُّدِ فروق الهوية الفاصلة بين الطبيبة النفسية المستقيلة في الرواية وطبيبة الأطفال في الواقع. وهذا ليس مُمْكنا لِمُقْتضىً مُتَعَلِّقٍ بالمستوى السردي. فمن جهة، يستحيل منطقيا أن تكون أسماء لغريب داخل الحَكْيِ وخارجه، مُؤَلِّفَة ًفعليّةً وفي نفس الوقت مُؤَلَّفَةً (أي شخصية حكائية مُتَخَيَّلَة ساردةً حِكايَتها الدائرةَ عليها)، كما يستحيل، بمنطق الرواية، أن تَتَطابقَ هذه المُؤَلِّفةُ المُؤَلَّفَةُ مع مؤَلِّفتها الفعلية. لكن فاتحة مرشيد الكاتبةَ لهذه الروايةِ جَوَّزَتْ لنفسها هذا كلَّه بِرُخْصَةٍ فنية اشتطاطيةٍ، إن صح التعبير، أي بأقوى مَجاز مُعينٍ على الانطلاق الحرّ للخيال الخَلاّق الذي لا تحده ضفاف.
وسيصدر لهذه الروائية المغربية ديوان بعنوان: “آخر الطريق أوله”[24] بعد سَنَتَيْنِ من نشر الرواية، وَسَتَسْتَرِدُّ في صفحتيه الإحدى و الخمسين والثانية والخمسين، بمنتهى الحرص، ما سبق أن وهبته، بمنتهى السخاء، لشخصيتها المحورية، في صفحتي الرواية السبعين والإحدى والسبعين، أعني: قصيدة “لو كان بالإمكان” المُؤَلَّفَةَ من مقطعين في سياق الرواية، لكن المتمددة في الديوان إلى عشرة مقاطع كاملة[25]:
” لو كان بالإمكان
وهبت البهلوان
حبالي
وتواطأت
مع المتفرجين
على سقوط
“ممنوع دون الأربعين”
***
لو كان بالإمكان
قفزت إليك
قبلة واحدة
بدل
تلعثمي
على الورق اللعين” (ص.70-71 من الرواية/ ص. 51-52 من الديوان).
وثمة إشارة، في المقطع العاشر والأخير من القصيدة «المُشْتَرَكَة»، الوارد في الديوان (ص.60)، إلى السيرة الذاتيةِ، تِلْكَ التي تَكادُ تَنِمُّ عنها الروايةُ مِنْ حَيْثُ هشاشةُ إطارها الأجناسي المقصودة، والراجعة إلى تخويل الروائية لشخصيتها حَقَّ كِتابةِ مَحْكِيِّ حياتها مَوْسوماً بعنوان الرواية نفسه، وَمُسْتَنْسَخاً مِنْ نَصِّها الحَرْفِيِّ:
لو كان بالإمكان
جمَّعتُ كل الأعوام المقبلة
في اللحظة
الآن
بدل
غد ينحشر سعالا
في سيرتي الذاتية (ص. 60 من الديوان)
ولا يمكن لهذا المقطع إلا التَّصادي لفظاً و مَقْصِداً مع ما صَرَّحَتْ به طبيبةُ الروايةِ وهي تَفْحصُ “شظايا الشمس”، ديوانِ مريضها، مَنْ سيصيرُ زَوْجَها لاحقا، إذ قالت لنفسها على مَسْمَعٍ مِنْ كُلِّ قارئٍ، وكأنها تُلَمِّحُ إلى أن الميثاق الروائي المُنْعَقِدَ بينها وبينه، كاتبةً لِأَوَّلِ مرّةٍ، ليس بذلك الوضوح والحسم اللذيْنِ يَظْهَرُ بهما، بل تكتنفهُ هو أيضا إغراءاتُ بَوْحٍ أوطوبيوغرافية مُماثلة لِما استشعرتهُ في الديوان: “فَكَّرْتُ .. نادرا ما ينجو الكاتب من السيرة الذاتية في عمله الأول”(ص.14). ومن ثمة، يمكن أن تُفْهَمَ هذه الملاحظةُ كإثارةٍ مُواربة للمسألة الأوطوبيوغرافية في “لحظات لا غير” بما أنها هي روايتها الأولى أيضا، بل ما الذي يمنع القارئ من أن يَتَلَقَّى ما اسْتَنْتَجَتْهُ كَحُكْمٍ مُنْطَبِقٍ عَلَيْها بالأولى، من باب تفكيرِ الروايةِ في نفسها، في أثناء تعليقها على ما سواها؟
وبالإجمال، يمكن القول: إن اندراج أسماء لغريب، التي هي مجرد شخصية متخيلة من المستوى الحكائي (Diégétique)، في المستوى الميطاحكائي (Métadiégétique)، بصفتها مؤلفة «جديدة» للرواية الناجزة (لكن المُعَلَّقَة َالنِّهايَةِ)، لتسرد مجددا ما سبق أن عاشته، وكأنها تَعيشُهُ- تَسْرُدُهُ، أَوَّلَ مَرَّة، له انعكاسات عدة.
ففي المستوى الميطاحكائي حيث يَشْتَطُّ السردُ ويجري تدوير محتواه الحكائي تنكشف الرغبة في الإخلال بدفتر تَحَمُّلات الرواية الواقعية التقليدية. وهكذا، يزدوج المجرى السردي ويتنافس مع ذاته، وتظهر الحاجة ماسة إلى نظام قراءة غير مألوف موسوم بالازدواج أيضا، ويشيع جوّ الغرابة، ويتقوّى أثر الخارق، ويتعرّض الميثاق الروائي للالتباس وإلاّ فالانتكاثِ، ويسري الغموض في محفل التأليف ويرسخ انفصام الإطار الأجناسي للنص. ذلك أن وحدة هوّية كل من المؤلفة والساردة والشخصية المحورية عند مقطع النص دالَّة ٌعلى السيرة الذاتية دلالةَ عَدَمِ وَحْدَتِها (المقرّرةِ في النص المحاذي Paratexte والمطلع وما سوى صفحتي النص الأخيرتين كُلِّهِ) على الجنس الروائي؛ الأمر الذي ينعكس على وضع المحافل المناظرة لها، ولا سيما المسرود له والقارئ، وعلى اشتراطات القراءة أيضاً: فخضوع هذه الأخيرة فجأة للازدواج ولضرورة الإعادة، بل التكرير، يصير من مستلزمات تحقيق مناط نَصٍّ، ذي وجه وظهر، إذن غير قابل للاستيفاء بأقل من قراءتين مرصودتين لِتَطابُقٍ مُسْتَحيلٍ: قراءةٍ طرديةٍ للنص من بدايته، تُثَبِّتُ انتماءَهُ الروائيّ، وقراءةٍ عكسيّة له (من نهايته) تُحَوِّلُهُ إلى سيرة ذاتية لشخصيةٍ مُتَخَيَّلةٍ، نظراً إلى المحفل العامِليّ للشخصيةِ الساردةِ حكايَتَها المُنْقَلِبِ إلى مِحْفَلٍ مُؤَلِّفِيٍّ. وهكذا “يُحْدِثُ الاشتطاطُ الاختتاميّ توصيفا جديدا للمحكي في كليته وإعادة تصنيف له بأثر رجعي”(Frank Wagner)[26]. ثم إنه يعطي للروائية فرصة الإيحاء بتنافذ المتخيل وخارجه وانغمارهما في جو من الشك والتأرجح والالتباس.كما يتيح لها الإلماح إلى عدم انصياعها لسلطة النزعة المحاكاتية ولعقيدة المحايثة معا، اللتان تتنازعان الرواية المغربية، وانحيازها إلى تيار إعادة التسريد (Re-narrativisation) المكتسح اليوم أغلب الأعمال التخييلية في العالم، بقصد أصيل ومحدد هو “التذكير بأن الواقع والمتخيل ليسا عالمين مغلقين دون بعضهما بإحكام، بل تجري بينهما عملية تبادل”[27] كتلك الجارية بين الرواية منسوبةً إلى مؤلفتها وبينها منسوبةً إلى الشخصية المحورية فيها من غير أيِّ حَلٍّ للتناقض الناشئ عن هذا الانتساب المزدوج واللامعقول.
5- كتابة الرغبة … في الكتابة
وَلَعَلَّ أهم موضوع للرواية إلى جانب المأساويّة النهائيّة أو النّهايةِ-المأساةِ التي تُدَنْدِنُ حَوْلَها فاتحة مرشيد، والمتمثلة في معاناة الموت كخطر محدق، والحبّ كأمل يتراءى في الأفق، هو الرغبة في الكتابة تُبْديها مراراً شاعرةٌ ساعيةٌ لا إلى تجريب الإنتاج في مجال الرواية فقط، بل إلى كسب الاعتراف بها روائيةً، منذ أَوَّلِ عملٍ تُنْجِزُهُ. وهُنا تَمُدُّها استراتيجيّةُ الاشتطاط السردي سريعا بما تحتاجهُ : تُمَكِّنُ الرِّوايَةَ من أن ترى نفسها روايةً كما لو في مرآة، وفي غُضون ذلك تكون قد أتاحتْ لمُؤَلِّفَتِها أن تَرى نفسها روائيةً في المِرآةِ الأخرى، التي تُدْعى أسماء لغريب، المُوَظَّفَةَ في النصّ بِمَرْتَبَةِ روائيةٍ والمُنازِعَةِ لها في مَنْ مِنْهُما له أَحَقِّيَّة تَوْقيعِهِ. مشهد حيازة الاعتراف على هذا النحو، دون انتظار حكم (أو مَحْكَمَةِ) المؤسسة الأدبية، يجعل الاشتطاط المتوسل به يكتسي قيمة وقوة فرمان[28] تنصيب الشاعرة كاتبةِ الروايةِ أَوَّلَ مَرَّة كاتبتَها مراراً وتكراراً وباستمرار، أي روائيّةً، دونما حاجة إلى كتابة عمل روائي جديد ثان وثالث ورابع أو أَزْيَد[29].
يمكننا أن نحدد الروائيّة (والروائيّ طبعا)، على أثر جيرار جونيط، بثلاثة مقتضيات، منها التاليان:
- الروائية هي من كتبت ما يندرج تأسيسيّا في جنس الرواية؛
- الروائية هي التي حظيت بحكم الجمهور على النص الذي كَتَبَتْهُ بأنّه جدير بالاندراج في جنس الرواية؛
ولا شك في أن المُؤَلِّفَةَ تستوفي المقتضيين معاً. ولكن يظهر أن ما تَوَخَّتْ الإلحاح عليه أكثر، بإخضاعها السرد للاشتطاط الاختتامي، هو هذا المقتضى الثالث:
- الروائية هي التي تفعل ما يفعله ” الكاتب الذي يجعل نفسه كاتباً أو إن شئنا يُنَصّبُ نفسه بنفسه كما فعل نابليون في نوتردام وذلك بِنِيَّتِهِ الذاتيّة دون سواها، إنه لا يريد أن يكون كاتبا إِلاّ بِحُكْمِ هذه الرغبة وَبِقَصْدِ تلذّذه الخاصّ، وهذا الاختيار وحده يكفي لِتَخْويلِهِ وَضْعَهُ الأَدَبيّ”(G.Genette)[30]، دونما حاجة إلى القارئ نفسه، لاسيما الناقد.
لذلك، تبدو فاتحة مرشيد وكأنها تُؤَلِّفُ تأليفاً نَفْسَها مُؤَلِّفَةً، مُخَوِّلَةً لذاتها بهذه الطريقة الحقّ في أن تكون روائيةً وَمُضْفِيّةً الشرعيّةَ على مشروعها هذا.
بإلهام نيتشوي ضمنيّ يكاد أحيانا يكون مُعْلَنا تكتب المؤلفةُ الرّواية. هذا ما توحي به حين تسعى لإثبات ذاتها كاتبةً وحرصها – وهي الشاعرةُ “الناطقةُ” – على أن تصير روائيةً، بحيث تتجلى “إرادةُ الروايةِ” عندها بسيماء “إرادةِ القُوّة”. وحين تحتفي ضِمْناً بمقولة “العَوْدِ الأبديّ” الشهيرة، في تصورها لبناء الرواية، ولمجرى زمنيّتها الدائري[31]، تَفْعَلُ ذلك لا بِنِيَّةِ تَكْريسِ التّكرارِ بل بِقَصْدِ تحفيز الانفلات منه والاختلاف. العود هنا ليس مُجَرّدَ رجوع، بل هو تحيينٌ وترهينٌ لماضٍ لم يستقرّ في مُضِيِّهِ، بحيث إن القارئ يَسْتَقْبِلُ من أحداث وأجواء الرواية ما يُفْتَرَضُ أنه اسْتدبرهُ استقبالَ ما هو غَيْر مُتوَقّع[32]. ذلك لأن الزمن في هذا المنظور المفعم مأساويةً لحظةٌ واحدةٌ أو “لحظات لاغير”، كما يَنُصُّ على ذلك العنوانُ والنصّ نَفْسُهُ مثلما أنَّ “الخلود ليس هو الامتداد في الزمن، بل هو الامتداد في أعماق اللحظة” (ص.68). هذا ما تَعَلَّمَتْهُ من مريضها وشاعرها (مَنْ سيصيرُ لاحقاً عشيقَها ثم زَوْجَها) كما ورد في “بورتريه الشاعر” الذي رسمته له، وفي حَيْثِيَّاتِهِ: أنه قارئٌ عارفٌ بنيتشه، وما أَكْثَرَ ما اتَّخَذَهُ رسولاً إِلَيْها لتسويغ بعض أفكاره الخاصّة.
لحظةٌ (أو لحظات) دائريّةٌ هي الروايةُ إذن، بلا بدايةٍ معلومة ولا نهاية محددة، بحيث ينطبق عليها تماما ما أَجْمَلَهُ روني شار الشاعر الفرنسيّ، إذ قال: ” يبدو أننا نولد دائما وسط الطريق بين بداية العالم ونهايته. ونحن نكبر ثائرين ثورة مفتوحة وبالشدة نفسها إِنْ على ما يَجُرُّنا إلى الأمام وإِنْ على ما يُبْقينا ثابتين في الخَلْف”[33]. هذا الإحساس هو ما تَبُثُّهُ في القارئ رواية ذات بدايتين لا نعرف – في النهاية – بأية واحدة منهما تبدأ. هل تبدأ بدخول وحيد الكامل إلى عيادة الطبيبة النفسية على أثر محاولته الانتحار، الحدث الذي ترويه الساردة وتكتبه الكاتبة فاتحة مرشيد، في الصفحات الأولى، أم تبدأ في آخر صفحتين بموت وحيد جرّاء إصابته بالسرطان، بُعَيْدَ زواجه من طبيبته وتنفيذ وَصِيَّتِهِ لها بالكتابة، بحيث تكون هي مَنْ تَرْوي ما سبق أن كتبته خالِقَتُها من خيال؟ كما أننا لا نعلم لها نهاية، إذ ما أن توحي بِدُنُوِّها من نقطة اختتامها المفترضة حتى يَخيبَ تَوَقُّعُ القارئ مُنتبهاً إلى أنها تبدأ من جديد. وهكذا يبدو أن لِكُلّ نهايةٍ غَيْرِ مُدْرَكَةٍ بداية مِثْلها منذورة للتَّجاوُز ابتداءً، مَرْصودة لعدم الوقوف عندها. ولا غرابة في أن تَحْفِزَنا هذه الجَدَليّة المُحايِثَةُ للرواية إلى الالتفات، في مقام تَأَمُّلِ نهايتها، إلى الرواية بأكملها من حيث هي بدايةٌ لما سواها.
- الشروع والشرعنة
تَطْرَحُ الروايةُ مسألة الشَّرْعَنَة (Légitimation) والتَّكريس، في ازدواج بمسألة الشُّروع (أي البداية) و انطلاقِ مَشْروعٍ ما، لأن الأمر يتعلق بشاعرة متطلعة إلى حيازة حق كتابة الرواية؛ وكأن السرد الروائي – المُباحَ في الأصل لمن أراده- لا يَحِقُّ لمن دَشَّنَ دخوله إلى عالم الإبداع شاعراً، أكثر مِمَّنْ لَمْ يَكْتُبْ أَصْلاً. وتبدو الشواعرُ مَعْنِيّاتٍ، أكثر من نظرائهن من الشعراء، بإبطال هذه الدعوى، بل والتطلع للتكريس من أول وهلة[34]؛ وهي المسألة التي تَحُلُّها الشاعرة فاتحة مرشيد بأن تَتَخيَّلَ نفسها روائيّةً، من خلال شخصية أخرى واسم مستعار، وتُديرَ الرِّوايَة َعلى الرِّوائيّة، في جَوٍّ من التباس الحقيقة بالوهم والواقع بالخيال، ممَّا يتيح لها تلقائيا التَّحَلِّي بهوية الروائيَّة.
ما أعنيه بالشروع هنا هو الرواية برمّتها من حيثُ هي بدايةٌ لمشروع (أي لمتتالية روايات ممكنة منتمية لمنحى جمالي واحد ولنفس المؤلفة) يعلن عن نفسه لأول مرة. أن تبدأ الروايةُ وأن تحدد خصوصيتها هما في الواقع إجراء واحد. أن تُدَشِّنَ معناه أَيْضاً أنْ تتموقع ، أن تفارق وتنفصل وتَتَمَيَّزَ عمّا سِواها، المُشارِكِ لها في الانتماء إلى جنسها. أن تبدأ هو أَنْ تُحْبِطَ تأثير التقليد (Tradition) وأن تُؤَثِّرَ في التَّقليد معاً.
تبدأ رواية مرشيد مفارقةً تقليدَ الرواية المغربية بطرائق نصية معقدة: تُولَدُ مستنسخةً ذاتها على سبيل تكريس نفسها في هيئةِ بدايةٍ غير مُنْتَهية، ربما تقديرا منها أنَّها ستتواصل في روايات لاحقةٍ بِمَثابةِ أصداء متنوعة لها. كما أنها ليست ممّا ينحشر بلا نُشوزٍ في قائمة الروايات، بل – على العكس – تنأى عن التقليد الروائي المغربي من أجل أن تتنزَّل منزلة نواةٍ لتقليد جديد مستنجز، غايتُهُ فَرْضُ نَفْسِهِ. وفي حرصها على إيجاد المسافة وإدامتها تؤسس ذاتها وتكرسها في آنٍ؛ وَإِلاّ فما معنى دارَةِ الاستنساخ النَّصيّة التي تدور فيها الرواية بلا نهاية؟ هل هي إغراء لروايات أخرى، للمُؤَلِّفةِ ولغيرها، بتقليدها، باعتبار أنها ارتقت إلى دائرة التكريس؟ منذ جمالية التلقي لياوس نعلم أن هناك علاقة جدلية مطردة بين الأعمال الكبرى الاستثنائية والاستنساخ. روائع الأدب العامل ضد التقليد هي التي تكون عرضة للتقليد الدائم! وهذه هي الهيئة التي تتهيأ بها رواية “لحظات لا غير” على مستوى اشتغالها النصي نفسه: تعمل ضد التقليد مُقَلِّدةً ذاتها بواسطة سرد جامع بين “الاشتطاط” (Métalepse) و”المرآوية” (Réflexivité) و”ازدواج محفل التأليف “(Ambivalence auctoriale) والانتحال الاستباقي (Plagiat par anticipation)، والانتحال التبادليّ (Plagiat réciproque) على سِنادٍ زمني بصيغة الآن-آنفاً، بالنظر إلى كون أحد النصين المتطابقين والمتعاقبين كتابة انتحالية للنص الآخر، متحققة بصوت الآخر. هذه الاستراتيجيات كلها هي أركان التكريس. أَلَمْ تتأسطر رواية دونكيشوت حقا إلاّ حين ازدوج مؤلفها الفعلي (سرفانطيس) بمؤلف ثان وهمي (بيير مينار)؟ أعتقد أن هذه القاعدة تصدق على رواية “لحظات لا غير” ذات الوضع التأليفي المماثل. لكن هل نفقد عملنا حين ننسبه إلى غيرنا؟ توحي المؤلفةُ بأن ما يكون عرضة لأن يُنْتَحَلَ مِنَّا أو يُزَوَّرَ أو يُنازِعَنا في مِلْكِيَّتِهِ طَرَفٌ آخر، هو ما نمتلكه حقيقةً، فَأَحْرى أن يكون هذا الطرف الثاني مِنْ اختلاقنا نحن، وجزءً لا يتجزأ من مخلوقات هذا النص المتنازع في ملكيته: شخصيةً تَرْفُضُ مُؤَلِّفَتَها ضِمْناً وتبحث عن مُؤَلّفَةٍ غيرها، وتنتهي لسبب ما، بأن تصير هي مُؤَلِّفَةَ نَفْسِها!
خاتمة
ختاماً، خطابٌ حول النهاية هي الروايةُ إِذَنْ، إِلاّ أَنَّ من طبيعته تَعَمُّدُ عدم بلوغ النهاية، بحيث يعود ليبدأ من حيث سبق أن بدأ، بنوع من الدوران على ذاته غير المنذور للتوقف، وَنَوْعٍ من الارتداد على (إلى) نفسه، بهيئة ما سواه ظاهريّا. ويظهر بعد التحليل أن السؤال الذي يؤطر كل شيء في “لحظات لا غير ” هو: كيف أُنْهي الرواية؟ الذي يعني ضمن ما يعنيه: كيف أصير سريعاً رِوائيَّةً (في المغرب والعالم العربي)؟ فَأَقَلُّ ما يُفْتَرَضُ في روائيّةٍ مبتدئةٍ لكنْ نابغةٍ، لتكتسب صفة الروائيّة هو أنْ تُنْهي روايتها الأولى، والأَفْضَلُ أن تُنْهيها بالصيغة التي تُشْعِرُ القارئَ بأنها نموذجٌ كاملٌ مُكرّسٌ، مِثالٌ يُحْتذى وَيُقَلَّدَ ويُسْتَنْسَخَ، بل وأنْ تُعْطي هي المَثَلَ، باستنساخِ وتقليد نفسها بطريقةِ بيير مينار مُؤَلِّفاً، في القرن العشرين، دون كيخوطي سرفانطيس القَرْنِ السادس عشر، فيما تَصَّوَرَ بورخيس. النص يرتد على ذاته ليمشكل هويته وليعيد تأطيرها: مَنْ مِنَ النَّصَّيْنِ يتضمن الآخر هذا التَّضَمُّنَ المُعْضِلَ، علما بأنهما حرفيا نفس النص؟ هل هو النص الذي كتبته المؤلفة الضمنية، الذات الثانية لفاتحة مرشيد طبيبة الأطفال، أم هو النص الذي كتبته أسماء لغريب، الطبيبة النفسية، الشخصية المتخيلة؟ ولقد تهيأت الرواية طيماتيكيا وشكليا لتتفرغ للاستجابة لهذا السؤال.
في رواية فاتحة مرشيد يتم التنصيص في التصدير على الآتي: “تمهل أيها الموت إني أكتب”، ممّا يعني أن الرواية مكتوبة تحت ضغط نهاية وشيكة، وأنها في النهاية تنكتب للإفلات من النهاية، في استحضار ضمني للموقف الذي وقفته شهرزاد[35]. كيف للرواية أن تنجح في تحقيق مرادها؟ الإجابة في غاية البساطة: تستطيع ذلك بالبدء من جديد بدلا من الإنهاء وبإسناد نفسها لمؤلف آخر، من ضمن شخصياتها، إسنادا تتنازعه الدقة والخطأ، الحقيقة والبهتان، ما يَجْعَلُ النصّ قابلا للقراءة من البداية كرواية من تأليف فاتحة مرشيد ومن النهاية المفترضة (أي المادية)، في نوع من الإبداع الأجناسي داخل ما يسمى بالتخييل الذاتي، كسيرة ذاتية لشخصية روائية وهمية، شخصية لا وجود لها مُتَصَوَّراً إلا في مُخَيِّلة مؤلفة النص الأولى. فهل هذا التدبير عبثي ومجّاني حتى تتغاضى عن تحليله بل الإشارة إليه المقاربات المتعاقبة؟ أليس من المثير حقّاً أن تهيء مؤلفة “لحظات لا غير” للقارئ مقعداً على هذه الأرجوحة الميّادة ما عاود القراءة مَرَّةً تِلْوَ المَرَّة، باعتبار ذلك من بروتوكولات تلاوتها؟
مرافعة قوية هي الرواية، وغايتُها تَأْكيدُ «كوجيطو الكتابة» مُتَرَدِّدّ الصَّدى في أَوْعاء الشَّواعِر، ولا سيّما بالمغرب اليوم، وَمُفادُهُ:
«أنا شاعرة، إذن أنا تلقائيّاً روائية مكرسة بمجرد ما أن أَكْتُب، وما أن أَفْعَلَ ذلك حتى أكون قد خَوَّلْتُ لنفسي هذا الحقّ. أنا سليلة شهرزاد.»
تكتب فاتحة مرشيد الرواية للمرة الأولى، غير أنها لا تقنع بأن تكون في خلال البداية روائيّةً مُبتدِئَةً، ولذلك تنطلق بانزياح، مُحْدِثَةً ارْتِجاجاَ في التقليد الروائي المغربي ثنائيّ الاصطفاف (واقعي تقليديّ في جانب، وحداثيّ تجريبيّ في الآخر)، لأنها تكشف عن موضوع جديد للرواية المغربية ظلَّ مطموسا في بَيْنَ- بَيْنَ سيكولوجيٍّ و بَيْنَ- بَيْنَ بيولوجيّ هو: الهشاشة البشرية، وتَختارُ لِمُعالَجَتِهِ شَكْلاً فنيّاً بِمثابَةِ إعادَةِ تَسْريدٍ(Re-narrativisation) للرواية، من باب التَّجاوُز لا النُّكوص[36]. إنها طبيبة الرواية المغربية ولا شكّ في أنّها مُصَمِّمَةٌ على إثبات المُلاحظة الوجيهة التي وردت على لسان وحيد الكامل، وَخُلاصَتُها أَنَّ: ” الأطباء عندما يكتبون يفاجئون” (ص.132).
ولئن كانت فاتحة مرشيد قد بدأت كتابة الرواية متأخرة، فتجربتها المنطلقة من الذروة لا من السفح تتزود من كثافة صمت طويل. إنها تنتمي إلى فصيلة الروائيين الذين يدشنون انطلاقتهم ناضجين، مثل فهود أو لبوءات تتربص طويلا بفريستها حتى إذا انقضت عليها فبإحكام. وكما يقول بودلير، فيما يروي إدوار سعيد: ” العَمَلُ الوحيدُ الطَّويل حقّاً هو الذي لا نَجْرُؤُ على أَنْ نَبْدَأَهُ”[37].
مراجع
فاتحة مرشيد،
روايات:
– لحظات لا غير، الدار البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي،2007.
- مخالب المتعة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2009
- الملهمات، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2011
- الحق في الرحيل، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2013.
- التوأم، المركز الثقافي للكتاب، بيروت-الدار البيضاء، 2016.
- انعتاق الرغبة، المركز الثقافي للكتاب، بيروت-الدار البيضاء، 2019.
شعر:
- آخر الطريق..أوله، المركز الثقافي العربي، ط.1، الدار البيضاء، 2009.
Pierre Bayard, Et si les œuvres changeaient d’auteur?, Paris, Ed. Minuit, 2010.
Bayard (Pierre), Le plagiat par anticipation, paris, Minuit, 2009.
Borges (J.L.), Fictions, Paris, Gallimard, Coll. « Folio », 1957, et 1965 pour la traduction française.
Char (René), Art bref suivi de Premières allusions, Paris, G.L.M, 1950.
Lucien Dällenbach, Le récit spéculaire, essai sur la mise en abyme, Ed. Seuil, 1977
Elrud Ibsch « La réception littéraire » traduit de l’allemand par Daniel Malbert, Théorie Littéraire : Problèmes et perspectives, sous la direction de Marc Angenot et autres, Paris, PUF, 1989, p.p.249-271.
Genette (Gérard), Fiction et diction, Paris, éd. Seuil, 1979, 1991et 2004.
Genette (Gérard), Figures III, Paris, Éd. Seuil, Coll. Poétique, 1972.
G.Genette, Figures IV, Paris, Éd. Seuil, Coll. Points, 1999.
Genette (Gérard), L’œuvre de l’art, Immanence et Transcendance, Paris, éd. Seuil, 1994, p. 265-266.
G.Genette, Métalepse, De la figure à la fiction, Paris, Seuil, Coll. Poétique, 2004.
G.Genette, Palimpsestes, La littérature au second degré, Paris, Seuil, coll. Poétique, 1982.
Hamel(Jean-François), Revenance de l’histoire, répétition, narrativité, modernité, Minuit, 2006.
H.R.Jauss, Pour une esthétique de la réception, trad. Fr., Paris, Gallimard, 1978.
Lahougue (Jean), Non-lieu dans un paysage, Paris, Gallimard, Coll. « Le chemin »,1979.
Lévi-Strauss(C.), Le cru et le cuit, Paris, Plon, 1962.
Said (Edward W.), Beginning: intention and method, Columbia University Press, 1985.
Wagner (Frank), « Glissements et déphasages, Note sur la métalepse narrative », Poétique n°130, Paris, Seuil, Avril, 2002.
كتاب: “أدب النهاية”،
منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، 2025.
[1] أستاذ النقد ونظرية الأدب والترجمة الأدبية بالكلية المتعددة التخصصات بتازة، جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، عضو مختبر اللغة والأدب والترجمة بالمؤسسة نفسها.
[2] فاتحة مرشيد، لحظات لا غير، الدار البيضاء – بيروت، المركز الثقافي العربي،2007.
[3] نستخدم، من غير تمييز، لفظ “أَثَرِ” و”عمل” كمكافئين لمصطلح (œuvre) في الفرنسية ولا سيما في اللغة التقنية لجيرار جونيط (“الأخير”) وفي مصطلحية جمالية التلقي الألمانية أيضا. من هذا المنظور، “الأثر” / “العمل” هو كل ما يؤدي في نص من النصوص وظيفة فنية . وفي ما يتعلق بأشكال الإبداع المختلفة، يدعو جونيط عملاً كلَّ ما يضطلع بوظيفة فنية في شيء مُعَيَّن. راجع مثلا :
G.Genette, L’œuvre de l’art, Immanence et Transcendance, Paris, ed. du Seuil, 1994, p. 265-266.
[4] صيغة وجود العمل الأدبي في هيئة نص.
[5] صيغة عمل العمل الأدبي في هيئة وظيفة جمالية أو فنية.
[6] بالمعنى اللساني والسيميائي، اتجاه يدرس اللغة من حيث علاقة وحداتها الدالة بمستعمليها، باعتبار أن هذه العلاقة هي ما يحدد الدلالة.
[7] من ذلك مثلا:”وهكذا أنهى اللقاء الأول لصالحه”(ص.10)، “قلت بجدية يتوارى خلفها انفعالي: انتهت الحصة” (ص.13)، ” انتهت الحصة ليبدأ صداها في كل منا”(ص.21)، ” انتهت الحصة بهذه الجملة المثقلة بالدلالات” (ص.25)، “انتهت الحصة وبدأت ذاكرتي كالعادة بعد كل لقاء معه..”(ص.43)، ” تعمدت إنهاء حصصنا هنا…”(48)، ” انتهت الحصص بسرعة قياسية، حتى لا تشي بي الحرائق التي أشعلها صوته ونفخ فيها صمتي”(ص.61).
[8] Lucien Dällenbach, Le récit spéculaire, essai sur la mise en abyme, Ed. Seuil, 1977, p.51.
[9] Gérard Genette, Fiction et diction, Paris, Ed. Seuil, 1979, p.268.
[10] ينقل هانز روبير ت ياوس عن زميله والفغنغ إيزر تعريفه لثنائية النص / الأثر بقصد التبني والمسايرة كما يلي: “العمل الأدبيّ ذو قطبين، يمكن أن نسمي أحدهما القطب الفني والآخر القطب الجمالي: القطب الفني هو النص كما أبدعه المؤلف؛ أما القطب الجمالي فهو تحقيقه من لدن القارئ (…) وإنما يحصل وجود العمل الأدبيّ عن توافق النصّ والقارئ”. راجع:
H.R.Jauss, Pour une esthétique de la réception, traduction française par Claude Maillard, Paris, Gallimard,1978, p.212.
[11] G.Genette, L’œuvre de l’art, Immanence et transcendance, Paris, Ed. Seuil, 1994,p. 275.
[12]Fiction et diction, op.cit., p.271.
[13]C. Lévi-Strauss, Le cru et le cuit, Paris, Plon, 1962, p. 205.
[14] Pierre Bayard, Le plagiat par anticipation, paris, Minuit, 2009.p.154.
[15] Pierre Bayard, Et si les œuvres changeaient d’auteur ?, Paris, Ed. Minuit,2010,p.152.
[16]Cf. Elrud Ibsch « La réception littéraire » traduit de l’allemand par Daniel Malbert dans l’ouvrage collectif : Théorie Littéraire : Problèmes et perspectives, sous la direction de Marc Angenot et autres, Paris, PUF,1989, p.257.
[17] “الانتحال الاستباقي سبق بيانه. أما الانتحال التبادلي فيتمثل في: “استلهام كلا الكاتبين المتباعدين في الزمن بعضهما بعضا”
Pierre Bayard, op.cit.p.154.
[18] لضبط المصطلحين، ينبغي مراجعة:
G.Genette, Palimpsestes, La littérature au second degré, Paris, Seuil, coll. Poétique, 1982. P.16.
وفي تعريف مُحَيَّنٍ للمفهومين، يُحَدِّدُهُما جونيط معاً وَدُفْعَةً واحدة حيث يقول:” النص الفوقي هو نص مشتق من نص آخر بعملية تحويل شكلي أو مضموني أو بهما معاً”. والنص الآخر هنا هو النص التحتي، طبعاً. انظر:
G.Genette, Figures IV, Paris, Éd. Seuil, Coll. Points, 1999, p.24.
[19] يمكن اقتراح ترجمات أخرى عديدة للمصطلح المذكور لا تعدم المناسبة، ك”التجاوز” و”التعدي”، لكنها في تقديرنا لا تَشِفُّ عن المفهوم المراد التعبير عنه شفافية المقابل المقترح، أي “الاشتطاط”. ولا نُنْكِرُ أن صوت الطاء المُكَرَّرَ في لفظ الترجمة هذا مزعج؛ بيد أن أنه مسموع أيضا في لفظ الأصل. كما أن “الاشتطاط” في هذا السياق السَّرداني لا ينبغي أن ينطوي على أي حكم قيمة سلبي ، لأنه من حقوق السارد الطبيعية المحفوظة، بل ومن أقوى تجليات الإبداع الخيالي. ومع ذلك فهو يدل على ما هو خارق للعادة وعلى اللامعقول أيضا، كما أوضح جونيط ذلك. وهذه كلها حيثيات ترجح كفاية ومناسبة المقابل المقترح لأداء المفهوم المُعَبَّرِ عنه بالمصطلح-الأصل الفرنسي.
[20] G.Genette, Figures III, Paris, Éd. Seuil, Coll. Poétique, 1972, p.244
[21] G.Genette, Métalepse, De la figure à la fiction, Paris, Seuil, Coll. Poétique, 2004, P.25.
[22] Jean Lahougue, Non-lieu dans un paysage, Paris, Gallimard, Coll. « Le chemin », 1979.
[23] J.L.Borges, Fictions, Paris, Gallimard, Coll. « Folio », 1957, et 1965 pour la traduction française, p.53-60.
فاتحة مرشيد، آخر الطريق..أوله، المركز الثقافي العربي، ط.1، الدار البيضاء، 2009.[24]
[25] تستغرق هذه القصيدة ذات المقاطع العشرة الصفحات الممتدة من 49 إلى 60 من الديوان.
[26] Frank Wagner, « Glissements et déphasages, Note sur la métalepse narrative », Poétique n°130, Paris, Seuil, Avril, 2002.p.248.
[27] Ibid.p.251.
[28] كلمة تعني: القرار الملكي واجب التنفيذ.
[29] ممّا يدلّ فنيّا على نزعة التذكير التي تواجهها فاتحة مرشيد ضمنيّا نيابة عن المرأة الطامحة إلى كتابة الرواية (حتى بعد خناثة بنونة، الأم الروحية للروائيات) ما أجراه الميلودي شغموم على لسان أحد ذكور روايته : طوق الألاف، دار الحوار، دمشق، 2010، حيث يقول: ” إني في قرارة نفسي، قد لا أعترف لها بالقدرة على كتابة رواية. وإذا ما حاولت، فإن أقصى ما تستطيعه هو أن تكتب عن بعض ذكرياتها واستيهاماتها، أي أسرارها. ما يهمني حقا، وما أبحث عنه بالفعل هو هذه الأسرار بالذات، ليس من باب التجسس، أو التلصص، ولكن من أجل معرفتها أكثر، الأمر الذي يعني امتلاكها أكثر” (ص.56).
[30] G.Genette, Fiction et diction, Paris, Seuil, 1979,1991et 2004, p.235.
[31] ما دام أن الرواية تدور على(وحول) نفسها دائرة على العالم الذي تعرضه.
[32] مما يجمل التذكير به أن الذين علقوا على مفهوم العود الأبدي لا يأخذون بحرفيته يقينا منهم أنه يندرج ويخضع لفلسفة دائرة على الصيرورة والمستقبل والتحول والتجدد، بحيث لا يتصور في هذا السياق احتمال دلالته على عودة الشيء نفسه، بل يترجح احتمال دلالته على نقيض ما يوحي به في ظاهره.فما ينطوي عليه العود الأبدي من تكرار آيل للاختلاف لا إلى التطابق في تقدير جيل دولوز. ثم إن نيتشه نفسه يعود إلى هذا المفهوم ليؤكد في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) أن الثابت الوحيد في الزمن هو تكرار ما هو عابر زائل وما هو انتقالي متحول”، نقلا عن جون فرانسوا هامل:
Jean-François Hamel, Revenance de l’histoire, répétition, narrativité, modernité, Minuit, 2006, p.95.
[33] René Char, Art bref suivi de Premières allusions, Paris, G.L.M, 1950.p.150.
[34] ينقل الميلودي شغموم، هذا الموقف المعادي لالتحاق المرأة بنادي الروائيين على لسان إحدى شخصياته، حيث تقول: “ما ذا يعني كل هذا التهافت من طرف النساء بالخصوص، على كتابة الرواية ؟لا شك أن هناك تغيرا ما، حدث أو بصدد الوقوع، لدى النساء، وربما في المجتمع كله: الرواية، في العالم، مدينة بنشوئها للنساء، كقارئات، القارئات يصبحن كاتبات!”. طوق الألاف، مرجع سابق، (ص.15).
[35] عادة، يلخص هذا الموقف بالأمر الذي وجهه شهريار لشهرزاد قائلا: “احك وإلا قتلتك”.
[36] في هذا الإطار الطيماتيكي والشكلي تندرج رواياتها التي صدرت تباعا بعد رواية “لحظات لاغير” (2007)، بلا استثناء. هي ذي لائحتها:
- مخالب المتعة، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2009
- الملهمات، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2011
- الحق في الرحيل، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2013.
- التوأم، المركز الثقافي للكتاب، بيروت-الدار البيضاء، 2016.
- انعتاق الرغبة، المركز الثقافي للكتاب، بيروت-الدار البيضاء، 2019.
- نقطة الانحدار، المركز الثقافي للكتاب، بيروت-الدار البيضاء، 2022.
[37]Edward W. Said, Beginning: intention and method, Columbia University Press, 1985, p.XI.
كتاب: “أدب النهاية”،منشورات جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، 2025.
