“رواية نقطة الإنحدار أو حين تسحق المدنية الحديثة أبناءها”، دراسة نقدية للدكتورة فاطمة واياو حول رواية “نقطة الانحدار” لفاتحة مرشيد، بجريدة العلم الثقافي ليوم الخميس 29 شتنبر 2022، العدد 25367.
رواية نقطة الإنحدار أو حين تسحق المدنية الحديثة أبناءها
بقلم د. فاطمة واياو
الرواية كفن للتغيير هي باختصار فن رسالة الفرد بامتياز، هل نحن في عصر التغيير واستشرافه بعدما أصبحت الرواية العربية راهنا تعرف نهضة وألقا مستفزا ومتجددا، وهو أمر يحيلنا على ما عرفته أوروبا القرن التاسع عشر، قرن التغيير والحداثة في المجتمعات الغربية حيث واكبت الروايات والسرديات الكبرى الأفكار والنظريات الحداثية والتي استطاعت ان تعبر بأوربا من مستنقع التخلف والتمييز والظلم إلى مرفأ الحرية والحداثة والتقدم والعدالة؟
رواية “نقطة الإنحدار” للكاتبة والشاعرة والطبيبة الدكتورة فاتحة مرشيد هي رواية التغيير أو لنقل بشكل أكثر دقة هي رواية الوعي بحياة الفرد المعاصر، وخصوصا حياة المنفي في عصرنا الحالي، هي أيضا رواية الفاجعة والصدمة في عالم مادي معولم نعيشه الآن وفي كل الهنا. ورغم أن الروائية اختارت أن تقارب مأساة اجتماعية وآفة في المجتمع الأمريكي، فإن مأساة الإنسان المعاصر واحدة لا تختلف أو تتجزأ، إنها مأساة اللامبالاة والتناقض الصارخ بين عالمين متباينين في مساحة ضيقة، ذلك أنك وأنت تقف في مواجهة أضخم مراكز المال والأعمال في العالم بمانهاتن Manhattan فأنت في نفس الآن لست بعيدا عن أكبر تجمع للمشردين على وجه الأرض. بهذه الصورة المتناقضة والمفجعة استطاعت الروائية فاتحة مرشيد أن تقف على مأساة الإنسانية في عصرنا المعولم هذا. لماذا إذن الهومليس في أكبر المدن تمدنا وتطورا في العالم؟
ظاهرة الهومليسhomless أو البدون مأوى أو المشردون سميهم ما شئت هي تسميات وعناوين لظاهرة واحدة ولواقع أصبح عنوان الحياة المدنية المعاصرة، إنها أكبر من ظاهرة وأعمق من حالة اجتماعية إنها مشرحة حاولت من خلالها الكاتبة أن تشرح المجتمع الأمريكي، الذي وصل إلى حافة الإنهيار الإنساني والأخلاقي. ” كنت أعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية لها الصدارة في الرفع بالإنسان إلى أعلى ولم أكن أشك في أن لها الصدارة في الرمي به إلى الأسفل كذلك…” ص 51 ، وهل يمكن ان تختلف هذه الصورة عن ما تناقلته وسائل الاعلام منذ أشهر قليلة عن المصور الفوتوغرافي رونيه روبير Rennet Robert، والذي سقط أرضا بوسط باريس في لامبالاة من المارة ليلفظ أنفاسه بقلب عاصمة الانسانية والثورة الأخلاقية والاجتماعية كان ذلك في 18 يناير 2022 . لم يكن من المشردين بالرغم من أن التشرد لا يبرر عدم الإكثرات بالآخرين، والنجدة في حالة الخطر، فقط خانه توازنه بفعل العمر المتقدم، مع ذلك لم يثر اهتمام أحد،الجميع يهرول، أليست هذه الصورة هي مأساة الإنسانية المعاصرة. لم يثر روني روبير Rene Robert اهتمام أحد رغم صقيع الرصيف الذي احتضنه الى أن لفظ أنفاسه الأخيرة ليس بفعل السقطة بل جراء البرد القارس ، تجمدت الدماء في عروقه وتوقف نبضه إلى الأبد. هي صورة واقعية لا تختلف بتاتا عن ما جادت به مخيلة المبدعة فاتحة مرشيد. رغم أن التخييل في رواية “نقطة الإنحدار” كان نابعا من واقع وحقائق معاشة على أرض الواقع، فالرواية كانت أيضا تصويرا ونقلا آمنا لواقع العالم السفلي حيث يجهض الحلم الأمريكي المصبوغ بالاكليشيهات الهوليودية ليغدو مجرد وهم أمريكي وليس حلما أمريكيا.
يتخذ نص الإنحدار أبعادا رمزية متعددة، فقد تمكنت الكاتبة ببراعة أن تبرز مغزى هذه الرموز وهذه الأبعاد. فمثلا نقرأ على لسان جوردن كيف أن رمزية الإغتسال تأخذ أبعادا عميقة في الرواية، فالإغتسال هو ما يحفظ للإنسان آدميته، حقيقة قد تغيب عن الكثيرين منا فكيف يمكن أن نعي ونستوعب إحساس جوردن مثلا حين يجعل من فعل الإغتسال واقيا وسدا منيعا بينه وبين السقوط في الذل والهوان الذي لا يوازيه سوى رائحة العفن وماعلق بالجسد الإنساني من أدران. الإغتسال هو فعل بسيط ولكنه هو ما يحمي كرامته، فكرامة الهومليس هي نظافة جسده، فقط، لم تعد هي العمل، والسكن والاستقرار والعائلة بل فقط الاغتسال.
أيضا رمزية الرحيل أو النفي عن الذات وعن الهوية، وهو ما يمثله الغالي، فرغم نجاحه في تحقيق حلمه بالهجرة والإندماج في مجتمع المال والأعمال بأكبر بورصة عالمية “وول ستريت” إلا أنه ظل غريبا عن ذاته، فلم يتمكن من الرحيل وهجرة فكره وروحه الماضية، كان معارضا لكل ما يمت لأبيه من صلة لكنه في لحظة الإنهيار الكبير برز كنسخة طبق الأصل عن والده إن لم نقل نسخة مشوهة عنه من خلال موقفه من ابنته التي تسبب في ضياعها وبالتالي ضياعه وانحداره الأبدي.
تتأرجح الرواية في مقارنتها بين المجتمع المغربي ولو بشكل غير مباشر والمجتمع الأمريكي، هو مجتمع غارق في فردانيته ولكن مع ذلك يرفض أن يكون أي واحد من الأمريكيين نماما، فهل المجتمع المغربي مجتمع نمام، وهل فعلا النميمة توازي الإهتمام أم أن فردانية المجتمع الأمريكي هي آفته.
نجد في صفحة 54 اسم نقطة الانحدار حيث تستقي الكاتبة التسمية من منطقة في نيوزيلاندا في رمزية عالية عن معنى الإنحدار، قد تبدو هذه الصورة وهمية حيث يحاول البطل جوردن هنا البحث عن الوجه الإيجابي للإنحدار أو التشرد، غير أن الروائية ومن خلال الحوار بين جوردن وحميد الراوي رفعت من شأن الإنحدار ليكون فرصة للتأمل في الحياة والكون والإنسان في علاقته بالتشرد والمنفى والوجود. هكذا حين يفترش المشرد الأرض ويتلحف العراء يغدو فيلسوفا وقد فهم تقلبات الحياة بمدها وجزرها. تغدو الحياة بلا معنى حين يتم ربط كل الخير والعطايا بالمقابل، حين أصبح المقابل ماديا أو معنويا هو ما يحكم العلاقات الانسانية وعلاقات الناس بكل القيم التي تجمعهم..
لكن حين تتحدث الروائية عن منافع التكنولوجيا في حياة المشردين، يبدو الواقع مرة أخرى أكثر سريالية، أجل هذا الواقع للمدنية المعاصرة وللانسان الآني، بتعبير أدق فالآلة أو التكنولوجيا أصبحت أكثر إنسانية ورحمة ممن اخترعها، بفضلها يستطيع المشرد الإحتفاظ بما تبقى له من إنسانيته وكرامته، من خلال تواصله مع آخرين وراء الشاشات يمدون له يد المساعدة في الوقت الذي يتجاوزه مار مقتدر في عجلة من أمره غير آبه بجوعه أو برده او عريه، إنها قمة التناقضات التي تزخر بها الحياة المعاصرة والتي أحسنت الكاتبة مرة أخرى أن تنقلها بلغة شفافة شاعرية وصادقة.
ليس لي منفى لأقول لي وطن كما قال محمود درويش :
ولعل أقسى درجات هذا المنفى هو أن تصبح العودة ولو في تابوت حلما محطما، فالغالي لم يحصل حتى على ترف أن يعانق جثمانه أرض الوطن بعدما تسبب الوباء وباء فيروس كورونا في وفاته. إنه المعنى الواضح للإنحدار حين يصبح بديلا عن الحلم الأمريكي الصاعد وأ يضا حين يصبح المنفي متأرجحا بين نارين: الصدمة من واقع المهجر وصعوبة العودة أو التراجع، الإستمرار في المعاناة بأض الغربة، هو عنوان عريض لمصير المهاجر المهووس بتحقيق الحلم أو لنقل بالوصول لوهم الحلم الذي سرعان ما ينهار، في بيئة لا تعترف سوى بالمتفوق رأسماليا لا غير، لا وجود للمشاعر والأحاسيس ولا للأفكار والمبادئ ولا حتى للأمن الإجتماعي والصحي على غرار الديمقراطيات الغربية الأخرى. وحده المال والنجاح المادي الضامن لبقاءك الوجودي على وجه الأرض، فحين ينهار الحلم تنحدر لقاع وجودي أصبح يفرض نفسه مزاحما ناطحات السحاب وفي نفس الآن لا يثير أي فضول. هو صارخ ولكنه مستتر لأن المارة لا وقت لديهم فهم في عجلة من أمرهم، يحذوهم الخوف إن لم نقل الرعب من الإنحدار بدورهم لهكذا قاع، في غفلة من خلط الأرقام وضياع الصفقات.
هذا هو الواقع الذي صورته ببراعة الروائية والشاعرة فاتحة مرشيد، حينما تطلعنا على قصة انحدار الغالي إلى التشرد ليصبح واحدا من آلاف الهومليس أو البدون مأوى بكبريات المدن الأمريكية حيث تبدو الصورة مزدوجة لحد التناقض الصارخ بين المدنية والتحضر والغنى الفاحش وبين الفقر والإهمال والإحتياج في أبشع صوره. حيث ينكمش الفرد ليصبح لاشيء وغير مرئي، يغيب الفرد الأمريكي حينما يصبح عاطلا وبدون مأوى، وهو نفسه الفرد المقدس حين يحسن اللعب بالأرقام ويتمكن من تأمين العمل والسكن. فهل الحلم الأمريكي هش إلى هذه الدرجة؟أم انه بالنهاية مجرد وهم؟
ما يثير الإستغراب هو أن كل القيم الإنسانية والمبادئ الفلسفية التي يمكن أن يؤمن بها المواطن الأمريكي لن تجدها سوى عند جوردن وأمثاله ممن عانقوا الشارع وأصبح الرصيف سريرهم والسماء غطاءهم. وهنا أ حسنت الروائية الإنصات لأفكار وأحاسيس المشرد، لتطلعنا على المشرد كإنسان وليس فقط جثة متسخة كما يصادفها المارون على عجلة من أنفسهم، المشرد يحسن الكلام بل إنه يحسن التفكير ويصبح إنسانا بما تعنيه هذه الكلمة من معاني الشعور بالآخرين، فجوردن هو من أنقذ حياة الغالي الذي افترش سكة القطار زاهدا في عالم لم يمنحه سوى الوهم، وهو نفسه وجد الدفئ على يد مشرد آخر. معاني التضامن بين الهومليس تجعل قارئ الرواية يستشعر هذا التناقض بين حياة الهومليس وحياة الآخرين، وكأن قيم الإنسانية ترحل عن عالم الأناس العاديين لتستقر في الشارع معانقة ما تبقى من إنسانية المشرد بل ولتزرع من جديد قيم التضامن والتآزر والحب غير المشروط بينه بين رفقاء درب الاحتياج واليأس والإهمال. فهل هي مصادفة أم حقيقة تابثة عن المشردين عبر العالم حين لم يلتفت لسقوط المصور الفوتغرافي الفنان روني روبير Rene Robertسوى رجل مشرد والذي حاول إسعافه غير أن التسع ساعات على رصيف بارد لم تمهله ترف النجاة من موت محقق. هذه المصادفة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن فاتحة مرشيد لم تكتف بالتخييل بل إن نصها هذا جاء نتيجة دراسة معمقة وواقعية للمجتمع الأميريكي الخفي والمنفلث من شاشات هوليود وخطابات السياسيين.
تقنية الغرابة التي يمكن أن نستشفها من النص السردي “نقطة الإنحدار”، تنم عن أن الكاتبة تروم الإشتغال على الأسلوب الشعري في النص الروائي، ولكن أيضا تطويع اللغة السردية لخدمة الواقع الغرائبي. تذهب فاتحة مرشيد في نصها الأخير إلى الصدمة في مداها البعيد، معتمدة لغة شفافة، وعميقة في نفس الآن، تشعرك وكأنك أصبحت جزءا من عالم المشرد والمنفي/المهاجر، والفقير والمدمن، بعيدا عن أي نوع من التشفي الذي ما فتئ المجتمع يغرسه في أبناءه. هي رواية الرسالة إن صح التعبير، ترسل مرشيد رسالة إنذارية للمجتمع الإنساني ككل بأن لا أحد في مأمن من السقوط او بتعبير النص الروائي الجميل الإنحدار….
ويظل الأمل نابعا من الحب
رغم كل هذه الآلام والمآسي والإنحدارات، إلا أن الروائية فاتحة مرشيد حافظت على الكثير من الأمل والحياة حين جنبت جوردن السقوط النهائي، لتجعله نموذجا للناجي من براثن التشرد مؤسسا لحياة جديدة التي لم تكن ممكنة إلا في وجود الحب. وهذا التفاؤل لم يكن قائما على أحلام طوباوية ذلك أن نهاية الغالي تثبت أن التشرد آفة ومصير قاس إلا أن التشرد في ظل المنفى هو أقسى حيث يغدو الصعود مستحيلا. هذه النهاية المأساوية للغالي تضعنا أمام سؤال عريض: ماهو الإنحدار الأقسى التشرد أم النفي؟
تقترب إذن الإنسانية بخطى ثابتة نحو الإنحدار، لا يفصلها عن هذه النقطة سوى لحظات من التأمل والتفكير العميق في ذواتنا والعودة لسبر أعماق إنسانيتنا علنا نستشف ما تبقى منها وهي محاولة لربما ستجنب الإنسانية من السقوط المدوي في نقطة اللاعودة.. نقطة الانحدار.
إدنبرة في 13 يونيو 2022
جريدة العلم الثقافي
الخميس 29 شتنبر 2022، العدد 25367.