“نقطة الانحدار . . . رحلة المتفوّقين الأفذاذ إلى متاهة المشرّدين”، الدكتور عدنان حسين أحمد، جريدة العالم العراقية، العدد 2866، الأحد 13 مارس 2022
نقطة الانحدار . . . رحلة المتفوّقين الأفذاذ إلى متاهة المشرّدين
لندن: عدنان حسين أحمد
صدرت عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء رواية “نقطة الانحدار” للشاعرة والروائية المغربية فاتحة مرشيد، وهي الرواية السابعة في رصيدها السردي الذي يتصف بالجرأة، والتدفّق، وخرق الموضوعات المحظورة أو اللامُفكَّر فيها، وخاصة في رواياتها الست السابقات وبعض قصصها القصيرة. وربما تكون هذه الرواية هي الأكثر مُهادَنة وتجنبًا للثيمات الحسّاسة التي دأبت فيها مُرشيد على فضح المسكوت عنه وتعرية منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية سواء في المغرب أو في العالم العربي الذي يخشى حتى الآن من هتك حُرمة المثلث المتساوي الأضلاع الذي يتمثّل بـ “الدين والجنس والسياسة” ولا يستطيع أن يقوّض قدسية هذه الأركان الثلاثة التي تجاوزها غالبية الروائيين في مختلف أرجاء العالم.
لم يتساءل الراوية حميد، وهو التلميذ النجيب، في الجملة الاستهلالية عن السبب الذي يكمن وراء حصول “الغالي” على المرتبة الأولى دائمًا؟. ومع أنّ الفارق ضئيل بين المرتبتين الأولى والثانية إلاّ أنّ الغالي كان يريد أن يكون الأول دائمًا، وأنّ منافسته لم تكن مع حميد وإنما مع العالَم برمته. تبدو “نقطة الانحدار” رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث مع أنّ نسقها السردي يزخر بالوقائع الدرامية المُفجعة مثل انتحار أم الغالي، وموت أبيه، ووفاة ابنته مع صديقها طوني بحادثة اصطدام الدراجة النارية، ومَقتل شارلي في أحد المتاجر الكبيرة بسان فرانسيسكو. أمّا الصدمة الأكبر فهي إصابة “الغالي” نفسه بڨايروس كوڨيد 19 ودفنه على وفق شروط الجائحة في مدينة لوس أنجلوس.
ولكي نتتبّع المسارات السردية لهذه الرواية بدقة لابد من الوقوف عند الشخصيات الرئيسية والمؤازرة التي تتناسل من قصة إطارية تحتوي كل القصص الثانوية وتلمّها ضمن ثيمات مركزية تشعُّ وتتماوج على مدى الفصول الثلاثة والثلاثين للرواية. ويمكن اختصار الثيمة التي تتعلق بـ “الغالي” وتتمحور عليه هي بصعوده السريع ونجاحه في مضاربات أسعار البورصة، فـ “هو الذي يشتري المال بالمال” ولكنّ أرباحه الفاحشة لا تحميه من الخسارة الكبيرة، والإفلاس. وهذا ما حدث تمامًا لـ “الغالي” بعد عشرين عامًا من سفره إلى أمريكا، وبلوغه ذروة النجاح، ثم تعرّضه للسقوط المدوّي حيث باعت زوجته ربيبيكا الپانتهاوس، وطلبت الطلاق، وانتقلت إلى مكان مجهول، فيما تحوّل “الغالي” إلى مشرّد Homeless تتلقّفه الشوارع والأرصفة والمناطق المهجورة.
تراتبية السيّد والمَسُود
لابد من الإشارة إلى الصداقة الخالصة التي تربط بين الغالي وحميد، وأكثر من ذلك فإن والد حميد هو الساعي والسائق الخاص للحاج عبدالله البردعي. وعلى الرغم من تراتبية السيد والمَسُود إلاّ أنّ حميدًا كان طالبًا ذكيًا هو الآخر وقد طلب منه البردعي أن يُدّرِس مادة الرياضيات لابنته حليمة التي تُحب قراءة الروايات العاطفية، وتحلم بدراسة الأدب الإنگليزي. كما التمسه في الأيام الأخيرة أن يسافر إلى أمريكا نيابة عنه ويتحرّى عن ابنه الذي لا يطلب المساعدة من أحد حتى وإن كان يمرّ بظروف قاسية. ويبدو أنّ إحساس الأب لا يخيب. والغريب في الأمر أنّ الغالي كان يريد أن يتفوق على والده، ويثبت له بالدليل القاطع أنه الأذكى والأقدر على الوصول إلى القمة.
وبموازاة هذا المسار نتعرّف على حميد، وهو صديق الغالي في طفولته وصباه وشبابه ولكن ثمة فرق اجتماعي بين الأسرتين، فالأولى ميسورة الحال انتقلت من مراكش إلى مدينة “ابن جرير” بعد انتحار الأم، ومزاولة الأب لعمله كموثِّق للعقارات، أمّا الثانية فهي أسرة متواضعة تتألف من حميد، ووالده السائق عند البردعي، وأمه المعاقة التي تستعمل كرسيًا متحركًا. ما يميز حميد هو ألمعيته في الرياضيات فلاغرابة أن يحصل على الدكتوراه وينتقل إلى مدينة ابن جرير ليدرِّس الرياضيات في جامعة محمد السادس التي أُفتتحت حديثًا في المدينة. وبما أنه يحب حليمة ابنة البردعي فقد طلب من والده أن يتقدّم لخطبتها له بعد أن سمع بأن رضوان، ابن صديق الحاج البردعي، العائد من رومانيا، الذي درس طب الأسنان، وتخصص في تقويمها يروم الزواج منها وهو ينتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية المرفّهة، لكن والد حميد اعترض بشدة وزجره قائلاً:”رحِم اللهُ امرأً عرف قدر نفسه”. ومع ذلك فقد تقدّم حميد بنفسه فقُوبل برفضٍ قاطع ولاذع ومؤلم ووصفه البردعي بالمتسلِّق والخائن الذي لم يحفظ الثقة والأمانة التي أودعها إياه. فينكسر حميد وتتزوج حليمة دون إرادتها من رضوان لكن هذه الزيجة المرتبكة تنتهي بالطلاق وتعود في خاتمة المطاف إلى حضن حبيبها الأول بعد أن تستقر في مدينة ابن جرير وتأتي إلى حميد لتخبره بأنّ والدها يريده أن يسافر إلى أمريكا ويبحث عن ابنه المفقود الذي قطع كل صلاته بالعائلة والمعارف والأصدقاء في المغرب بعد أن فقد عائلته وتحوّل إلى مشرّد لا يلوي على شيء.
يمكن القول بأن ثيمة “نقطة الانحدار” هي “التشرّد” التي يمكن أن نتلمسها في العديد من شخصيات النص السردي من بينها “الغالي” الذي انحدر من القِمة إلى الهاوية السحيقة، وجوردن الذي وجد نفسه على قارعة الطريق بعد مشاركته في الحرب الفيتنامية، وشارلي الذي كان يتعرض للاغتصاب على يد زوج أمه فترك المنزل واتخذ من مَخرجٍ للطوارئ في أحد المتاجر الكبيرة ملاذًا له، وجيري، مهندس الكومبيوتر الذي أفلست شركته، وفقد بيته، ووجد نفسه في العراء، ومورين التي غادرها حبيبها فألْفت نفسها على قارعة الطريق أيضًا. كما تورد الروائية أسماءً للعديد من المشرّدين الذين سوف يصبحون نجومًا في السينما والتلفزيون أمثال سلفستر ستالون، وتشارلي شابلن، ودانييل كريغ وغيرهم الكثير ممن سكنوا في الحدائق أو متروهات الأنفاق. وكما تقول مورين:”لا أحد في الولايات المتحدة الأمريكية مُحصّن ضد التشرّد” حيث يسقط المُضاربون والمهندسون ورجال الأعمال من القِمة إلى الحضيض فلاغرابة أن يتداعى الغالي وهو القادم من المغرب ويفقد الزوجة، والبنت، والشقة السكنية الفخمة، ويتخذ من سيارته مأوىً له.
تقنية أفلام الطريق
تدور معظم أحداث الرواية في ثلاث مدن رئيسية في الولايات المتحدة الأمريكية وهي نيويورك وسان فرانسيسكو ولوس أنجلوس حيث تستعير الروائية تقنية “أفلام الطريق” حينما يستأجر حميد سيارة ويتنقل بها من سان فرانسيسكو ويمرّ بالعديد من المدن قبل أن يصل إلى هدفه في لوس أنجلوس. وثمة استرجاعات كثيرة تطرأ على ذهن حميد وتُوقظ فيه مشاعر المحبة والاشتياق إلى حليمة التي أحبها وهي صبية يافعة وظل وفيًا لها وهي متزوجة إلى أن تطلّقت من رضوان واستقرت في منزل أبيها من جديد لتقترن بالشخص الذي أحبته من الأعماق.
يتقاسم حميد مع الغالي دور البطولة وربما تترجّح الكفّة لمصلحة حميد فهو الطالب الذكي حتى وإن أتى بالمرتبة الثانية، ويحب الرياضيات أيضًا بوصفها “لغة الكون” وينال فيها درجة الدكتوراه، كما يحب إلى جانبها تمرين “املأ الفراغ بالكلمة المناسبة” التي تُعيد إلى الجملة المُفتّتة اكتمالها ورونقها، وتنقذها من الضياع. وسيكون لهذا التمرين أهمية كبيرة في قوة الحبكة الروائية ومتانتها التي سوف تتوضح في خاتمة النص السردي. يتميّز دور حميد أيضًا بتوفره على قصة حُب عميقة توقفت لبعض الوقت لكنّ أوراها ظل متقدًا طوال مدة زواج حليمة، وسوف تُتوّج هذه القصة بالزواج الثاني الذي يُفتَرَض أن يحضره الأخ الغائب الذي تغرّب لمدة عقدين من الزمان، وحينما يُصبح ضحية لڨايروس كورونا يكمل حميد مشروعه المكرّس لتقديم الخدمات للمشردين في المدن المغربية ومساعدتهم في الحصول على الطعام والشراب والكِسوة والاستحمام والسكن على غِرار الجمعيات الخيرية التي تُعنى بالمشرّدين الأمريكيين. وإذا كان المسار السردي للغالي ساكنًا، أو هكذا يبدو، في الأقل، فإن مسار حميد هو الأكثر حركه ونِبضًا وحيوية من مسار صديق طفولته وشبابه الذي أمضى حياته الدراسية في پاريس متفوقًا في الاختصاص الذي أحبّه وشغف به منذ الصغر.
وعلى الرغم من الزجر والتقريع والإهانة التي لقيها حميد من الحاج عبدالله البردعي لأنه تطاول وطلب يد ابنته للزواج إلاّ أنّ هذا الأخير سيطلب منه معروفًا وهو السفر إلى أمريكا للبحث عن ولده الغالي الذي انقطعت أخباره نهائيًا فيمنحنا، نحن القرّاء، فرصة للتعرّف على كبريات المدن الأمريكية، ولعل الأهم من ذلك كله هو التعرّف على الشخصيات المشرّدة في هذه المدن الثلاث، وبعض الأحياء التي يحدث فيها العنف، وتقع فيها الجريمة، ويتزايد فيها أعداد المشرّدين.
ليس بالضرورة أن نتوقف عند كل الشخصيات المشرّدة لأنها كثيرة ولا يمكن رصدها في هذا المجال الضيّق. فـ “مورين” التي أشرنا إليها سابقًا هي التي أخبرت حميدًا بأن الغالي موجود في سان فرانسيسكو وهذا الأمر سيفرض عليه السفر بالطائرة من شرق القارة إلى غربها وأنّ الغالي موجود في تقاطع شارع كاسترو، وثمة ماركيت على مقربة من رقم الباص رقم 24 كما تقول المعلومات التي وردت إليها في رسالة الواتسآب.
يلتقي حميد بعد وصوله إلى سان فرانسيسكو بالسيد جوردن الذي يلقّبه البعض بـ “الفيلسوف” على سبيل السخرية، وهو أصلاً لا يُحبِّذ كلمة السيّد فكيف يقبل بالفيلسوف مع أنّ أفكاره وتصوراته الذهنية تنمُّ عن شخصٍ مثقف قريب من الفلسفة، وبعيد عن التشرّد والصعلكة؟ وبما أنّ جوردن يعرف مكان الغالي ويستطيع مرافقة حميد للوصول إليه لكن بشروط تعجيزية أوّلها أنه لا يتحرّك من دون كلبه روكي، وأن يستأجر سيارة لأن الطريق الساحلي من سان فرانسيسكو إلى لوس أنجلوس هي من أجمل الطرق في العالم، وأن يشتري له الشراب في أثناء الرحلة، وألاّ يُوقظه إذا كان نائمًا بعمق لأي سبب كان، وبعدها يُوصله إلى الغالي ثم يفترقان.
التعالق الميتاسردي
تقوم الروائية فاتحة مرشيد بحيلة سردية تدع جوردن يؤجل موعد السفر إلى ما بعد الغد كي يُتيح لحميد أن يتجول في سان فرانسيسكو ويزور سجن الكاتراز خاصة وأنه قد سبق له أن شاهد فيلم “الهروب من الكاتراز” كي يمنح الروائية فرصة للتعالق الميتاسردي حتى وإن كان بصورة بصرية. كما يُتيح هذا التأجيل زيارة ميشن ديستريكت وهي إحدى أعمدة الثقافة في المدينة التي تحتفي بالمثليين وترفع صورهم على الحيطان. وعلى الرغم من هذا الثراء والتفتّح الكبيرين إلاّ أن عدد الفقراء والمشرّدين كان يرتفع بشكل لافت للأنظار في البلد الذي يقود العالم،ويتصدّر تقدّمه العلمي.
تُرصّع مرشيد نصها السردي بالأمثلة المؤازرة فحينما تتحدث عن المثليين في حي كاسترو بسان فرانسيسكو تأتي على ذِكر هارفي ميلك وتشير بأنه أوّل مِثلي أُنتخِب في مجلس المدينة سنة 1976م، وتشوّق القارئ لمعرفة المزيد عن هذا الشخص الإشكالي وتتبع آرائه وأفكاره في هذا الصدد الذي يخص المثليين والمتحولين وثنائي الجنس وما إلى ذلك. وعلى الرغم من مساحة الحرية المتاحة في أمريكا إلاّ أنّ هارفي قد انتهى نهاية مأساوية حيث تعرّض للاغتيال بطلق ناري في رأسه لكن ذِكره مايزال يتردد حتى الآن.
تتعالق الروائية فاتحة مرشيد مع بعض الحِكَم، والأمثال الشعبية، والأغاني التراثية، فالراوي العليم حميد يستذكر القصة التي سردها والده عن شخص أراد بيع بيته ولكنه اشترط على المشتري أن يعرف مالذي فعله المالِك حينما دخل إلى منزله للمرة الأخيرة قبل أن يبيعه فخمّن المشتري بأنه قد صلى فيه للمرة الأخيرة ولكنه أخطأ في واقع الحال حيث دخل الرجل إلى منزله وتعرّى من ثيابه تمامًا وأخذ يقول:”داري يا داري ستّارت عواري”. وهذه إشارة ذكية إلى أنّ الدار هي المكان الوحيد الذي يستر عيوبك، والسترُ لغةً هو الإخفاء الذي يمنعك من السقوط في الفضيحة أمام الملأ. هذا التطعيم أو الترصيع، إن شئتم، تستعمله مرشيد في عدة أماكن من كل رواية ويأتي أُكُلُه غالبًا لأنه يصبح جزءًا من لُحمة النص وسداته ولا يكون طارئًا أو غريبًا على النسق السردي. وسنُورد مثالاً لتوظيف أغنية “أمانة” وهي من أغاني فرقة “لمشاهب” المعروفة في المغرب لأنّ لها علاقة متينة بالفقر والغنى، والغياب والحضور، والميلاد والموت وما إلى ذلك من ثنائيات ذات دلالة عميقة حيث تقول كلمات الأغنية:”تَتْعنَّى بالمال لازم من لفقر/ تَتْعنَّى باليل لازم من لفجر/ تَتْعنَّى بالعمر لازم من لقبر/ وظلام الليل ما يدوم/ وأيام الغيبة ما تدوم”.
تعود مرشيد غير مرة إلى قضية الفقر والمشردين خاصة وأن الراوي يتواجد بالقرب من وادي السليكون حيث يتساءل:”كيف يُعقل أن يكون البلد الذي يُنتج أكبر عدد من العلماء والباحثين والحاصلين على جوائز نوبل والمُستقطِب لأذكياء العالم هو نفسه الذي يُنتج أكبر عدد من المشرّدين؟”. وهذا تساؤل مشروع يبيّن لنا كيف أن أمريكا يمكن أن ترفع الإنسان إلى الصدارة ويمكن أن تطيح به إلى أسفل السافلين.
التواصل مع النبع الأول
أشرنا إلى أن جوردن ينطق بالحِكم والأقوال المأثورة التي علّمته إياها الحياة الشاقة التي عاشها. فهو يقول عندما يبحث عن الأفكار في القُمامة:” إنّ أهمّ الأفكار تنبثق من الظلام . . . من الجزء السفلي . . . من قاع الأشياء” كما يتواصل مع قدراته البدائية لكي يصل إلى النبع الأول الذي شرب منه كأس المعرفة الأولى. يعتقد جوردن أن الحياة شيء لا يُطاق ولكنه بالمقابل يؤمن بأنّ الحُب وحده يلطِّف الحياة. وقد أقدم ذات مرة على الانتحار لكن روكي هو الذي أنقذ حياته مستعينًا بغريزة الوفاء التي جُبِل عليها. لا يعتنق جوردن أي عقيدة سماوية لكنه عرف الله وأيقن به عندما وقع بصره على شلالات نياگارا ولمس معنى البهاء والجلال والعظمة.
تتعمّد فاتحة مرشيد أن تُضاعف من جرعة التشويق فتجعل حميدًا يتردد في التواصل مع حليمة ولم يبعث لها حتى رسالة قصيرة يُخبرها بعثوره على شقيقها الغالي الذي يعيش في وضع لا يُحسَد عليه. لابد من الإشارة إلى أنّ حميدًا قد تيقّن من حبه لجوردن أو ارتياحه له في أضعف الأحوال وهذا ما حفّز الأخير للقول بأنه سيخبره بقصته إذا ما أصبحا صديقَين. فثمة خصوصية لكل قصة ولا يصحّ البوح بها للغرباء.
لم يصرّح جوردن بكل طلباته دفعة واحدة، فثمة رسالة وجدها في جيب السترة التي وهبها إياه شارلي ويريد إيصالها إلى امرأة في لوس أنجلوس لكن حميدًا أصرّ على فتحها وقراءة مضمونها خشية أن تتضمن سرًّا خطيرًا. ولم تكن هذه المرأة سوى أمه السيدة ميريل جونسون التي ستعرف أخيرًا بأنّ ابنها شارلي كان يتعرّض للاغتصاب من قِبل زوجها الثاني الذي طعنه شارلي وهرب متصورًا أنه قد قتله لكنه نُقل إلى المستشفى وتم إنقاذ حياته. وحينما قرأت الأم الرسالة التي سلّمها إيّاها جوردن تحاملت عليه كثيرًا وطلبت منهما البقاء معها كي تصفّي حسابها مع هذا الوغد الذي تزوجته واكتشفت لاحقًا أفعاله المنحطة، وقررت سحب المفتاح منه وطردته من الشقة إلى الأبد.
يروي جوردن قصته لميريل بحضور حميد ويخبرها بأنه من مهمّشي الحرب. وكان مؤمنًا بالوطن، ومُستعدًا للتضحية بحياته من أجله ولكنه حينما عاد وجد نفسه بلا أبٍ وبلا بيت. وقد أحبّ فتاة من مدينة مجاوره لكنه ما إن عاد من الحرب حتى وجد أنها قد تزوجت وأنجبت طفلين، فرحل إلى نيويورك واشتغل في مطعم صيني وأحبّ “باوو” وهي امرأة فيتنامية، واستقرّ في شقتها فأنجبت له كريستوفر لكنها بدأت تنزعج من تصرفاته الغريبة وكوابيسه الليلية المتكررة فغادرت المنزل وعادت إلى أهلها في فيتنام تاركة على الطاولة رسالة تقول فيها بإنها آسفة جدًا على ما فعلته لكنها عاجزة عن الاستمرار معه وأنّ عليه أن يعالج نفسه. ولم تترك له عنوانًا أو أي وسيلة إتصال. ولعل الشيء المهم في هذه الشخصية هو الثيمة المنبثقة عنها حيث يقول جوردن:”أحيانًا أفكّر أن فيتنام قد انتقمت مني وأخذت ابني الوحيد أنا الذي أخذتُ منها أبناءً لا يُعدّون”. وعندما انتقل من الحيّ الصيني إلى مطعم إيطالي ببروكلين أهداه نادل لطيف كتاب “حوار مع الله” لنيل دونالد وولش وهو الذي فتح باب القراءة على مصراعيه. ثم عمل حارسًا في مخزن للكارتون وهناك تعرّف على روكي الذي مات صاحبه لأنه لم يستطع شراء الأنسولين بسبب حرمانه من الرعاية الصحية في أغنى بلد في العالم. وهنا تنتهي قصة جوردن الذي يقيم علاقة عاطفية مع السيدة ميريل ويُدِل حميدًا على مكان “الغالي” الذي يقيم في مرآب للسيارات بجوار مقهى ستاربوكس على مسافة كيلومترين من منزل السيدة ميريل جونسون.
المجتمع الأمريكي يعاقب الفاشلين
أما قصة جيري التي أشرنا إليها سابقًا فهي تنطوي على ثيمة أخرى مؤازرة مفادها أنّ “الفشل في أمريكا يُعاقِب عليه المجتمع بشدة، تصبح منبوذًا لأنك فقدت المناعة التي يكسبها النجاح الذي يُقاس بالمال”. لا حاجة بنا للتوقف عند قصص مشرّدين آخرين لأنها تدور على نفس المنوال السابق الذكر فكلهم خاسرون في نهاية المطاف مثل ماما أوليفيا التي أنفقت كل ما تملك على ابنها الوحيدة الذي مات بجرعة زائدة، لكننا سنأتي على ذكرها لأنها تعرف من كثب “الغالي” وتتعاطف معه وقد أخبرت حميدًا بأنّ الغالي يعطي دروسًا بأسعار رمزية للتلاميذ ولهذا فقد دبّرنا له غرفة صغيرة على أحد السطوح القريبة من الكنيسة.
يستعيد الغالي قصة نجاحه ووصوله إلى القمة واحداره إلى الحضيض كما أوضحناها سلفًا ولكنه لا يريد العودة قبل أن يُنهي التزاماته مع التلاميذ الذين يدرّسهم مادة الرياضيات. كما يروي حميد قصة حبه لحليمة ورغبته في الزواج منها بعد طلاقها من رضوان وتمنّى أن يكون الزواج بحضور الغالي لكن الأيام كانت تخبئ له ما لم يكن في الحسبان إذ ضربت جائحة كورونا العالم كله ومن سوء الحظ أن يكون الغالي أحد ضحاياها فدفن على وفق الاشتراطات الصحية ولم يكن بالإمكان نقل جثته إلى المغرب. وكل الذي فعله حميد وزوجته حليمة أنهما شرعا بتنفيذ مشروعه الذي يتمثل بتأسيس جمعية لمساعدة المشردين في المغرب أطلقا عليه اسم “بيت الغالي” الذي سيكون مأوى لمن لا مأوى له.
مثلما بدأت مرشيد روايتها بجملة استهلالية حِرَفيّة فإنها تُنهيها بفصل ختامي شديد الدلالة ولعل أبرز ما فيه هو الحلم الذي زار حميد ورأى فيه الغالي وهو يقدّم له دفترًا بصفحات بيضاء تعني من دون شك أن يملأ الصفحات بالكلمات المناسبة. وبكلمات أُخر، أن يكتب قصته لكي تكون متاحة أمام الملأ. وربما يكون المقتَبس الذي استعارته مرشيد من الكاتبة الأفرو- أمريكية زورا نيل هيرستون هو أكثر أهمية من كل المقتبسات السابقة رغم دلالاتها العميقة حيث تقول:”ليس ثمة من معاناة أكبر من أن تكون حاملاً لحكاية لم تروِها بعد”. ولكم أن تقدّروا الحِمل الثقيل الذي ينوء به سارد النص وكاتبه في نفس الوقت. وقبل أن نطوي الصفحة الأخيرة تذكّرنا الروائية البارعة فاتحة مرشيد بأننا جميعًا لسنا “سوى حكايات تنتظر راويها”.
جريدة العالم العراقية، العدد 2866،
الأحد 13 مارس 2022