جرأة الكتابة وبوح الذات في رواية “الملهمات” لفاتحة مرشد، زكية مجدوب، مجلة مدارات الثقافية، العدد المزدوج يوليوز/غشت 2024.
جرأة الكتابة وبوح الذات في رواية “الملهمات” لفاتحة مرشد
زكية مجدوب باحثة من المغرب
تبوأت الرواية في الأدب العربي المعاصر مكانة متميزة، لانتزاعها الاهتمام في فترة وجيزة، من بين العديد من الأجناس الأدبية المتعددة، وذلك يرجع إلى قدرتها عل تطوير أساليبها الفنية ووسائلها التعبيرية، وبراعة تمثيلها للمرجعيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية المتعددة، هو الأمر الذي مكنها من تجاوز الأنواع الأدبية الأخرى الذي اقتصر دورها على تمثيل الواقع وإعادة تمثيله من جديد، لعل من بين ما يميز الرواية العربية المعاصرة اقتحام عدد كبير من الكاتبات غمار الإبداع السردي فقد خلا تراثنا من كاتبات في السرد بخلاف الشعر الذي سطعت فيه بعض الأصوات النسائية على نذرتها، وبعدما ظل عددهن محسوبا على رؤوس الأصابع في العصر الحديث، فإنه غدا من الصعب في الفترة الراهنة مواكبة كل الأعمال السردية التي تفيض عن مخيال النساء، بل منهن من اضحى يستحيل دراسة أي محور في الرواية العربية المعاصرة دون الإشارة إلى أعمالهن، ومنهن من تفوق على الروائيين الرجال كما و نوعا، طويلة… تفرض اسمها في صدارة
لائحة كتاب الرواية المعاصرة.. ومنهن من تشق طريقها بثبات وتبشر إصداراتها الأولى بمشروع روائية متألقة من المغرب، وإن لم تصل بعد إلى مصاف الرائدات، فإنها تسير بخطى حثيثة نحو إيجاد مكان لها ضمن الروائيات العربيات، الروائية المتألقة فاتحة مرشيد، وبعد روايتي (لحظات لا غير) و (مخالب المتعة)، صدرت لها عن المركز الثقافي العربي ببيروت رواية (الملهمات) سنة 2011 في 205 صفحة من الحجم. ،
لعل الكاتبة الروائية ” فاتحة مرشيد” من أبرز الكاتبات العربيات اللواتي اشتغلن على ما هو هامشي مسكوت عنه داخل المجتمع ، فحملت على عاتقها من خلال روايتها “الملهمات” هم تشريح هذا الواقع المهترأ الذي ينخره وباء العلاقات العابرة خارج مؤسسة الزواج أو الخيانة الذي ينافي المنظومة القيم والأخلاق الدينية الراسخة في العرف الشرعي والاجتماعي للمجتمع العربي عامة والمغربي خاصة بذلك نحاول من خلال المقال مناقشة الأسئلة التالية التي تفرض نفسها.
ما القضايا التي تطرحها رواية الملهمات؟ –
– ما علاقة الإلهام الإبداعي بالحب ؟
– ما القيم الإنسانية التي تدعو إليها الكاتبة؟
ضبط المفاهيم الأساسية: (السرد النسوي، الأنا والآخر، الهامش)
برزت الكتابة النسائية في الأدب العربي الحديث مصاحبة لفترة عرفت بتحرر الوعي النسائي بتطور لحظات حاسمة من التاريخ الثقافي والسياسي الذي ينتقد نظام الهيمنة الذكورية ورؤيته، لهذا جاءت الكتابة النسائية ردا على هذا التوجه، جاءت الرغبة في اكتشاف الذات والعالم ومقاومة النسيان والصمت، من أبرز الكاتبات اللواتي أخلصن لهذا الاتجاه نذكر ( زينب فواز، ليبة هاشم، عفيفة كرم)، لتعبير عن قضايا المرأة وما تعانيه من حيف وظلم فتعري وتكشف عن المستور والمهمش داخل المجتمع، قد عرفت سرود الرواية النسائية تحولا في مسيرتها إذ عبرت في كل محطة عن موضوعات متعددة، انخرطت في البداية للتعبير عن النضال ضد الاستعمار الأوروبي إلي جانب الرجل من أجل التحرر الوطني، والدفاع عن حقوق المرأة، وناضلت للتحرر من قيود المجتمع التقاليد التي تحصر دور المرأة في البيت.
تتمثل مركزية الأدب النسوي في اعتباره ارتقاء أدبي يعبر من الأنا النسوية وقضاياها إلى الأنا الجماعية، كما أنه أدب موضوعي من خلال استجابة الكتابة لمقتضيات الرجل والمرأة معا باعتبار المرأة التوأم الروحي للرجل، عمل الأدب النسوي عامة على التقليل من الهيمنة الذكورية وإخراج المرأة من دائرة الاستهلاك إلى الإبداع لتفرض وجودها بمنظورها ورؤيتها واهتمامها، حيث تمزج المرأة في كتابتها بين الرغبة والرهبة والدهشة لأن المرأة فيض من العواطف والمشاعر والأحاسيس عاطفة الأمومة المفعمة بالحب، عاطفة الزوجة المحبة لزوجها، عاطفة المرأة المحبة لعائلتها، تتمركز وظيفة الكتابة النسائية في قدرتها على تمثيل الواقع وتسلط الضوء على قضايا حساسة ومسكوت عنها داخل المجتمع، من الطبيعي أن تمر هذه الكتابة بصعاب التقليد والمحاكاة بل والتبعية، قبل أن تنفصل وتستقل وتتميز بذاتها… فهي تمر بثلاث مراحل من التطور المتعاقب محاكاة الأشكال السائدة للتقاليد الأدبية المهيمنة، والاعتراض على المعايير والقيم، واكتشاف الذات أي البحث عن الهوية”، لعل من أبرز الأسباب التي جعلت المرأة ضعيفة إبداعيا، تغيب دورها الإبداعي ، وهذا ما أكده الناقد حسين مناصرة بقوله:” لاشك في أن أسباب ضعف إبداع المرأة عبر التاريخ البشري كله يعزى إلى الهيمنة الذكورية، على أساس أن مساحة الحرية التي أعطيت إلى المرأة في الكتابة كانت محدودة جدا، وأحيانا معدومة…. بل إذا تمردت المرأة وكتبت قد يتسبب هذا الفعل المغامر في موتها فعليا أو مجازيا، إضافة إلى أنها كانت تحجب عن التعليم والثقافة، وتجربة الحياة خارج عتبة الباب”.
أما مصطلح الهامش هو المثال الإنساني المقصي عن دائرة الاهتمام، والمنبوذ في عرف الأخلاق، والمقموع من قبل مؤسسات المجتمع والعقل والعقيدة والسلطة،
“فالهامش هو ما تم إقصاؤه ونبذه في القضايا والمواضيع المحضورة والممنوعة “كل كتابة تخرج عن النسق المألوف تعتبر كتابة هامشية”
إن المتأمل في كتابة الهامش الذي لا يعني تهميش الكتابة ولكن يعنى ضم الهامش إلى أنساق الكتابة الأدبية والاعتراف بها مرجعا وتمثيلا تخيليا، وهو توجه بارز في الرواية العربية التي تحاول تجاوز الخط الرسمي وكسر المألوف منها، وبالتالي يتمكن لنا أن نعتبر خطاب الهامش مجالا مفتوحا للسرد يحاول معاكسة الخطاب الرسمي ومراوغة أنساقه، من خلال تصوير الواقع اليومي المتردي
“كما تجتاز كتابة الهامش الخطوط الأخلاقية الحمر وتقترب من الخطابات المحرمة والممنوع”
لقد نشأ الأدب الهامشي مرتبطا بحركات المعارضة المتنوعة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو فنية، وهي ليست وليدة القرن العشرين بل ولدت مع ولادة الأدب نفسه، لكنها تجلت بحدة أكثر في هذا القرن بسبب تحقيق الديمقراطية التي منحت نوعا من الحرية لهذه المعارضة ” تحضر ثنائية الأنا والآخر باعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فهو لا يستطيع أن يعيش دون علاقة تربطه بالأخر مهما كان نوع هذه العلاقة، توافق أو صراع، فالحديث عن « الأنا» يستدعي الحديث عن الأخر، تتبدل مواقف الأنا من الأخرـ أو الأخر من الأنا بحسب العلاقات القائمة بينهما، هذا التصور: ” هو عبارة عن مركب من السمات الاجتماعية والنفسية والفكرية، والسلوكية، التي ينسبها فرد ما إلى الآخرين” ، كما أن الأخر ما هو إلا ” المختلف في الجنس أو الانتماء الديني أو الفكري أو العرقي، أما بخصوص مصطلح الأخر يعد:” في أكثر معانيه شيوعا شخصا أخرا أو مجموعة مغايرة من البشر ذات هوية موحدة، وبالمقارنة مع الشخص أو المجموعة نستطيع تحديد اختلافي عنها، وفي مثل هذه الضدية ينطوي هذا التحديد على التقليل من قيمة الأخر، وإعلاء قيمة الذات أو الهوية ويشيع مثل هذا الطرح في تقابل الثقافات خاصة وهذا ما يسود الخطاب الاستعماري” ، فالأخر يحمل دلالة مغايرة للذات بحيث يمكن أن يكون ذاتا أخرى أو جماعة أو ثقافة أخرى. كما يمكن أن يعد الأخر وانقساما وانفصالا عن الذات، فهو ليس موضوعا لواقعه فحسب أو مجرد نموذج ” وكل شخص هو آخر بالنسبة لأي شخص على وجه الأرض”.
-2 ثنائية الحب والإبداع في رواية “الملهمات” لفاتحة مرشد:
تستفز الكاتبة فاتحة مرشيد قارئ روايتها من خلال تفجير قضايا الهامش والخوض في المسكوت عنه داخل المجتمع رغم تفشي هذه المواضيع الحرجة في الواقع ، فتختار الكاتبة المتألقة بشجاعة خوض غمار الكتابة اّلإبداعية من خلال العديد من الروايات من بينها، «مخالب المتعة»، «التوأم» ، «لحظات لاغير»، وأيضا روايتها المتميزة «الملهمات»، التي صدرت عن المركز الثقافي سنة 2011، عرفت الكاتبة بجرأتها على طرح قضايا تعد من الطابوهات داخل المجتمع العربي، والمغربي خاصة.
تروى أحداث الرواية حكايتانا متوازيتان، الحكاية الأولى تحكي فيها شخصية أمينة تجربتها الشخصية مع زوجها عمر وما تعيشه معه، من اضطراب ومعاناة بعد أن تخلّت عن طموحها المهني والعملي لتتفرغ للاعتناء بزوجها وولديها. فجأة اكتشفت أمر مغامراته مع عشيقاته الكثيرات بشقة قرب دار النشر التي يمتلكها، فأخفت عنه مدة طويلة علمها بذلك حتى أصيب في حادثة سير رفقة عشيقته، دخل في غيبوبة طويلة فقررت البوح الاعتراف بكل ما تخفيه، تقول الساردة: ” لا أعلم إن كنت تسمعني أم لا على وجهك سكينة من تعدى مرحلة القلق، واستسلم لقدره… مخلفا ترف القلق لي ، لا يعلم الأطباء، ولا الشيطان نفسه يعلم، إن كنت ستستفيق يوما من غيبوبتك لتستأنف حياة تشبث بها بكل كيانك. حياة لفرط ولعك بها لم تقبل أن يشاركك أحد فيها حتى ولو كان شريك حياتك… أمضينا ثلاثين عاما بثيابنا، بأقنعتنا، واحدا جنب الآخر زوجين مثالين، لا جدال، لا مشاجرة، تمثالين نزين بهما وكرنا ونحرس السلالة.”
الحكاية الثانية يسرد تفاصيلها الأستاذ إدريس (الكاتب الناجح) كاشفا منابع الإلهام لديه، مستعرضا لقطات من علاقاته مع نساء متعددات في محاولة للربط بين ممارسة الجنس والإبداع ، وإبراز مدى إجادة ( الكتابة بقلمين)، من خلال سرد تجارب جنسية مع نساء يستمد نار الكتابة لديه، من النسوة اللواتي عاشرهن ملهماته، جاعلا من المرأة سبب أفراحه وأحزانه رابطا كل كتاب كتبه بامرأة معينة ، يقول إدريس مشخصا نرجسيته وعلاقته بالنساء: ” أنا صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياتي، بدأ من التي منحتني الحياة… إلى التي أيقظت الرجل بداخلي…. والتي فتحت لي باب الإبداع على مصراعيه … والتي جعلت قلمي يتألق والتي كانت ورقة مبسوطة تحت يدي. فكل كتاب عندي مقرون بامرأة .. وكل فرحة مقرونة بامرأة… وكل انكسار كذلك ” ،هكذا كان حال إدريس يشحن طاقته من المرأة التي بين يديه، ثم ينزفها على أوراقه، متجاهلا احتياجها له، وهذا ما تبين من خلال الحديث المشوق الذي جمع أمينة بصديقتها صباح قائلة عنه: “هو رجل غير قادر على ضم امرأة إليه بعد الجنس، جاهل بأن هذا هو الإبداع الحقيقي، هو لا يحب المرأة، لا يحب الحب، ولا يحب الجنس حتى، هو يحب الكاتب فيه، فقط لا غير، أما الإنسان فقد توارى إلى غير رجعة وراء أوراقه ، كونه يكتب لا يجعل منه فارسا..”
فقد اتخذت شخصية إدريس الملقب بالكاتب الناجح من مواعدة المعشوقات المتعددات وسيلة لتجديد الكتابة الإبداعية لديه، فهذه هناء المعشوقة الرائعة التي أحبها إدريس لإتقانها أدوارا متعددة في كل مرة، خاصة بعد اعتيادها على طقس الكتابة الذي يصاحب طقس المعاشرة الجنسية، يقول عنها :” استطعت بلباقة أن أجعلها تحس بالفخر كطرف فعال في عملية الإبداع، طرفا أساسيا وضروريا،… كانت ذكية وخلاقة، حيث بدأت تفاجئني كل مرة بطقس جديد موظفة كل الإكسسوارات، فمرة أجدها وقد تقمصت شخصية راقصة شرقية بحللها وفستانها اللصيق، مرة تتحول إلى مومس بثياب داخلية شفافة وأحمر شفاه قان، ومرة ترتدي وزرة بيضاء لتعتني بي كممرضتي الخاصة، وأخرى تفاجئني بطقوس جيشا يابانية.. أصبحت إلهة الفن
التي تحرك بداخلي مكان الإبداع…”، لكن سرعان ما شعر بالملل من تكرار تلك الطقوس وأصبح يحتاج إلى تجديد في عمله الإبداعي وطقوسه الغريبة في الكتابة يقول عن نفسه:” لا أخفيكم ، أنني أنا بدوري، بعد ثلاث سنوات من التنقل بين السرير نفسه والطاولة نفسها، بدأ فيروس الروتين يتسرب إلى جسدي وإلى أوراقي.. لست أنانيا لكن التكرار عدو الإبداع… كما أنكم تنتظرون مني الجديد دوما، الشهرة لا ترحم”.
العلاقة بين الحب والكتابة عند الكاتب إدريس المغمور بمثابة علاقة أخذ وعطاء، بقدر الأخذ يكون العطاء، “بما أن الإبداع عطاء بالمعنى السامي للكلمة، فهو في أوج أنانيته لا يسعه إلا العطاء وبما أنني، كمبدع، في حالة بحث مستمر عن إحساس جديد، انفعال جديد وفكرة جديدة، فأنا حتما في حالة بحث مستمر عن ملهمة جديدة. إلا أن علاقتي بملهماتي كانت تتخذ الحب أرضية لها، ومن هنا كانت ملهماتي حبيباتي وحبيباتي ملهماتي”
يمكن القول أن علاقة الذكر بالأنثى علاقة معقدة الفهم والتمثيل” كلنا شهريار وشهرزاد في الآن نفسه، وكلنا يولد ولديه أماكن الشدة واللين، العدوانية والمسالمة، الذكورة أو الأنوثة، يلعب هو دور الذكر وتلعب هي دور الأنثى، إنها لعبة تعلمناها من المهد، يلعب هو دور الحاكم، ونلعب نحن دور المحكومين، يلعب هو دور الجلاد، ونلعب نحن دور المجلودين، أما آن لنا أن نتبادل المواقع؟ أسطورة بأسطورة؟ حتى وإن كان الأفق النظري الفلسفي الذي نصدر عنه لا يبحث عن تأبيد الموقع، (حاكم، محكوم)، أو(محكوم، حاكم)، لأننا نهدف إلى تفجير المكان بإعادة ترتيب العلاقة بين الأنا والنحن وبين النحن والطبيعة”
يتحدث الكاتب الناجح عن قصته مع ملهماته المتعددات: ” قصتي مع الكتابة ممزوجة بقصتي مع الحب، حيث يصعب علي معرفة من منهما سبق الآخر.. أو أدى إليه، كل ما أذكره هو جلوسي إلى المكتب، بعد أول ممارسة للحب عن الحب، لأمسك بالقلم، وأشرع في الكتابة دون سابق قرار أو تفكير.. أكتب.. وأكتب..” .، وتظل الملهمة الوحيدة التي أوحت له بكتابة قصة ولم يعاشرها هي المغنية السوبرانو التي سمع صوتها لمّا كان بفندق بمدينة هانغشان الصينية ، أثر فيه صوتها الشجي وتخيل معاناتها في قصة اكتشف في ما بعد من خلال الكاتب الصيني الوحيد الذي يتقن اللغة العربية أن قصته لا تختلف في الجوهر عن قصة تلك المغنية وكانت أول امرأة تلهمه ولا يعرف منها سوى صوتها.
عرجت الكاتبة من خلال روايتها “الملهمات” على مجموعة من القضايا الإنسانية تخص المرأة عامة، على لسان أمينة وصديقتها صباح للحديث عن تيمة الحب قبل الزواج وبعده، متسائلة في حوارها الشيق عن سبب فتور هذا الشعور المقدس بعد الزواج الذي من المفترض أن يتزايد منسوبه وتتآلف أواصره لا تنقص وتضعف،” أحيانا أتساءل هل الزواج هو سبب موت الحب أو أن الفكرة الجادة حد الصرامة التي نتناول بها العلاقة الزوجية هي ما يجعل الحب يختنق؟ “
تطرقت كذلك من خلال حديثها المشوق مع صديقتها الصحفية التي عملت على إعداد ربورتاج خاص بالمرأة المغربية، إلى الحديث عن اختلاف العادات والأعراف المتعددة للمرأة المغربية باختلاف خصوصية المنطقة التي تعيش بها، وتتساءل باستنكار عن تجرأ بعض النساء البرجوازيات اللواتي راكمن المال وترأسهن جمعيات تتحدثن باسم المرأة المغربية، لتتفق معها أمينة في الرأي بأن هناك نساء مختلفات باختلاف المناطق والثقافات، تقول :” هؤلاء لا يعرفن من النساء الشعبيات، كما يلقبنهن، إلا الخادمات اللواتي يشتغلن بيوتهن، يحطن علما بأصغر أزقة باريس ولدن فيما يختزلن جغرافية المغرب في بعض الأماكن الفاخرة، وتتحدثن باسم المرأة المغربية ..يا لوقاحتهن.”
هكذا عبرت الكاتبة فاتحة مرشيد بجرأتها المعتادة وأسلوبها الشاعري، فقدمت للمتلقي رواية محكمة الحبكة وبالغة التشويق، متوغلة ببراعة فائقة في المناطق المعتمة من نفسية شخوصها. تبرهن فاتحة مرشيد في روايتها الملهمات، مرة أخرى، على امتلاكها للمعرفة والجسارة والأدوات الفنية اللازمة لسبر أغوار الذات الإنسانية ومعالجة مواضيع شائكة ومعقدة تكون فيها مقنعة وممتعة. كما أن ما يلفت الانتباه في متن هذه الرواية، كذلك، هو انفتاحها المثمر على مرجعيات علمية، فلسفية وأدبية كونية أثثت عوالمها السردية الماتعة.
-3 تهميش الآخر في رواية “الملهمات” لفاتحة مرشد:
تحضر ثنائية الأنا والآخر من خلال العلاقة المعقدة التي تربط عمر البديع وتهميشه لزوجته، ورغم السنوات الطويلة في الزواج وإنجاب طفلين، لم تمنع الزوج من كبح مشاعر الوله بمعشوقاته المتعددات اعتقادا منه بتجديد الإبداع والخيال، عمر الذي كان يخونها باستمرار وهي تراقبه وتدون خيباتها المتوالية، ونزواته الكثيرة، وهي تحترق في صمت وتتعامل معه ببرودة سيدة بيت حريصة على أسرتها الصغيرة وتماسكها، كم تمنت السيدة أمينة أن تعيش تفاصيل الحياة الدقيقة مع زوجها وأن تبوح له بكل الأشياء التي تتبادر إلى دهنها وتخفيها عنه، ويشاركها يومها بكل جزئياته، ويبوح لها بكل أسراره ورغباته الدفينة، تبوح له أخيرا بكل ما تحمله من أسرار لوثت روحها النقي، و وأذابت أنوثتها ، وهو مستلقي في غيبوبته تصيح قائلة :” أكان لابد أن تدخل في غيبوبة حتى أنفرد بك؟ أكان لابد أن تهينني ليعرف الجميع بأنني زوجتك؟ فتخفي العشيقات بعصا سحرية، وكأن لهن منك الصحة والفرح ولي منك المرض والحزن. لا، لست حزينة عليك.. بل حزينة على نفسي مجبرة على لعب دور البطلة العاقلة”.
بدأت السيدة أمينة بجلسات البوح والاعتراف بما كانت تخفيه عنه، خاصة بعد أن أكد لها الطبيب نجاعة أسلوب الاعتراف والبوح بجميع مشاعر المكتومة من خوف وقلق في الشفاء وخروجه من غيبوبته الطويلة، كما تكفلت بأعمال دار النشر، بعد مرض زوجها، واستجمعت قوتها من جديد، رغم خوفها وقلقها من المسؤولية التي على عاتقها، تقول: ” كيف يمكنها تدبير أمور المطبعة؟ أمور دار النشر؟ وأن تتعامل مع نرجسية الكتاب، مع جنونهم وتقلباتهم المزاجية؟ في الوقت نفسه، لا يمكنها أن تترك كل ما بنته مع زوجها ينهار هكذا، وهي لا تعلم إن كان سيعود يوما إلى الحياة أم لا، ثم إن انغماسها في العمل سيبعدها عن التفكير في أمور لا تزيدها إلا غما وكآبة. إلى متى ستهرب من المسؤولية لا خيار لها في تحملها، ثم إن مستوى المعيشة الذي تعودت عليه هي والأولاد يتطلب نفقات كثيرة؟”
نجد في المقابل تلك العلاقة التي ربطت الكاتب إدريس المتيم بهناء باعتبارها في البداية عاشقة ملهمة استطاعت ضخ طاقة الإبداع والتجديد في مخيلة الكاتب إدريس فتزوج بها خوفا من الابتعاد عنه وتركه وحيدا من دون إلهام، لكن سرعان ما تخلى عنها بحجة البحث عن التجديد في إبداعه، مخلفا وراءه جروحا في قلب أحبه وتعلق به، وركض خلف ملهماته، متخذا من نصيحة صديقه عمر البديع توجيها له ” الاستقرار هو أخطر شيء يتعرض له مبدع مثلك”.
لم يستقر ووصف حاله في كتابه الأخير على هذا النحو: ” عند الحدود الفاصلة بين الولع والفتور كنت أقف راجفا، ممزقا بين انجذابي نحو الهاوية ورعبي من الفراغ، فراغي من الحب، مثل فراغي من الكتابة لا يطاق فكلاهما كان مشدودا بالآخر وكنت مشدودا بهما معا بخيوط غامضة ” رحلات متعددة نحو الملهمات وعودته في كل مرة إلى زوجته هناء المتسامحة المتساهلة رغم كل ما تخفيه من حزن حتى خطف روحها الطيبة الموت ، كانت علاقته بالمرأة لا تنتهي في كل مرة في رحلة جديدة، لم يستثني منها طالبة لديه تدعى ياسمين في كلية الآداب ، لكننه تخلى عنها بمجرد اطلاعه على هوسها بالأدب والكتابة وقد يكون ملهما لها عوض أن تكون هي فقطع علاقته بها فهو لا يحب منافسة أحد له ، يقول مرة أخرى ” فقد دفعها جموحها لكتابة قصص تشبه قصصي … وحتى عمر طلبت منه أن ينشر لها ولولا أنه وفي لصداقاته ولي بالأساس ، لكانت سحبت البساط من تحت قدمي “
كانت النهاية الدرامية التي انتهت بها حكاية إدريس حيث أصيب (بسرطان البروستات) بعد ووفاة هناء زوجته بسرطان الرحم الذي قد يكون انتقل إليها من تعدد شريكات زوجها، عملت المبدعة من خلال روايتها “الملهمات” على إيصال رسالة أخلاقية تبرز مصير من ينحرف بعلاقته الجنسية خارج مؤسسة الزواج ويخالف الفطرة الإنسانية التي خلق عليها، إن رواية (الملهمات) تعكس بحق امتلاك الكاتبة للآليات والأدوات الفنية اللازمة لسبر أغوار الذات الإنسانية ومعالجة مواضيع مسكوت عنها، ومعقدة تكون فيها مقنعة توجيه النصائح وإصدار الأحكام ومعالجتها بطريقة فنية . كما أنها تضع الأصبع على نقطة جد حساسة في علاقة المرأة بالرجل، تتمثل في سؤال لما يبحث الرجل عن امرأة أخرى ؟؟ ولمَ يخون عمر زوجته أمينة في الرواية وهي مستعدة لأن تفعل معه أكثر ما يفعل مع عشيقاته؟
تتقاطع حكاية السيدة أمينة مع روايات كثيرة يكون فيها بطل الرواية شخصية مغمى عليها: روايات عربية كما في رواية “باب الشمس” للأديب اللبناني إلياس خوري، وفيها يحاور طبيبا والده المغمى عليه في المستشفى. أو روايات عالمية مثل الرواية الحائز على جائزة “الغونكور” الفرنسية، ونقصد رواية “حجرة الصبر” للأديب الأفغاني عتيق رحيمي، وفيها يروي معاناة امرأة أفغانية تحاور زوجها المغمى عليه بعد إصابته برصاصة في رأسه، كما استوحت الكاتبة شخصياتها من عالم الفن والأدب والثقافة، ( الزوج عمر صاحب دار النشر، المخرج، الفنان الشكيلي الفلسطيني ، صباح الصحفية ،الكاتب الناجح إدريس)
يمكن لنا القول ختاما أن الكاتبة المبدعة فاتحة مرشد استطاعت ملامسة بعض القضايا الاجتماعية والأخلاقية على هامش الحكايتين ( حكاية إدريس وحكاية أمينة) ولعل من أهم تلك القضايا : مناقشة قضية الخيانة الزوجية ، وهي و إن كانت ظاهرة منتشرة في مختلف الأوساط فإن لها في الطبقات الراقية وضعا اعتباريا ودوافع أخرى غير الحاجة للجنس، ذلك أن الرواية تكرس كون الأسر التي تكون حاجياتها البسيطة متوفرة تبحث لنفسها عن تجارب أخرى خارج إطار عش الزوجية ، ما دامت الكاتبة اختارت أبطال القصة من أسر راقية: فأمينة وزوجها من وسط راق ، يسمح لهما ضغط الحياة اليومية بالانفراد ببعضهما إلا بعد دخول الزوج في غيبوبة، كما حاولت الرواية بطريقتها معالجة قضية نظرة المجتمع لتلك الخيانة و قبول المجتمع لخيانة الزوج لزوجته ، دون قبوله العكس، واستعداد الزوجة للتضحية من أجل زوجها.
مجلة مدارات الثقافية، العدد المزدوج يوليوز/غشت 2024.