0%
Still working...

مقال تيسير النجار حول الملهمات 2023

“حين تلتهم الكتابة الحياة.. قراءة في رواية “الملهمات”، للأستاذة تيسير النجار، جريدة ميريت الثقافية لشهر يوليو 2023، العدد 55.

حين تلتهم الكتابة الحياة .. قراءة في رواية “الملهمات”

للمغربية  فاتحة مرشيد

تيسير النجار

“القراءة وحدها هي التي تعطي الإنسان الواحد اكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب”. هذا ما قاله العقاد عن القراءة، ترى ماذا عن الكتابة؟ هل هي تأخذ من الحياة نفسها وتتغذى عليها حتى تخرج متألقة وكاشفة وتلامس وجدان القراء؟ في رواية “الملهمات” للروائية المغربية فاتحة مرشيد، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، عام 2011، الرواية منقسمة لخطين:

خط بصوت أمينة زوجة الناشر المعروف عمر البديع، والخط الثاني بصوت الكاتب الناجح إدريس صديق عمر المقرب، الذي ينوي الاعتزال عن الكتابة، ونعرفه من خلال مسودة روايته الأخيرة التي تعد سيرته الذاتية. في هذه الرواية نبحر في محيط الكتابة ونلامسها عن قرب من خلال أمينة البديع التي تعرض زوجها لحادث سيارة أدخله في غيبوبة، جعلت أمينة تخرج عن صمتها وتخبره بما لا يعرفه عنها بالرغم من سنوات زواجهما الطويلة، وإنجاب شاب وفتاة، تعاقبه بحديثها الكاشف، وتثأر لسنوات الصمت الذي أجبرت عليه. عمر الذي كان يخونها باستمرار، وهي تراقبه وتدون نزواته وتحترق بصمتها في محاولة للحفاظ على العائلة، حتى حين وجدت الحب مع صبري المصور الفلسطيني المشهور وعرض عليها ترك كل شيء خلفها، والبدء معه من جديد في حياة تستحقها، وتكون الملكة على عرش قلبه، بقيت بجوار عمر الذي لم يلحظ التغيرات التي خلفتها الخيانة على روحها وطريقتها. كان عمر البديع هو صاحب الأثر القوي على زوجته أمينة ومحور حياتها، وكذلك تأثر به صديقه الكاتب الناجح إدريس، الذي قرر تنفيذ كل نصائحه وهو راقد في غيبوبته، كمحاولة أخيرة لأن يطيل عمر صديقه من خلاله، نصحه بالتورط في الكتابة قائلا: “الكتابة تورط، ومن لا يعشق التورط فليدع الكتابة لمن يستحقها». هكذا كسر إدريس خوفه، وشرع في كتابة كتابه الأخير مو ِّرطا صديقه معه وكاشفا الكثير من أسراره، هو الذي عاش من أجل الكتابة، وقدم حياته قربانا لها، كثيرا ما نبهه صديقه وناشره عمر البديع باستشهاده بقول أندريه مالرو: الحياة لا تساوي شيئا.. لكن لا شيء يساوي الحياة. مؤكدا عليه بحديثه ونظرته الشخصية: « الحياة أكبر من كل شيء، إنها أكبر من الكتابة، فاجعل الكتابة ذريعة للحياة وليس العكس». إدريس الذي يعيش من أجل أن يكتب، مغترفا من قلوب ملهماته الحياة، وأول قلب ثقبه هو قلب هناء زوجته، تركها تعاني وركض خلف ملهماته، مخلفا الجراح في قلبها الذي لم يحب سواه، حذره صديقه عمر قائلا: «الاستقرار هو أخطر شيء يتعرض له مبدع مثلك». هو لم يستقر يوما، لقد وصف حاله في كتابه الأخير على هذا النحو: “عند الحدود الفاصلة بين الولع والفتور كنت أقف راجفا.. ممزًقا بين انجذابي نحو الهاوية ورعبي من الفراغ.. فراغي من الحب، مثل فراغي من الكتابة، لا يطاق.. فكلاهما كان مشدودا للآخر.. وكنت مشدودا لهما معا بخيوط غامضة». رحلاته مع الملهمات، وعودته إلى حضن هناء المنتظر دوما والمتسامح للأبد حتى خطفها الموت، عرف الكثير من الفتيات ويعتقد أنه محب لهن، وذكر ذلك في كتابه « كان لزاما عليَّ أن أحب، أن تعبر الكلمات قلبي حتى تنفذ إلى قلوبكم». كتب قصته الأولى بعد حبه لهناء، كما ذكرت أن الكتابة تلتهم الحياة، فهو لم يستمر معها، بل انجرف وراء طقوسه الغريبة لإرضاء الكتابة، يشحن طاقته من المرأة التي بين يديه، ثم ينزفها على أوراقه، متجاهلا احتياجها له، وهذا ما وضحته إحدى نسائه، صباح، صديقة أمينة قائلة: هو رجل غير قادر على ضم امرأة إليه بعد الجنس.. جاهل بأن هذا هو الإبداع الحقيقي. هو لا يحب المرأة، ولا يحب الحب، ولا يحب الجنس حتى، هو يحب الكاتب فيه، فقط لا غير. أما الإنسان فقد توارى إلى غير رجعة وراء أوراقه وأقلامه. كونه يكتب لا يجعل منه فارسا، ربما يعرف استعمال قلم الحبر لكنه يجهل تماما ما تنتظره امرأة من قلمه الخاص. صباح التي لفظته من حياتها منذ الليلة الأولى واثقة من أنه لن يقدم لها أي شيء. في رحلة غوصه داخل نفسه ومواجهتها مر على علاقته بياسمين التي كانت طالبة لديه في كلية الآداب، حين لمح أنها قد تكون منافسة له، أخرجها من حياته فورا، خوفا من تبدل الحال ومن أن يصير مجرد ملهم لها وهو لا يرضى سوى بالصدارة، سأل نفسه ولم يجد إجابة: هل كنت أنا الأناني؟ أم كانت هي الانتهازية؟ أم أنه الإبداع يجعل كل اختياراتنا تصب في اتجاه خدمته أولا، ولا يقبل منافسا له وإن كان الحب ذاته؟ يرى إدريس أن حقيقة الإنسان تكمن فيما يخفيه، وذلك حقيقي، نقطة ارتكاز حياته ومحركه الأساسي هي اللقطة التي رأى فيها والدته يوم وفاة والده، في حضن مربيته وهما يمارسان الحب، بالرغم من حبه واقترابه من هناء لم يخبرها، لم يخبر أي أحد عن هذا الحدث الذي شكل نفسيته، وصار حافزا لكثير من تصرفاته.

على الرغم من كوني قد تجاوزت نظريا كل حكم أخلاقي على الممارسات الجنسية، وأدركت أنه عالم بلا حدود، واعتقدت بضرورة حرية الكائن في اختياراته، فمشهد الحب بين أمي ودادة الغالية يوم عزاء والدي، وأنا طفل، لن تمحوه نظريات علم النفس التي التهمتها ولا أزال. دون ذلك في كتابه الذي ينوي نشره، وقد شرع جرحه لجميع القراء وقتها، فقط شعر بالراحة: “إنها المرة الأولى التي لا تحرك فيها ذكرى هذه الحادثة انفعال الغضب، وكأن مسافة عريقة تفصله عنها. أحس بخفة من تخلص من ثقل أنهك كاهله”. تحرر أكثر وفاض في تشريح ذاته وعلاقته الملتبسة بالمرأة: كنت في علاقتي بالمرأة أعيش ازدواجية كمن يعاني من انفصام في الشخصية، بداخلي رجلان أحدهما عاشق من نار.. نار ولَّدها حرماني من العاطفة.. عاطفة رفضتها يوم أحسست بأنها مشتركة فتفيض فجأة.. وأنتفض كفارس يطفئ نار الحرمان بماء القلب. والرجل الثاني مراوغ لئيم يطمح إلى المخادعة، يتضور جوعا للنساء، ولا شيء يشبع شهيته إلا مؤقتًا.. لكن يعصره الشك في صفائهن ونقاء سريرتهن، فيستغلهن لمصلحته ويرمي بهن كعود ثقاب أُشعل وانتهى. كنت في آن واحد المكتنز بكل شيء والخاوي من كل شيء. معاناة إدريس الأساسية هي صدمته في والدتيه، لأنه يعتبر دادة الغالية والدته الأخرى، وفي توقيت الصدمة وقت غياب الأب بالكامل في موته، لقد كان ضيفا على حياتهم بسبب طبيعة عمله وسفره الدائم، افتقد إدريس النموذج الذكوري المثالي، وتشوه لديه النموذج الأنثوي كذلك، ربما هذا ما دفعه نحو الكتابة بهذا الجنون. شملت الرواية الكثير من الاقتباسات حول الكتابة، وكيفية التعاطي معها، من ضمنها المرور على قصة البورتريه البيضاوي الشكل للكاتب الأمريكي إدغار ألان بو، عن ذلك الفنان الذي طلب من زوجته الثبات حتى يرسمها، وحين اكتمل البورتريه كانت زوجته قد غادرت الحياة، ربما ليست الكتابة وحدها من تأكل الحياة، بل كل الفنون تقتات على ممارسينها، في رحلة إدريس مع النساء تعرف على المغنية المبتدئة شروق، طلبت منه أن يكتب عنها أو يدون كلمات أغانيها، أسقطها من حساباته في سعيه المحموم لملهمة جديدة، لكن حين ماتت كتب سيرتها المتخيلة وحققت نجاحا، وتعجب إدريس في كتابه وذكر أن «أحيانا يأتي الإلهام متأخرا، كموعد مؤجل، أو كدواء يسرب مفعوله بعد حين». وذلك ما حدث معه بالضبط، كتب عن ذاته الحقيقة وخاطب القراء بكل صراحة ووضوح «ليتكم تعلمون أنه في كل بناء لكتاب تهديم لكيان الكاتب»، “ليتكم تدركون كل ما يتطلبه كتاب من موت.. نحن نموت قليلا مع كل إبداع. وهاجسنا المدمر هو الكتاب المقبل، وهل سنستطيع ولادة جديدة؟ بعد تشخيصه بإصابته بمرض سرطان، البروستات، كان يعد نفسه للموت، ويهدم ذاته ويعريها من كل إدعاء: “كنت أعتقد قبلا أن موهبة الكتابة تغني عن موهبة الحياة، وقد كنت على خطأ، إذ إن ممارسة الحياة، بكل تعابيرها القصوى، هي التي صقلت موهبتي الأدبية”. “أنا صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياتي.. بدءا من التي منحتني الحياة.. إلى التي أيقظت الرجل بداخلي.. والتي فتحت لي باب الإبداع على مصراعيه.. والتي جعلت قلمي يتألق.. والتي كانت ورقة مبسوطة تحت يدي.. فكل كتاب عندي مقرون بامرأة.. كل فرحة عندي مقرونة بامرأة.. وكل انكسار كذلك». كتب الحقيقة ولكن لم تخل من التمني أن يعود صديقه للحياة، متخيلا عودته ورأيه بعد قراءة مسودة الرواية الأخيرة، ولأنه لا يفرق بين الحياة والكتابة، لم يحضر جنازة وعزاء صديقه، أرسل روايته للنشر واختفى تماما عن الأضواء، مودعا الجمهور، ولم يترك فرصة للتأويل، قال كل شيء بمنتهى الصدق والألم: “كثيرا ما كتب النقاد عن مساري الأدبي، كمن يكتب عن مسرحية معروضة على الخشبة جاهلين ما يجري في الكواليس. قررت الآن بعد المشهد الأخير أن أرفع الستارة الخلفية وأهديكم العرض الحقيقي.. عرض الكواليس المفعم بقلق الممثلين وتقلباتهم المزاجية بعلاقاتهم السرية وانفعالاتهم الحقيقية التي يوارونها خلف الماكياج والأقنعة قبل أن يرسموا ابتسامة تستحق منكم التصفيق”. هكذا اختار إدريس أن يكلل ختام حياته الأدبية، بينما أمينة باشرت عمل دار النشر، وأوصلت ما قطعه عمر عنها بحجة رعاية البيت والأولاد، صارت صاحبة دار النشر، وحين وصلتها مسودة الرواية طلبت من العاملين التعجل بنشرها.

Leave A Comment

Recommended Posts