“الروائية فاتحة مرشيد وأسئلة العصر”، دراسة نقدية للدكتور إبراهيم الكراوي، مجلة الشارقة الثقافية، العدد 70، شهر غشت 2022.
الروائية فاتحة مرشيد وأسئلة العصر
إبراهيم الكراوي
تعتبر رواية (نقطة انحدار) للكاتبة فاتحة مرشيد، نصا يحاول أن يتمثل أسئلة العصر، انطلاقا من زاوية سوسيولوجية، تجعلنا نتحدث عن مرجعيات متعددة، تساير التعدد الذي يسم الواقع ذاته.
إذا كانت ”نقطة الانحدار” علامة تفكك العلاقة بين الأنا والآخر، المركز والهامش، الفرد والجماعة، فإنها بالمقابل، رواية تقلب المعادلة المألوفة في السرد العربي من حيث تمثيل المركز والهامش، على صعيد جغرافيا التفكير النقدي.
تحاول الرواية تجاوز التمثل التقليدي للمركز والهامش، ضمن الأدبيات الثقافية الراهنة، انطلاقا من سردية تحفر فيما وراء عولمة، تتمرد على الحدود والخصوصيات الحميمية الإنسانية، ليصبح المركز ذاته فضاء للهامش، والهامش مركزا، من حيث تمثيل القيم الإنسانية، وتمثل سوسيولوجيا الشخوص الإنسانية، وهو ما يفسر موقع ومنظور السارد الرحالة، الذي ينطلق في رحلة استكشاف العالم الراهن، انطلاقا من سبر أغوار حدود معادلة الهامش والمركز.
يعيد السارد، الذي يروي بضمير الغائب صياغة سؤال الهجرة بين الأنا والآخر، الطبيعة والثقافة في بعدها الكوني/الإنساني، انطلاقا من تمثل المركز والهامش، الفرد والجماعة. ومن ثم، تطرح الرواية سؤالا سوسيولوجيا يرتبط بقيم الهجرة والسفر، في ظل عالم يعيش تحت ضغوطات كل من العولمة وما بعد كورونا، وما يترتب عليه من تدمير للأنا وللثقافة والأنساق الثقافية. فالسارد يدخل منذ البداية، وإلى غاية السطور الأخيرة التي توقع خطاب النهاية، في لعبة ماكرة تروم تعرية المركز، و من خلاله تشريح بنية الأنا، بوصفها مكونا ثقافيا، و من خلالها تتمظهر أسئلة سوسيولوجيا تعيد اكتشاف سؤال القيم، بين التمثل التراجيدي و النسق الثقافي. فنحن أمام إعادة قراءة (مكر الصورة)، حيث (تتكلف الكتابة بصناعة خريطة، يحتل فيها المركز الغرب، مكانة القداسة والهامش مكانة الدناسة).
في هذا الإطار، تمثل الرحلة الآلية الخطابية السردية، التي تعري هذا التناقض الوجودي الذي يسم المركز والهامش، الأنا والآخر، كاشفة مجموعة من الأنساق الثقافية، كما يتجلى من خلال الذكورة والأنوثة، الكوني والخصوصي.
فرحلة كل من شخصيتي (حميد)، و (الغالي) تؤسسان لمحكي روائي يتمثل بوصفه (نصا مفتوحا، لا يمكنه أن يتسيج في خانة محددة، تجنسه بصفة معينة تضيق من تحرره واتساعه، وانتشاره الضروري على حقول أخرى. ولهذا فإن القول بنصيتها هو انفتاح على دينامية الرحلة، وعلى خطاباتها المستندة على طرفي الذات والآخر). ولذا، تخترق جسد النص الروائي أجناس وخطابات متعددة، كرسائل الغالي وجوردن، والأغنية الشعبية التي تنسج سردية الذات وحكاية المعيش.
يضعنا السارد ضمن عالم يعيد الاحتفاء بالمحكي والذوات، أمام محتمل الواقع، برغم ما يمكن أن توحي به الأفضية والعلائق بين الشخوص، من إمكانيات للأخذ بمنطق التفسير وحصر المعنى في مرجعية شخوص الرحلة. ويمثل العنوان ذاته أفقا يحمل الكثير من التوجسات وملامح المكر، الذي يمكن أن يعتري فعل القراءة. وهذا ما جعل جيرار جينيت يصفه بأنه تردد بين الداخل والخارج.
يمثل العنوان إذا، فضاء لتجسيد الصراع بين الواقع والمتخيل، المحدد واللا محدد، الأنا الخصوصي والآخر الكوني. فضاء انصهار الشخوص والازمنة التراجيدية والبحث عن الزمن الضائع. فالعنوان يظهر بوصفه محددا لهذا الانتقال، من المركز إلى الهامش ومن الهامش الى المركز، بيد أن مرجعية مكون (النقطة) ستحيلنا إلى فعل الانطلاق ومختلف الوقائع التراجيدية التي تنسج تفاصيله، وتمثل الرحلة بوصفها سردية تنسج روائية النص، وتحكي شعرية الانحدار، بوصفها جرحا يسم الذوات ويؤسس للذاكرة.
وإذا كانت (النقطة) تحيل على محدد في الخارج، متمثلا في المرجع الواقعي، فإن الانحدار علامة ثانية تنزاح بالمحدد في الخارج المرجعي، وتلقي بنا في أعماق الداخل وما يحفل به من هواجس وصدمات، تولد فعلا اللانهاية وتولد تخييل الواقع السردي، وهوما سيكشف عنه نسق الشخوص.
ينزاح فعل الحركة المولد للسرد، على صعيد الجنس الأدبي، إلى تمثل مرجعية أخرى متمثلة في موضوعة (الرحلي) كما سيأتي تفصيله، من خلال مقاربة آليات الخطاب السردي، وجماليات التلفظ الموسوم بتعدد الأصوات.
ويكاد هاجس (الرحلي) يهيمن على سردية الخطاب الروائي، بل إن الوظيفة المهيمنة إذا استعرنا مفهوم (رومان ياكبسون)، لتكاد تقترب من الرحلة بوصفها خطابا مهيمنا ومكونا روائيا يشتغل على بنية السرد الروائي، كاشفا في الآن ذاته التبئير الداخلي على الشخوص، و الرؤية للعالم، وهذا ما يوحي به المكون البنيوي الأول للعنوان (نقطة الانطلاق)، بوصفها تستدعي رمزية الفشل في الوصول، وهذا ما يكشف عنه التمفصل الدلالي المزدوج بين فعل الوصول إلى الفضاء (أمريكا) الغرب و بين رمزية الوصول المحكوم بالفشل والانحدار، و فشل تحقيق البرنامج السردي، وكأننا أمام تطلعات جيل يبحث عن الذات.
غير أن الفضاء المبأر في الخطاب (الرحلي)، لا يرتبط فقط بالمكان، كما نستشف من خلال المدن الأمريكية، بوصفها العامل المولد للتوتر بين المركز و الهامش، ولكن يتمثل من خلال علاقته بالموقع الثقافي، الذي يُجسد الصراع بين الأنساق الثقافية و الاجتماعية ، مما يجعل الشخوص ترسم لنا مسارا سرديا آخر يرتبط بسوسيولوجيا القيم، و سؤال الراهن، والتحولات التي تمثل سؤالا يرتبط بزمن كورونا و ما بعد كورونا.
يمثل فعل انطلاق الرحلة حافزا مزدوجا على ولادة المحكي الروائي، وفي الوقت نفسه انطلاق الواقعة الروائية، أي رحلة البحث عن الصديق الوفي الغالي عالم الرياضيات ، بتكليف من شخصية الحاج البردعي، مما سيكشف نمو البرنامج السردي، ويضعنا في قلب ثنائيات تكشف أنساقا متباينة أبرزها المركز/ الهامش ، الأنا / الآخر، الذكورة / الأنوثة، بيد أن فشل البرنامج السردي المبني على رغبة إقناع (الغالي) بالعودة، بعد أن فشل في بناء حياة جديدة بأمريكا، سيعجل بعودة السارد (حميد) إلى أرض الوطن المغرب؛ حيث سيبدأ برنامجا سرديا جديدا، يكشف انبعاث العلاقة الحميمة بين حميد و حليمة.
ويكشف كلا من بنيتي الانطلاق والوصول عن رمزية الانحدار والانبعاث، من حيث ارتباطهما بالذوات الإنسانية، وتوليد المسار التصوري السردي، انطلاقا من تمثيل وقائع تكشف نسق الشخوص، ومن خلال مكون الوصف والبنية العميقة المتمثلة في علاقة الشرق بالغرب.
يمثل التبئير الداخلي على شخصية (الغالي) مكونا نسقيا يشتغل على الحفر في بنية التمثل الرحلي، وما يرتبط بها من إنتاج لثنائيات تعري واقع العالم الجديد، ومختلف تناقضاته. بل إن التبئير الداخلي على هذه الشخصية يتمثل بوصفه حافزا على توليد مسارات حكائية، ترتبط بشخوص الهامش، التي تقع في المرتبة الثانية من حيث موقعها في التبئير.
وهكذا تحفر (نقطة انحدار) في ثنائية المركز والهامش، متوغلة في الذوات الإنسانية بكل ترسباتها السيكولوجية والثقافية.
مجلة الشارقة الثقافية، العدد 70، شهر غشت 2022.