مخالب المتعة والنص الموؤود
رشيد برهون
وقعت فاتحة مرشيد روايتها الثانية ‘مخالب المتعة’ بعد باكورتها الروائية ‘لحظات لا غير’، لتخوض في موضوع لربما لم تتناوله الرواية المغربية وهو موضوع البغاء الذكوري، مهيبة بالقارئ أن يسعى أولا إلى تذكير أقدم المهن في العالم، ليبحث عن مذكر العاهرة والبغي وبائعة الهوى والمومس، وهو ليس تمرينا في الصرف اللساني، وإنما هو في صميم النظر في تحديد الأدوار الاجتماعية كما ترسمها اللغة باعتبارها حمالة إيديولوجيا والمواقف المستسرة في التسميات. إنه إذن موضوع العاهر الداعر بائع الهوى والجسد. ولنلاحظ أن اللغة نفسها تحصُر هذه المهنة في النساء عندما تجعل المومس مؤنثا دون تاء التأنيث، مثل الحامل والحلوب، بيد أن غياب الاسم لا يعني انعدام الظاهرة، بل قد يكون محاولة للتستر عليها برفض إعطائها اسما خاصا.
تختار فاتحة مرشيد أن تتناول روائيا موضوع الرجل العاهر وبغاء الرجال، لتمنح المرأة حق الخوض في ‘شؤون الرجال’ بعد أن ظل الرجل ردحا طويلا من الزمن يحتكر لنفسه حق الحديث عن المرأة موضوعا للكتابة، أما في رواية ‘مخالب المتعة’ فإن المرأة ذات كاتبة والرجل موضوع كتابتها، في نوع من تبادل الأدوار تبادلا ضروريا لتحقيق المساواة أمام الكتابة، مما يستدعي البحث عن تسميات جديدة في صلب اللغة لتوصيف ظاهرة بغاء الرجل.
تختار الرواية لغة بسيطة مسترسلة تجعل القارئ يحس أن الكلمات تستجيب طوعا دون تمحل مع مسحة من سخرية تمازجها مرارة، خاصة في تقديم شخصية السارد والتخصص الذي اختاره ليقوده إلى البطالة، تخصص التاريخ والجغرافية: ‘ما نفع الجغرافيا إن لم أنجح في اختيار جغرافية تناسبني أكثر، كما فعل الذين هاجروا إلى حيث لا حياء في شغل؟’ (ص8)، وتواصل الرواية الاستخفاف بهذا التخصص عن طريق اللعب اللغوي بلفظة الجغرافية بمعناها الواسع المحيل أيضا إلى الجسد، ينصح عزيز السارد ويدعوه لتوجيه دراسته التوجيه الصحيح بقوله: ‘أن توجهها نحو تاريخ النساء وجغرافيتهن. يا سلام على جغرافية النساء: هضاب ووديان وجبال وسفوح ومغارات…’ (ص10). هنا تكتسب الإحالة إلى الجسد وظيفة الاستشراف، فكلام عزيز هو توطئة للدفع بالسارد إلى تقبل العمل الذي يقترحه عليه وهو بيع الجسد للنساء. وعلى نفس الشاكلة تعمد الرواية إلى التلاعب بلفظة البيع واستحضارها في سياقات وظيفية في ارتباط بالموضوعة الأساس في النص وهي بيع الجسد. ولنتذكر هنا التكوين الذي خضع له السارد لكي يحسن بيع نفسه جيدا للزبون: ‘تبيع نفسك ليشتري الزبون’ (ص42)، وأيضا الإغراء المتواصل الذي يمارسه عزيز لكي يدفع بالسارد إلى بيع جسده في عملية حجاج متماسك لا يعوزه الدليل، وتظل السخرية حاضرة في بعض التشبيهات: ‘نهضت برأس أثقل من حافلة نقل عمومي’ (ص53)، وفي غضون ذلك كله تطل علينا أحيانا الشاعرة فاتحة مرشيد بصور تنضح شاعرية من قبيل هذا التعبير: ‘سكبت علي نظرة ساخنة’ (ص61)، مع المراوحة بين السجلين الدارج والفصيح، وإن ظلت الهيمنة للسجل الثاني، حيث لا يحضر السجل الدارج إلا عرضا في الحوار أحيانا، أو مُفَصَّحا في بعض العبارات؛ كما تلجأ الراوية إلى توظيف الأغنية الشعبية والفصيحة أيضا في تساوق مع بعض المواقف وطبيعة الشخصيات؛ ولا يغيب اللعب السردي في اختيار شخصية الرسام المتيم ببلقيس الموجودة هناك في العراق، والحاضرة هنا لوحة متجددة كل يوم، إنه اسم العراق بسحره وإيحاءاته.
ومع ذلك يحس القارئ أن الرواية لم تستنفد إمكاناتـِها، أو هي اختارت الخوض في موضوع فانعطف بها الحكي إلى مسار قد لا توحي به الرواية نفسها فيما هجست به من إمكانات أوحت بها بدايتها، مما يجعل القارئ يحس أن الرواية أخلفت وعدها، أو أنها تحققت دون ما كانت تشير إليه وتومئ به من مسارات، بل وفي تصوير الشخصيات وتوجيه الأحداث. وسأحاول توضيح هذا الأمر انطلاقا من تجربتي في قراءة الرواية، وأنا أيضا أطالع نص الاستهلال ‘السعادة هي المتعة من غير ندم’، فلا تلح على ذهني سوى لفظة الندم التي تجب قيمتي السعادة والمتعة، كما يتبين ذلك من خلال الرواية.
يحضرني في هذا السياق مفهوم بنيوي وهو مفهوم الإمكانات السردية وثنائية الحرية والضرورة في الاسترسال النصي، فالرواية، أيا كانت، تبتدئ مشرعة على إمكانات السرد اللانهائية، لتضيق دائرة الإمكان كلما تقدم الحكي والبناء النصي. استحضرت هذا المفهوم بعد أن انتهيت من قراءة الرواية، لأحس أن هناك رواية أخرى لم تُكْتَبْ، وأننا أمام تعديل لإمكان حكائي أولي، كان سيقودنا نحو رواية مغايرة، وما الرواية الحالية سوى تحيين وتحقيق لإمكان لم تهجس به مادة الرواية الأولية، أي أن صفحاتها الأولى وطريقة تقديم شخصياتها ولغتها لم تنبئ بها. وفي الآن نفسه، أتذكر قولة لسعيد يقطين وهو ينبه النقاد في لقاء بالمركز الثقافي الأندلس بمرتيل حول رواية الباريو مالقة لمحمد أنقار، إلى ضرورة النظر في النص المتحقق، مشيرا بسخرية إلى مثال ذلك الشخص الذي تخبره عن زيارتك للقمر فيسألك عن المريخ، بينما الأمر تخييل في تخييل، مثل شرطي رومان جاكبسون الذي ألقى القبض في إطار تحرياته على سكان الحي جميعا وتجاهل اللص المجرم! يعني ذلك أن رواية ‘مخالب المتعة’ هي كذلك في شكلها الحالي، لهذا وجب التعامل معها في تحققها على هذا النحو. والحال أن قارئ هذه الرواية يحس مع ذلك أن النص يستبطن إمكانا آخر ويهجس به، ولا بد أن يظل عالقا في فم القارئ مذاق ذلك الغائب المغيب، ومن هنا عنوان هذه القراءة ‘مخالب المتعة والنص الموؤود’، أو ‘مخالب المتعة’ بين بنيتي الوعد والوأد. قد يقال إن الإحساس بالانقطاع قد يعتبر من مكامن قوة النص استنادا إلى مفهوم أفق الانتظار، وكيف أن النصوص الكبرى هي التي تقوم على تخييب ذلك الأفق وتكسير التوقعات والتطويح بالفرضيات جانبا لتخلق منطقها ومفاجآتها. بيد أن الأمر مع ‘مخالب المتعة’ مختلف، فالصفحات الأولى من الرواية تجعلنا أمام نص اختار الجرأة في طبيعة موضوعه نفسها، مما يدل على إرادة لخرق الممنوع والاقتراب من منطقة المحرمات مع موضوع الجيكولو، بائع الهوى والجسد والمتعة، الداعر العاهر، ولنلاحظ بدءا أننا نجعل اللغة تنصاع هنا لإملاءات الرواية والتخييل، لتفسح المجال لتسميات جديدة عليها بعيدا عن منطق الذكورية الذي يحصر البغاء في المرأة. اختارت الرواية معالجة هذا الموضوع بلغة متساوقة وموضوعَها، وتفصح عن موقف مقنع فنيا في تقديم وتصوير الشخصيات، لكن الرواية تنعطف بعدها انعطافا مفاجئا نحو معالجة رومانسية قريبة المتناول لموضوعات الحب والمتعة والندم، مما يجعل القارئ يحس أن عبارة ‘وخز الضمير’ هي المرادف التعبيري الأنسب لعبارة ‘مخالب المتعة’. فكأن الرواية وقد اختارت ذلك المنحى تنحاز للمقاربة الأخلاقية القريبة المفضية حتما إلى النهاية المأساوية الدموية المتجلية في قتل عزيز لليلى. وتعبر هذه الخلفية الأخلاقية الثاوية بين السطور عن نفسها خاصة في الرسالة التي تركتها بسمة للسارد بعد رحيلها خارج المغرب خوفا من الفضيحة وهروبا من حب يائس، تقول بسمة في رسالتها: ‘بيد أن للمتعة كما للحب مخالبَ قد تخدشنا، قد توجعنا…قد تدمينا.. وقد تفتك بنا ذات جرعة زائدة’ (ص153). تصبح المتعة ضمن هذا المنطق قاتلة، خاصة وأن الجسد ينظر إليه كمصدر للشرور، والجنس أيضا كمفسدة وأداة تدمير. يقول السارد واصفا علاقته ببسمة: ‘كانت لقاءاتنا تخلف لدي إحساسا بالسمو، بالإشباع الروحي..كمتصوف يرقى بحبه المتعالي، عبر مدارج العفة، عن كل شهوات الدنيا إلى أبعد سماء’ (ص77)، إن السارد يحس بالراحة لأنه ‘يتحكم في نزواته الجسدية، لأن الجنس لو دخل علاقتنا لدمرها..وحطم نفسيتها الهشة’ (ص77). يدغدغ التصوير المشاعر، لو جرد من سياقه العام، سياق علاقة بين شاب وامرأة متزوجة ساحرة الجمال كما يقدمها النص: ‘فارعة القوام كأنها حورية خرجت لتوها من البحر (ص19)، كفاكهة شهية (ص67)، تربطها علاقة بالسارد الشاب الفوار حياة ورغبة، ومع ذلك يقنع السارد بدور المستمع السلبي، بدور الأذن: ‘أكبر وأرق أذن عرفها التاريخ، أذن ولا أذن موزار، تبلَع الجسد وتأخذ مكانه (ص70)، وفي المقابل نجد عزيز الشاب اللعوب بائع الهوى والمتعة باقتناع استنادا إلى منطق متماسك، تربطه علاقة بليلى، علاقة متعة مفتوحة، في التزام بالأدوار محدد ومرسوم بصرامة تجارية محسوبة مضبوطة، لكن النص يأبى إلا أن يجعله يتحول بشكل مفاجئ إلى عاشق ولهان متيم هيمان بليلى نفسها، مما يدفعه إلى قتلها وقد أعمته الغيرة. هكذا يأتي المضمون الرومانسي القريب من الأجواء المنفلوطية ليكبح اندفاعة النص الأولية والزخم الدلالي الواعد الذي حملته طبيعة شخصياته وصفحاته الأولى.
يقال إن الناقد مبدع فاشل، لهذا تجد من النقاد من يكتب نصه على هامش النص المتحقق، قد يكون الأمر كذلك في هذه القراءة التي هي إفصاح عن مجموعة من انطباعات وتعبير عن مذاق ذلك النص الغائب، ولكن بعيدا عن صورة ذلك الناقد المتعالم الذي تقدمه رواية ‘مخالب المتعة’ بعبارته المحفوظة ‘الافتقار إلى العمق’، فرواية ‘مخالب المتعة’ قابلة لقراءات متعددة، ومن هنا عمقها الفني.
منشورات المركز الثقافي العربي، 2009
جريدة العلم الثقافي، السنة 38، 28 ماي 2009
www.iwffo.org/…/index.php?…