0%
Still working...

مخالب المتعة الحجيري ابراهيم

فاتحة مرشيد في روايتها الجديدة “مخالب المتعة”

تشخيص هشاشة العلاقات العاطفية في ظل التعطل الوظيفي والفكري

إبراهيم الحجري

       أسست فاتحة مرشيد انتماءها المتعدد للمشهد الثقافي العربي، بعد أن راكمت ازدواجية مهمة على مستوى الصناعتين: الشعر والسرد الروائي.  وتحفل كتاباتها الروائية خاصة، باهتمام كبير، ربما لأن فاتحة جاءت إلى السرد من جهة الشعر، ولأنه غالبا ما يكتب الشاعر الرواية بتميز، وبنكهة مخالفة تماما. هذا ما حصل تماما مع الرواية الجديدة التي صدرت، عن المركز الثقافي العربي بالدار البيضاء، واختارت لها من الأسماء “مخالب المتعة”. علما بان الكاتبة سبق أن أصدرت، فضلا، عن عدة دواوين شعرية، رواية “لحظات لا غير” سنة 2007م، عن الناشر نفسه.

        تدور أحداث الرواية حول عن شابين جمعتهما ظروف الدراسة قبل أن تجمعهما العطالة في مقهى بشكل مفاجئ. وسيكون هذا اللقاء فاتحة لمغامرة محظورة بحثا عن الخبز والجنس القدرين. غير أن أحدهما ظل دائما ينصت لروح العقل والضمير في راح الآخر يقتفي أثر المال الحرام والمتعة المحظورة ليجد نفسه في قفص حب غير متكافئ مع امرأة رمت قلبها منذ زمان في البحر. وحينما أخبرها بأنه أصبح يحبها هجرته وطردته شر طردة. وتنتهي العلاقة بجريمة قتل يرتكبها الشاب المتهور ليهبي بقية عمره وراء القضبان.

        لقد عرت الرواية بشكل جريء العلاقات اللا متكافئة في الحب والزواج المغلف بالخداع وطعم الخيانة، فضلا عن حالات الإحساس بالضيم لدى المعطلين الذين أفنوا عمرهم في التحصيل لترميهم الجامعة وشواهدهم إلى الشوارع دون رحمة. ومع أن الكاتبة جاءت إلى الرواية من أحضان الشعر، فقد تميز أسلوبها بالكثير من الإيحاء والجمالية، وكشفت طريقتها في السرد عن عمق النظر، ومعايشة الظواهر السيكولوجية العميقة للناس.

وإذا كانت الكاتبة الشرقية ما تزال لم تحسم بعد مع قضية الذات والجسد نظرا لظروف سيوسيوثقافية تخص المحيط العام الذي يؤطر السياق المعيش، فإن فاتحة مرشيد تجاوزت هذه العقبات، لتطرق معضلات إنسانية كبرى تقض مضجع الذات الإنسانية ذكرا كانت أم أنثى. وربما كان للتحول الكبير الذي عرفه المغرب على مستوى الحريات العامة، والمهمة الوظيفية التي تزاولها الكاتبة في الحياة العامة “الطب النفسي” خزانا كبيرا يوفر مادة هائلة للاشتغال على السرد بشكل أبلغ وأعمق. لعل من أكبر المعضلات في المغرب نذكر مشكل البطالة الذي يؤرق الأجيال الصاعدة، خاصة الشباب، ويشكل بالنسبة إليهم سؤالا فلسفيا ووجوديا عصيبا بالنظر لطبيعة تعامل الدولة معه “إن المقررات الدراسية لا تضع نصب أعينها المستقبل المهني للطالب، ولا تؤهله إطلاقا لخوض معركة التشغيل –وأنا أحسن مثال على هذا- برامج تقتل ما تبقى فيك من روح المبادرة وقد عملت صرامة والدك على وأد الحيز الكبير منها. لذا أنت تنتظر الوظيفة الحكومية، تنتظر مكتبا تشيخ وتموت على كرسيه بعد أن يغشاك غبار الملفات والسجلات الإدارية وتكتسب عادات ثابتة ثبوت إيمانك. لكن الإدارة ذاتها قد تعبت من الموظفين القدامى فأحالتهم على التقاعد النسبي الذي سمته بذكاء: المغادرة الطوعية أو الإدارية بعد أن اشترت كل الإرادات بتعويضات تفوق أحلام المتقاعدين البسيطة. بخلفية إخلاء الأماكن للشباب العاطل” ص 46. إن العطالة، من منظور نفسي، تفقد الكائن حركيته المعهودة، وتولد لديه أحاسيس غريبة بالتهميش والموت والضياع. الشيء الذي يدفعه حتميا إلى تغيير وجهة نظره من العالم والناس والمنظومة المجتمعية والقيمية. وقيل قديما “كاد الفقر أن يكون فقرا” لذلك فلا غرابة أن يصبح الإنسان، في ظلها غريب الأطوار، لأنه يفقد انتماءه للآدمية، وفي لحظة يمكن أن يضحي بكل شيء من أجل أن يعوض عن الموت المعنوي الذي يلتهم مكوناته الهوياتية.

وقد تحدثت الرواية عن نوعين من العطالة:

– عطالة مادية تتجسد في عدم وجود عمل يسد فراغ الشابين الحاصلين على شواهد عليا تخول لهم الشغل في مناصب مريحة. هذه العطالة تدفع الشابين إلى المغامرة بكل شيء بحثا عن الخبز اليومي، وتأمين الحاجات البيولوجية والنفسية، إلى درجة أن أحدهم يبيع جسده بالمقابل لنساء أرستقراطيات (عزيز).

– عطالة معنوية تستشعرها النساء المتزوجات في وضعية غير متكافئة تطبعها المصالح المادية. هؤلاء يفضلن البحث عن المتعة الجسدية، والدفء خارج أسوار بيت الزوجية من أجل الحفاظ على العقد الكتابي للارتباط. يتعلق الأمر ببسمة وليلى وميمي التي تشتغل كباروامن.

والعطالتان معا وجهان لعملة واحدة, فكل واحد يكون معبرا لفساد الآخر. يقول المتن: “أن تكون عاطلا عن العمل فأنت حتما عاطلا عن الحب… عاطلا عن الحياة” ص 7. كما أن الشخصيات نفسها مجرد مرايا تعكس الظلال الخفية للكائن الآدمي الواحد. بينما لا تتغير سوى الأوضاع والحالات والتحولات والمظاهر الفيزيولوجية، ودرجة التحكم في الرغبات الجسدية، والأسامي والملامح. في الوقت الذي يكون فيه العمق الإنساني واحدا. وتجسد الأفعال السردية التي يقوم بها كل شخص حافزا لاستثارة الشخص الآخر الذي غالبا ما يقوم الفعل أو يحرضه دون أن يكون هناك نوع من الحياد، وكأنا العوامل تتحرك وفق نظام تتواطأ عليه مع الكاتب الضمني للنص الروائي. إن الشخصيات علامات تكمل بعضها، ومرايا تنعكس عليها مقولات دلالية يتوخاها السرد.

        إن السرد الروائي هنا بقدر ما يحكي آلام الشخوص ومعاناتهم الداخلية من خلال قضيتي الفقر والجسد، يفسح المجال على مصراعيه للذات الراوية بأن تطرق عوالم وموضوعات متنوعة، خاصة فيما يتعلق بالطقوس المغربية في الحب، في الجنس، في النظر إلى المرأة، في التعامل مع منظومة القيم… وكل هذا يأتي طبعا على ألسنة الشخوص والرواة. إذ تبدو الحكاية بسيطة مقابل ما ما يحبل النص من مناقشات لقضايا هامشية تعدو بفعل ثقل حجمها أساسية. وهذا يفسر الطابع النقدي الذي يستضمره المتن الروائي لمجموعة من المواضيع تعتبر طابوهات في المنظور الثقافي الشعبي. حيث توجه الرواية نقدا لاذعا لطبيعة الثقافة الجنسية المغلوطة لدى العامة امرأة كانت أو رجلا. فالجنس ثقافة الجسد بامتياز، وهو لغة كونية يجب أن تمارس بالجوهر لا بالجسد الفيزيولوجي “ممارسة الجنس ليست في المعاشرة الجنسية وحدها بل في كل ما يحيط بها… ما يهيئ لها… ما يدل عليها… ما يجعلك مستثارا كما في أحلامك اللذيذة” ص 96. ونفس الأمر ينطبق على الوجه الآخر الملتبس بالجنس، هو بوابته وعتبته إلى الجسد. هو الحب الذي أضحى عملة فاسدة تستدرج الأخر نحو فتنة الأسفل، وغواية الجسد لا غير. لذلك فالمتن الروائي يعمد إلى فضح هذه اللعبة القذرة “عند ما نحب فكل حركاتنا وسكناتنا تستحيل ممارسة للجنس في أرقى تجلياته” ص 96. لكن كل هذه السلوكيات المشوهة عن أصل عميق وأصيل تجد صداها في طبيعة الثقافة العشقية والجنسية بالمغرب التي تقوم على “ثقافة الكتمان والتستر” ص 110. دون أن ننسى أن المتن انصرف أيضا إلى مساءلة العديد من الظواهر الثقافية اللصيقة بالطابع الشعبي مثل السحر، التداوي الشعبي، الجن، عبر تشخيصها وتأملها بشكل يجعلنا ننظر إلى ذواتنا بطريقة محايدة، مستعملة كل العلامات المحيلة على الطقس الشعبي من لغة دارجة، وأمثال شعبية “الدنيا بحال لمرا إلى بغاتك حلات حزامها واعطاتك” ص 54، “فلوس اللبن كايديها زعطوط” ص 38. وأغاني شعبية “حكمت عليها الظروف تشرب لكاس وترضي لخواطر مسكينة من الفقر والخوف تخلق السعادة وتبقى هي بلا خاطر وراه كاينة ظروف…” ص 101، الحكاية الشعبية ص 129، التاريخ المعاصر “إعدام صدام ص 109…

        لقد عجنت الروائية هذه المادة من لغة الشعر التي تخبرها جيد، ومن لغة اللارغو، ومن مواد التحليل النفسي التي تباشرها يوميا بحكم العمل، ومن معايشتها لثقافة القاع، ومن خلال تجربة الذات في التعامل مع أسئلة الذات والآخر، بوعي فني جعل من النص الروائي مغايرا لما تكتبه النساء العربيات خاصة في المشرق، سواء من خلال مغازلته للأسئلة العميقة للذات، أو من خلال تأمله لقضايا الإنسان المغربي العميقة، أو من خلال ما يتميز به من جرأة على القول، وعمق في التصور والتفكير. دون أن تنسى الحفاظ على الصيغة المغربية في ذكر الفضاء والزمن والتاريخ المحلي واللغة والانتماء.

صحيفة العرب القطرية، العدد 7692 – السبت 4 يوليوز 2009

www.alarab.com

Leave A Comment

Recommended Posts