انصهار جمالي بين موضوعتي الكتابة والعشق
محمد علوط:
تشبه الكتابة حلم اليقظة حيث تستطيع الذات أن تتحرر من سلطة الحدود المادية المفروضة عليها، لتفسح للرغبة مجال التحرر والتعبير المنفلت من أسر العالم الواقعي(الهنا/الآن) حلم شعري يكتب مجازات الأنا الشعري في فضاءات موسومة بالغيرية، حيث ما لايطيقه الوجود المادي الملموس تحتمله الكتابة، الكتابة بكل احتمالاتها وتوقعاتها وانشدادها الى آفاق إنسانية مسكونة برهان الحرية والتغيير وإعادة تشكيل الذات والعالم، ورسم صورة شعرية مختلفة للوجود الإنساني.
تبني فاتحة مرشيد عالمها الشعري في ديوانها الثاني على مزاوجة آسرة بني موضوعتي “الكتابة” و “العشق” وذلك من خلال الإيحاء الدال “ورق عاشق”. فالبعد المعجمي للعنوان يجعل من مفرده “ورق” انفتاحا رمزيا يقودنا على مستوى التأويل إلى التقابلات الدلالية التالية :
(أ). الورق كمعادل رمزي للكتابة، أي فعل إنشاء القصيدة، وبناء تجربة شعرية، ومنزع للتعبير عن هواجس الأنا الشعري والاختلاجات الشعورية والحمولة المعرفية والفكرية لهذا الصوت، صوت الذات المتكلمة عبر وساطة الكتابة، ومثال ذلك الإيراد الشعري التالي :
*”محارة النفس حبلى
وبيني وبين الحبر
بحر من المخاض”(ص11)
*”أنسج من حروف الجسد
لحافا
كي أحتمي
من بردك
يانجمة آفلة”(ص12)
*”تنزف/الروح/مني
لاأثر/لدمائي/على الورق”(ص139)
استدعاء”الورق” يتم من خلال مجاورات دلالية (الحبر، الحرف، النسج،الأثر)، وذلك في الآن ذاته الذي تترادف فيه معاني تتصادى في مابينها (المحارة الحبلى، الجسد، البرد، الدفء، الروح، النزيف، الدم)؛ بقدر ماتشكل هذه الأخيرة فضاء يرمز إلى المعاناة والمكابدة الذاتية وعمق التجربة ومحمولها، فإن الحقل الدلالي الأول في نزوعه الرمزي يفضي بنا الى عالم الكتابة وإلى التجربة الشعرية، باعتبارها اختيارا تعبيريا واستقطيقيا للحديث عن صورة الوجود الإنساني للذات الشاعرة.
في الشواهد الشعرية المختارة آنفا، مرة نقف عند صوت الشاعرة وهي تنظر الى الكون الشعري باعتباره مجازا لحياة ثانية محتملة وممكنة، أي مضاعفة الذات بتجاوزها الى كينونة تتحقق على مستوى القول الشعري، وتختار لذلك رمز المرأة الحبلى، والمخاض، والولادة الثانية.
ومرة تنظر إلى الفعل الشعري باعتباره وسلية للاختفاء من عنق الوجود (وجود ليلي مظلم وبارد) وذلك بإشاعة الدفء عبر الكلمة الشعرية والتخييل، إن في ذلك أيضا مايؤشر على رفض الذات لفكرة الموت ولأفول والزوال وفقدان الإهتداء (النجمة بقدر ماتضيء الكون يهتدي الكائن بنورها).
وفي المقطع الثالث تتوقف عند حالة خاصة، وهي محنة الكتابة، فليس دائما يصل الشاعر الي تجسييد معاناته عبر الكلمة والورق والحرف، أحيانا تنحبس التجربة وتستعصي، لأنها فوق مايطيق الورق أن يحمله. إن استحالة التعبير تعبير دي حد ذاته، إذ يتضمن بيان عمق التجربة وجلال اختبار الكتابة والإبداع.
(ب). الورق كمعادل للزمن، إذ لطالما تم تلبيس هذه الكلمة معنى العبور الزمني (أوراق العمر، أوراق الخريف) وغيرذلك من المعاني الدالة على العبرية والتجاوز والتحول. ومن السياقات الشعرية المتصلة بهذا المحور الدلالي، قول الشاعرة:
*”أحمل
وشمك
في ثنايا القلب
فكيف تخمد
من يولد
مع كل نبض”
هكذا تنضاف كلمة جديدة وهي “وشم” كإبدال رمزي للكتابة، وتصير الورق معادلا رمزيا للقلب. ويلاحظ أن الشاعرة تمنح “الكتابة” حياة إنسانية، تجسد الكتابة وتروضها وتعطيها وجودا وجدانيا، وخفقا من الحياة، تصير به مرآة للذات وللاختبارات التي تحياها. وفضلا عن ذلك تقف الكتابة موقف الندية في مواجهة الزمن، حيث أنها شكل من أشكال مواجهة الأتر السلبي لعبير الزمن، والارتكاسات القاسية لمختلف أشكال المحو والزوال، مع إشارة نبيهة الى تبئير الشاعرة على رمزية الميلاد والتجدد.
(ج). تبين لنا أيضا أن الأديبة فاتحة مرشيد تلجأ إلى الطبيعة، ولغتها الرمزية فتجعل منها طرسا للكتابة، أي ورقا لانكتاب تجربتها الإنسانية ومداها التعبييري. ويعتبر هذا النزوع من المداخل المهمة ذات التجذر الرومنطيقي، التي تملأ صور الديوان وتؤقته من حيث تشكل الدلالة والمعنى:
*”ينطفئ/لهيب الشمس/ على نهار/بلا ميعاد /يغمرني/طعم الرماد”
*”يشجب /فوق صدري/قميصك الأبيض/ويشتد / سواد الإنتظار”
*”أناشد /قلما من نار/أن يسكب/بردي إليك”
*”يلفني الدوار/حين…/تغمر الشمس /مسوداتي”
المعجم الطبيعي الوارد في هذه الاستشهادات يعزف على ثنايا الظلمة والنور وثنائية الدفء والبرودة. ويتناغم حيويا مع مختلف الإحالات الدالة على الكتابة كثنائية السواد والبياض، وحضور القلم. إن هذا النزوع المتمثل في توظيف جسد الطبيعة بكل عناصرها كنص للكتابة، كورق للانكتاب التجربة الشعرية، ليظل من العلامات الفارقة المميزة لديوان “ورق عاشق”.
البعد الثاني في الديوان يتجسد في اختيار ثيمة “العشق” وهي موضوعة مركزية في هذا الديوان، إلى درجة القول بأن قصائد هذا المتن تشتغل أساسا علي هذا الموضوع الذي من خلاله تعبر الشاعرة من كل ما يعلن لها من رؤى وأحاسيس وأفكار وأسئلة
ومن أجمل مقاطع الديوان التي تمثل لهذا المنحى قول الشاعرة:
“إن كان الشعر
كحبك
يفتح كوة
وسط الظلام
كم يلزمني
من معلقة
لأقهر
هذا الدمس”(ص75)
ها هنا، وعلى منطوق عنوان الديوان، نرى كيف تمتزج الكتابة كثيمة بموضوع العشق على نحو من التماهي والتضام. إذ تمنح الشاعرة للحب والعشق صورة الإكسير الذي يخلد القيم والعواطف والمواقف النبيلة، وتضع العشق في صلب الحياة، بما هو التعبير الأمثل عن الإرادة الإنسانية التي تسعى إلى محو وقهر مختلف مظاهر اليأس والظلام والسلب في الوجود المتصل بالذات، أو المنفتح على الكينونة الإنسانية. ومثل هذه الصورة تتكر في أنحاء متعددة من الديوان. ناشدة قيما مثل الحرية، والإرادة والصداقة وتمجيد المرأة، والبحث عن توازن مثالي في العلاقة بين الرجل والمرأة، فضلا عن نشدان الجمال جوهر كل حقيقة شعرية:
“حين أودعك
ألقاك بأغواري
أعبر به الفراغ
في انتظار
عودة المعنى
الى المعنى
بحضورك”(ص33)
إذا جانبنا ما يتصل بالعالم الدلالي لهذه التجربة الشعرية، فإن وقفة ارتيادية عند أنماط أشغال النص الشعري لفاتحة مرشيد، تقودنا إلى الاستخلاصات التالية :
1. انتحاء الشاعرة لأسلوبية غنائية في العديد من القصائد، وهي غنائية ترتكزعلى الحضور العام لصوت الأنا الشعري، وتوزع هذا الصوت بين البوح المونولوجي تارة، وتارة باللجوء إلى محاور الآخر، وسواء تعلق الأمر بالخطاب اليومي أو بالحوار المونولوجي. فإن المعجم الأشد حضورا هو تحديدا المعجم الوجداني (محور الكتابة/محور العشق) إلى جانب التوظيفات الرمزية، البلاغة للمعجم الطبيعي.
2. اعتماد البناء الشذري في العديد من القصائد. ويمكن التمثيل لهذا المنزع بالشذرات المتعددة التي أتت ضمن القسم المعنوي بــ “هسيس الفرشات” خاصة التي مالت فيها الشاعرة الى بناء نوع من البورتريهات الرمزية لصور النساء. وعلى سبيل الختم، فإن الشاعرة فاتحة مرشيد تقدم لنا صورة لعالم إبداعي متناغم ومنسجم، تحكمه آليات واضحة على مستوى بناء النص وتشييد العالم الشعري.
ونحن بصدد تجربة في الكتابة الشعرية ذات نفس عميق وخلاق.
جريدة “الصحراء المغربية” 17 يونيو 2005 العدد 5993