الحقُّ في الرحيل
د. محمد برادة
في روايتها الأخيرة “الحق في الرحيل” (المركز الثقافي العربي، 2013)، تطرح الدكتورة فاتحة مرشيد معضلة تحظى منذ عقود باهتمام الرأي العام العالمي، لأنها تتصل بالموت الرحيم الذي غدا مطلبا مُلحاً لعدد كبير من ضحايا الأمراض المُستعصية المقترنة بآلام لا تحتمل. ولعل اشتغال كاتبة الرواية بالطبّ هو ما جعلها قريبة من هذا العذاب القاهر.
لكن الرواية في الواقع، لا تقتصر على ملامسة هذه المعضلة الإنسانية، بل تجعل منها أحد المحاور المتصلة بحياتنا الموزعة بين لحظات السعادة والحب والهناء القصيرة، وفُصول الألم ومواجهة الموت الطويلة. من ثمّ اختارت الكاتبة بناء روائياً مفتوحاً يسمح بالاستطراد والانتقال إلى أكثر من موضوع وفضاء (لندن، باريس، أغادير..).
تنطلق الرواية من قصة حبّ صاعق بين فؤاد وإسلان المغربييْن الذيْن التقيا ذات ليلية فاصلة بين عاميْن: أجواء احتفالات استقبال العام الجديد في لندن، وإسلان الجميلة تُبدد ابتسامتها كآبة الصحفيّ فؤاد الباحث عن حب يُعيد لحياته المعنى المفقود.. هي اشتهرتْ ببراعتها في الطبخ وخيمياء التوابل، وهو متمرّس في متابعة حركة العالم السائر على غير هدى نحو مستقبل مجهول.. يأخذ هذا الحب المُلتهب طريقه إلى الزواج، ويرافق ذلك تحقيق حلم إسلان في فتح مطعم ناجح بمدينة أغادير، ويقرر الزوجان أن يعيشا على تخوم عالم لا تعترف صفوتُه بالحدود. تلجأ الكاتبة، هنا، إلى نوع من الاستطراد المضيء والمُكمّل، فتنبش قللاً في الماضي المشترك للأصدقاء المغاربة الذين جمعتهم أيامُ الدراسة في باريس: رشيد، حميد، يوسف وفؤاد. إلى أن استعادة ذلك الماضي اقتصرتْ على مغامراتهم الجنسية واستحضار طرائف الحبيبات والخليلات. وكان ماضي فؤاد ينطوي على قصة مأساوية حين وجد نفسه مضطراً لزواج “أبيض” من ربيعة أخت صلاح، صديق طفولته الذي ارتكب زنا المحارم مع أخته، فسارع فؤاد إلى الزواج منها تجنباً للفضيحة..
على رغم كل ذلك، استطاع فؤاد أن يتخلص من الماضي ومشاكله، وعانق الحب ليُبحر رفقة زوجته إسلان صوب شطآن السعادة. لكن القدر، كما يقال، كان لهما بالمرصاد لأن إسلان أصيبتْ بسرطان اللسان فارتادتْ جحيم العذاب اليومي دون أن يتمكن الطبّ من تخفيف آلامها. وكان الطبيب المعالج هو الدكتور رشيد صديق أيام الشباب الذي رفض الاستجابة لطلب صديقه بأن يضع حداً لحياة زوجته الراغبة في الرحيل.
عند هذا المستوى، تتحول الرواية إلى مجرى آخر يتناول رغبة المرضى اليائسين من الشفاء في أن يضع الطبيب نهاية لحياتهم، أي تطبيق مبدأ الموت الرحيم )Euthanasie(
غير أن هذا الإنقاذ من العذاب يُلاقي رفضاً من رجال الديانات السماوية، ولا يُسمح قانونيا بتطبيقه إلا في أقطار جدّ محدودة.. وفي الرواية، نجد أن إسلان كانت قد طلبت من فؤاد زوجها ألا يتركها فريسة للدّاء الفتاك يشوّه كيانها ويطمس ملامحها. قالت له: “أحببتُ الحياة وعشتها كما أردتُ وأكثر، وسوف أستقبل الموت بسكينة وسعة خاطر، شريطة أن أموت إنسانة بكامل كرامتي) ص: 164. استفحل المرض وأقرّ الطب بعجزه، ولم يعد فؤاد قادراً على رؤية حبيبته في أتون العذاب. عندئذ حاول مرة أخرى أن يقنع الدكتور رشيد بأن يسعف إسلان بالموت الرحيم، لكنه ظل متشبثا بالرفض، فلم يتردد فؤاد في تنفيد رغبة زوجته في الرحيل: “قضيتُ الليلة جاثما أمام جثمانها أناجيها، وعند بزوغ أول نهار بدونها، اتصلتُ بالشرطة”.
على هذا النحو، تبدو رواية “الحق في الرحيل” أشبه بمقاطع من سيمفونية الحب والألم، تتناوب حركاتُها على لحظات الفرح أحياناً، وعلى دروب العذاب في معظم الأحيان. ولعلّ السؤال الأساس الكامن في صلب الرواية هو: أليس من حقّ الإنسان أن يقرر رحيله متى أحسّ أن نهايته حلّتْ، وأنه عاجز عن تحمّل التشويه والعذاب، وعاجز عن الاحتفاظ بذكرياته عن روعة الحياة؟
ولعل إلحاح الكاتبة، في الصفحات الأخيرة على الدفاع عن مبدأ الموت الرحيم، يعطي الانطباع بأننا أمام رواية أطروحة تجنح إلى المباشرة والتحيُّز السافر، لكن ما قد يشفع لها هو أن الدفاع هنا متعلق بقضية إنسانية تحتاج إلى رفع النبرة والتخفيف من عذاب الإنسان وهو يرتاد غياهب الفناء.
مجلة دبي الثقافية
السنة التاسعة، العدد 97 يونيو (حزيران) 2013