“ما لم يُقل بيننا” لفاتحـة مرشيـد
لــهـــــــاث وعـــرق بـــارد وركـــض مــن غــيـــر وصــــــــول
محمد العشري
متى يصبح الصمت أكثر تعبيراً من الكلام؟ ومتى يصبح تأويله ضرورة لمعرفة الآخر؟ ذلك ما تجرّبه، وتحاول أن ترصده، بملامحه المتعددة، الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد في مجموعتها الشعرية الجديدة “ما لم يقل بيننا”، الصادرة حديثاً لدى “المركز الثقافي العربي” بالدار البيضاء في المغرب. عبر نص شعري حر، بلا عناوين أو حواجز تفصله بعضه عن البعض، تترك فيه الشاعرة لغتها تشكل بوجهها الخاص، وتتركه بين يديَّ القارئ حراً ليعبّر عن تجربتها الشعرية في نص واحد، سلس، متعدد الدلالات، تحركه دفقات شعورية: “جريحان/ وهذا الليل متربص/ كخطيئة”، أيضاً، تسكنه موجات شاعرية متلاحقة، ومتلاحمة: “كم يلزمني من مجيء/ لأبتعد أكثر”، تقابلها الترجمة الإنكليزية للمجموعة “Unspoken” ترجمة نور الدين الزويتني، كـ”خيانة” مكملة، ومتناسقة، مع الخط الدرامي الذي تسير عليه المجموعة.
“تستدرجني/ لاختبار الحواس/ وقد فرغ الصدر/ إلا من ضيقه/ وأنامل/ تلملم توترها/ وليل ملائم للضياع”: هذا التوتر يسيطر على أجواء القصائد، ويلونها بحالات انفعال تختبئ في مفردات الأسطر الشعرية، وتظهر بين حين وآخر، وخصوصاً حين يصبح اللقاء بالآخر متاحاً وحاضراً: “طفل يمدّ يديه/ نحمله/ يصرخ بين أحضاننا”. وثمة منحى شعري من حيث رصد الذات من منطلق امتزاجها وعشقها: “ما زالت هناك/ قبلة/ على عرشها المضيء/ تتربع”، وهو منحى تسعى إلى تأصيله في مجموعاتها، خصوصاً في “تعال نمطر”، التي اعتنت فيها بالبحث عن مفردات دالة، تمنحها توهجاً موازياً لفعل الشعر، وترصد ذاتها الداخلية بكل ما يعتريها من قلق وتوتر، وما يشكل وجدانها في علاقتها بالآخر، وتفاعلها معه سلباً وإيجاباً.
تسعى فاتحة مرشيد في قصائدها إلى البحث عن الاكتمال، وهي تدرك أن لا اكتمال بالآخر إلا من خلال معرفة الذات الفردية، واختبار قدرتها على أن تحيا وحدها، متحررة من قيودها: “أكانت محاولة/ انعتاق/ من قيود الجسد/ أم كانت ذريعة/ لإحكام القيود”. وهي بذلك تحاول أن تعلو فوق الحواس، وتلمس أطراف الروح، ملتاعة تمتزج بالمطر، حتى يختفي الحد الفاصل بين الروحي والحسي: “أي الأدلة/ ترضي حواسك/ وتلغي شبها محتملا/ بين توأمين”. لا تتوانى الذات الشعرية، المتشظية في الفضاء الواسع، بحثاً عن لملمة ذاتيتها وصهرها في الآخر، عن الاعتراف، والتماهي مع ظلها بشغفه الإنساني، وإن تخلى ذلك الظل المرافق عن إنسانيته، واكتسب صفات ليست له، وأمعن في اقتراف الإثم في سبيل الوصول، والتوحد: “للملائكة/ دنان من خطايا/ وللذئاب/ بوح أزرق”.
“أنحني/ أتعثر/ أتكسر/ أتوطد/ أنهض/ أستقيم”: هكذا، تبدو الذات الشاعرة متآلفة مع صور عمرها، تعشق انعكاس ذاكرتها في بحثها الدؤوب عن جوهرها، وعمقها، وعشقها، وكيانها، وحنينها الخاص، وذاتها المستلبة في مدارات يفضي بعضها الى البعض الآخر، تدخلها في تجربة تلو تجربة بلا توقف: “كم مرة/ دسنا/ على رتابة أيامنا/ بخفة فراشة”. يبدو للقارئ أن اللقاء بالآخر والالتقاء بالذات ولو مصادفة، يحرّك موج الأمنيات، ويفتح الأذرع عن آخرها، وهي تقول: “خذني/ إلى نهاية أخرى/ حيث الصدف مواعيد”.
جريدة النهار، الاثنين 24 يناير 2011
http://www.annahar.com/content.php?priority=4&table=adab&type=adab&day=Mon