الشعر عند الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد بسيط اللغة، أليف الصور، جميل التركيب، هادئ ومتوتر، ولكنها البساطة المُغرية، البساطة التي تشدك من بين يديك، وهي تتنقل بك بين عوالمها المتخيلة، فيمكنك هنا، أن ترقص، وهنا أن تعشق، وهناك أن تجن، فمن قال إن الشعر يجب أن يكون على غموض تام حتى يأسر، حتى يسلبنا الروح، وحتى يفتح قلوبنا على الدهشة .. في عملها الشعري الجديد، المؤلف من نص واحد، متقطع، متعدد، ومفتوح، الصادر عن المركز الثقافي العربي بعنوان’ما لم يقل بيننا’ باللغتين العربية والانكليزية، بعد عدة أعمال شعرية صدرت لها بالمغرب وترجمت لأكثر من لغة أجنبية كـ’ورق عاشق’ 2003 ‘تعال نمطر’ 2006 ‘أي سواد تخفي يا قوس قزح’ 2006 ‘آخر الطريق أوله’ 2009، وتجربة روائية أعطت نصين هما ‘لحظات لا غير’ و’مخالب المتعة’ تأخذنا فاتحة مرشيد لعوالمها الداخلية، ومواطن فرحها الطفولي، وحبها المختلس من أزمنة متوحشة، إنها كتابة عن الحب، ذلك الحب النادر والمشتهى، ذلك الذي هو أفق ممكن للحياة كنشوة صامتة، وصاخبة في الآن ذاته، الحب كرؤية للعالم منه تتناسل الحيوات والأخيلة. حب يستحيل ولكنه يتدفق، يحاول أن يجد له طريقا في غموض الحياة وتلوناتها الصعبة، حب يلتبس بلحظة البحث، والمناشدة: ‘لن يقوى شبقك/على ترميم الحكاية/..عاشقة / كنتها/ تتنكر لي/ بغربة السرير/ وكحلي السائل/ يوقع الوسادة/ بين سورة غضبي/ وهدوئك المصطنع/ تعجز دمعة/ عن فك حشرجة/ تنحصر بيننا/’ كعادتها لا تغلق مرشيد أبواب القلب، بل تتمادى في الغي، والعصيان فتتركها مشرعة، مفتوحة للممكن كما للمستحيل، نداء روح تتلهف باشتياق للانغماس في النشوة، إنها لا تخاف لأنها تحب، أو هي لا تخاف لأنها تعلن الحب، تجاهر به، تدفعه للذهاب نحو الأقصى، نحو الأجمل. ‘ألقيت بالعالم/ خلفي/وهرعت إليك/ أمد جسورا/ أوقعها/ زلزال مسافة’ ‘آه كم أحببت/ صدرك العاري/ وكم يصدني الآن/’ ‘ملتاعة جئت/ لأمتزج/ بروح العطر’ الكتابة عند مرشيد فرح، صوت ذات تحلم، وتكابد، وتغامر، وهي تسأل عدة مرات نفس السؤال الغائم عن مصير الحب، أي مصير الكائن الإنساني فينا، وحالاته المتعددة التي يفجرها العشق، وتفتحها نار الأسئلة: ‘أين مني/ لهفة البحر/ حين يهيج’ ‘لا تنظر إليً/ كسجان/ ما عاد يقوى/ على الحراسة’ الحب هنا كأنه فسيفساء تتجمع فيها كومة من نيران المشاعر وأهازيج الغناء، وأطياف الذكريات، ورقصات الأحلام، وشهوات مبعثرة على خرائط السرير، لأن الحب هنا مختلط بالجسد، بذلك الذي هو مكان التلاقي والتوحد، الجسد كعامل تكتمل به الانفتاحات وتتوحد فيه السرائر: ‘عيون تفتح الليل/ على فجر الجسد’ ‘واختبأنا/ تحت ظلال/ أحلامنا الآتية/ نلون/ خرائط الجسد’ ‘دائم عطشك/..كم يلزمني من ري/ لأعمد هذا الحب’ ماذا تريد مرشيد من هذه الكتابة التي تعانق العشق فتعلنه بصوت نشيدي، وهي تهب نصها فسحة التضليل فتقودنا إلى حيث تريد، وكما تريد؟ في أي شيء تجمعنا هذه المقاطع المتناثرة والمتوحدة بخيط واحد، رهيف للغاية، ولكنه يشد بعضه بعضا كأنه جسد واحد! وأنت تقرأ نصوص فاتحة مرشيد لا بد أنك ستهوى تلك اللعبة المستمرة في الحفر داخل عالم الحياة العاطفية الغزيرة، الآثمة والجميلة، تلك التي منها تنبع العوالم وتينع الينابيع. إنها لا تحمل أي رسالة، الشعر ليس رسالة، إنها فقط تفتح نوافذ للقلب كي يتقطر بالعشق والدم، إنها معزوفة تنشد بها الآخر، بالمعنى الأعمق للآخر، أي المحبوب الذي به تكتمل الصورة، ويصل النداء، وتتحقق النبوءة: ‘خذني/ إلى نهاية أخرى/ حيث الصدف مواعيد’. وأنت تقرأ شعر فاتحة مرشيد لا بد أن تشعر بالكثير من السعادة، فشعرها لا يغامر إلا نحو ذاته/ذاتك، هو مخاطبة حميمة، وحنونة، إننا أمام صوت يتدفق بالحب والكلمات، نص بقدر ما يربك ببساطته ألفتنا يوحدنا بالمجهول، ويدفعنا للحلم والتماهي مع العذوبة الآسرة لهذا الأفق الشعري المتناهي في الرقة والنزق. القدس العربي، 17 ديسمبر 2010 www.alquds.co.uk |