0%
Still working...

للقصيدة عندها بداية محمد الجنبوبي

للقصيدة عندها بداية..  تنتهي الصفحات وما تنتهي القصيدة

محمد جنبوبي

“ورق عاشق” ديون شعري جديد للشاعرة فاتحة مرشيد، هذا الصوت النسوي الذي تسلل إلى الشعر من خارج المسار المألوف والمسلك الذي عادة ما كان بين ضفتي “وادي الأدب” دراسة وتكوينا ثم ممارسة مهنية. درب فاتحة مرشيد ربما كان مجراه معاكسا للتيار – في العادة طبعا- وربما كانت لحظات الاستنبات في بناء شخص الانتماء المعرفي لديها عبارة عن انتقالات لا تستأذن العادة، ولا تهادن المألوف أو تستكين إليه، انتقالات عبر الرقم والمعادلة ثم المجس والتشخيص.

ما أجمل أن ينتقل الانسان من تشخيص الجسد والرصد العضوي إلى ملاعبة الروح ومداعبتها، إلى جس الأنفاس والمشاعر وتشخيص الأحاسيس والعواطف.

فاتحة مرشيد من خلال قصائدها لحظة انتقال هادئ من الجسد والعضوي إلى عوالم الذات وفضاءات الكينونات الداخلية والعلائق المجردة المتداخلة المتقاطعة بمنأى عن منطق العادة وعادة المنطق، انتقال مشوب بالمكاشفة الفجائية وحميمية الانصهار بين لهيب الفكرة وجمرة اللفظ، بين حرقة السؤال والمرأى البعيد، البعيد، من أقاصي الذات إلى مغرس شمس الغروب عند منتهى البحر، وهل ينتهي البحر أمام المبحر اللاهث خلف منتهى البصر؟

فاتحة مرشيد التي تسترق من وزرتها البيضاء لحظات تنصل كي تجري خلف منغرس شمس بحرها متأبطة انصية قصائدها ومتصببة حروفا وكلمات تتساقط تباعا لتحتل واجهة المعنى وتنتظم في نصوص نطل من خلالها على شخصها المنتفض من تحت الوزرة البيضاء المتخلص – ولو للحظات – من تراتيل النبض وترصد المجس وصحائف الوصفات والروشتات، شخصها الحالم، شخصها المتلبس بالشعر المستحم برذاذه، شخصها، الذات المبدعة، التي أطلت من قبل عبر ديوانها “إيماءات”، وفي رحلة الإصرار على ممارسة الإطلال والانخراط في الحضور تطل اليوم عبر “ورق عاشق” الذي اقتحمت به خلوة القارئ وانتزعت من إغفاءته لحظة تمثل واستحمام بالرذاذ المنبعث صوتا ورائحة وطعما، من بين كلمات وجمل ونصوص، مستلقية على طول 168 صفحة مشكلة مادة لديوان شعري تتوزعه تبويبات تحمل عناوين رئيسية وتختص بصفحاته تفريعات على شكل عناوين تجزيئية أو ترقيمات وظيفية، في التبويبات الرئيسية هناك: ورق عاشق، هسيس الفراشات، رشفات، ألوان القلق. أما التفريعات فنجد كل عنوان منها يختص بصفحة ويعتلي جزءا شعريا  أحيانا تنتفض من أسفله لحظة إتمام وتقفز إلى الواجهة الأخرى من صفحة جديدة مكسرة بذلك شبه نظام نخال أنفسنا تعودناه أواكتشفناه أو أوهمتنا للحظات أنه القانون الداخلي لفحوى الديوان وأشيائه وخصوصية الشكل، فيه تكسير شكلي نعيشه في بعض الأجزاء لتعاود النصوص ممارسة استقلالها واستفراد صفحاتها بعناوين نفاجأ بانسحابها هي الأخرى تاركا مشجبها وموقع الاعتلاء فيها لأرقام ربما حملت من الدلالات أكثر من محمولها المباشر العادي والعدي.

ورق عاشق مجموعة شعرية تطرز نصوصها رسومات فنية تتقاسم حرقة السؤال المتكرر بالصيغة والعلامة المتفرد كل منه بحمولته وبما اختص به من معنى، مع الشاعرة نبحر في تلاطم أسئلتها، السؤال مدخل لقراءة متسرعة واستقراء أولي يميل إلى الانطباع أكثر منه محاولة تحليلية أو قراءة نقدية. في عجالة كهاته لن يملك القارئ  سوى انتهاز حالة أو ظاهرة في النصوص والإمساك بها لبناء علاقة مع النص، علاقة قارئ فقط.

السؤال على طول الديوان حالة: أين تخفيه/ وأين يتوارى ظلي/ حين يلقاك؟

هكذا تتساءل الشاعرة لتنغرس الأسطر الثلاثة الحاملة لهذا السؤال في الصفيحة المواجهة للوحة ترقد على بياض مقابل، وتبعث بظلها الزيتي اللون الذي تتوسطه سحابتان، إحداهما ظلا لأخرى والقطرات فيهما كذلك. تسأل الشاعرة في موقع آخر عن الهروب من عطر احتل المكان، وتسأل: ماذا لو كان/ قلب الليل/ حبيبي؟ وتسأله عن زمن وسط الظلام: كم يلزمني/ من مُعلّقة/ لأقهر / هذا الدمس؟ وتسأل عما بعد الاستسلام: ماذا / لواستسلمت / لموت بطيء/ بين دفاترك (…)، ماذا لو استسلمت لملاحقة/ ظل الفراغ/ بداخلي (…)، ماذا/ لو استسلمت/ لعجزي/ عن تأجيج/ نار حب/ تنطفئ بكفي. ثم عن رجل لا تعرفه تسأل: كيف تسلل لفراشي/ وكيف أتركه/ يقاسمني في العتمة/ أنفاسي؟ ثم تسأل الجسد إن كان يذكره، وماذا وراء أفق الانكسار، وعن ليل عيني ذاك الذي تناشده الكف من المشاكسة، وعن بهاء العراء، وتسأل: أما يشعلك البياض؟. وعن فراشة أتعبها الترحال تسأل: أو تدري / أنه بها/ يحترق نورا؟، وتسأل، وتسأل إلى أن يصبح السؤال مطلعا تستهل به تبويب “رشفات” قائلة: لماذا / كلما استهواني المدى/ يأسرني الجسد؟ . وتستهل “ماء القلب” ب: أهو الظمأ / يجعلني / أرى الماء / حيث السراب/… ثم تختمه قائلة:  أم هو الحب/ بخيل / بماء القلب؟

السؤال في “ورق عاشق” لا يلتبس بالحرقة مجانا ولا ينزل بثقله على المعنى ولا يضغط في اتجاه أحادية الرد أو الجواب المتوقعين، سؤال مفتوح على احتمالات وفي الوقت نفسه مأسور وسط محمول دلالي يستكين إلى المعنى الواحد وينفتح على التمثل والإيحاء.. السؤال عند فاتحة مرشيد يتجاوز الحرقة لينتصب حالة شعرية تعرف كيف تقفز على الجمود مرة وتستكين إليه في أخرى وتتحرك معه في ثالثة، قد يتعمق القارئ أكثر في السؤال عندها ليجد خلف المعنى الجاهز – أو الذي يبدو كذلك-  والقصد المباشر في الصيغ ليكتشف أخيرا أنه أمام حالات وأحاسيس ملفوفة في صيغ لا تحمل، قطعا، مدلولاتها ولا تملك من السؤال غير لغته وكلماته وحروفه، أما دواخل المعنى فهي غير ذلك.

إذا كانت مجموعة شعرية مبتداها ومنتهاها، مدخلها الرئيسي ومنتهى حالات انسياباتها، فديوان “ورق عاشق” يبتدئ بمدخل وينتهي إلى مدخل وكأننا أمام جزء أول من قصيدة طويلة، طويلة جدا، تستريح الشاعرة أو تتوقف عند صفحتها 168 وننتظر نحن متى تعاود تطويع قصيدتها من جديد وتستأنف صياغة منها من جديد، تبتدئ القصيدة الأولى في هذا الديوان ب: محارة النفس حبلى/ وبيني وبين الحبر/ بحر من مخاض. وفي آخر صفحة من الديوان تقف عند: يغفو البحر / مبللا بعرقي / وأنا أطفو / بين الحنين/ والحنين/.. وتنتهي الصفحات وما انتهت قصيدة فاتحة مرشيد.

جريدة “بيان اليوم” العدد 4253، الخميس 3 يونيو 2004

Leave A Comment

Recommended Posts