لسعد بن حسين
المقدمة:
لحظات لا غير هي الرواية الأولى[1] للأديبة فاتحة مرشيد التي عرفت منذ سنوات كشاعرة إذ صدر لها في مجال الشعر:
إساءات: 2002
ورق عاشق: 2003
تعال نمطر: 2006
وكثيرة هي الأسئلة التي تطرحها هذه الرواية سواء على مستوى الشكل أو المضمون ولكن ستسعى هذه الورقة النقدية إلى التركيز على مسألتين رئيسيتين هما: رواية لحظات لا غير كنص جامع Architexte، والكتابة كوصفة ضد الموت…
1- ملـخـص الــحـكـايــة:
أرى من الضروري إعطاء تلخيص موجز لأحداث هذه الرواية حتى أضع قراء هذه الدراسة في إطار مريح لفهم بعض جوانب اشتغالنا عليها.
أسماء الغريب دكتورة نفسانية تقع في حب مريضها المكتئب الشاعر وحيد الكامل، وتضطر إلى التخلي عن عملها من أجل هذا الحب الذي ينجح بالزواج لكن الشاعر المحبوب سرعان ما يفطن إلى إصابته بسرطان لا شفاء منه فيموت …
هذه تقريبا الفكرة الرئيسية للرواية، وهو ملخّص لا شك يحيلنا إلى عملين إبداعيين سابقين لهذه الرواية تتشابه أحداثهما مع أحداث « لحظات لا غير » هما الشريط السينمائي الفرنسي:
« الدكتورة فرانسوا زغايان Françoise Gailland »
تمثيل أني جيرار دو وإخراج بارتوشالي J.L. Bertocelli 1976
أما مرجع التناص الثاني فهو رواية « قصة حب » Love story الشهيرة لإريك سيغال.
ففي الشريط السينمائي تعشق الطبيبة النفسانية آني جيراردو ومريضها وتضطر لترك عملها في سبيل إنجاح حبها وفي « قصة حب » يعيش البطلان (أوليفر بارت+ جينيفر كافيلاري) قصة حب رومانسية سرعان ما يدمرها موت البطلة بمرض عضال…
ولا يجب أن يؤخذ كشفنا لهذا التناص من الباب السلبي ذلك أننا نسعى فقط إلى الكشف عن آليات الكتابة التي تمتح منها فاتحة مرشيد أونهلت منها لإنجاز نصها الإبداعي هذا.
ولعل الميزة الرئيسية لرواية لحظات لا غير، هي كشفها عن الخلفية الثقافية Background culturel للأديبة فاتحة مرشيد وهي خلفية ذات بعد فرنكوفوني ( خلفية كل الأدباء في المغرب العربي الكبير تقريبا) فنجد عند الروائية تأثرا بالأدب الفرنسي والفلسفة الفرنسية والفنون الفرنسية وليس من باب الصدفة أن تكون باريس إحدى المحطات « المكانية » الهامة في هذه الرواية …
2- رواية التعدد الأجناسي:
لا شك أن الرواية كجنس أدبي أثبتت قدرتها الإلتهامية للأجناس الأخرى بشكل يجعلها تنحو أكثر فأكثر نحو أن تكون نصا جامعا Architexte[2] ولعل رواية لحظات لا غير في جانبها « الشكلي » (البنائي) هي رواية لتعدد الأجناس بامتياز فإلى جانب الحكاية المولدة للرواية (وهي سرديّة) نجد عدّة أجناس أخرى أهمها:
2-1: الشـعـــر
صفحات كثيرة من الرواية يؤثثها الشعر، وهذا غير مستغرب حين نعلم أن «لحظات لا غير » هي الرواية الأولى لشاعرة معروفة سبق أن صدر لها قبل هذه الرواية خمسة دواوين شعرية، صحيح أنها في عملية مخاتلة تسعى أن تكون ساردة Extradiegétique (خارج حكائيّة) بأن جعلت بطل روايتها الرئيسي « وحيد الكامل » شاعرا وأجرت القسم الأكبر من القصائد في الزمن الروائي على لسانه، ولكن نعرف أن هذه الأبيات الشعرية هي من باب التضمين الذاتي Autoreférenciation أي أنها مقتطفات من قصائد للروائية الشاعرة.
الشعر في الرواية لا يتوقف عند هذا الحد، ذلك أننا نجد الكثير من الخوض في حياة بعض الشعراء (رامبو مثلا) كما نجد بعض الأبيات لشعراء آخرين من جنسيات مختلفة (عزّت سراييج شاعر من البوسنة، جاك بريل الشاعر والمطرب الشهير، روني شار، لويس غارسيا مونطيرو، نزار قباني، عبد المعطي حجازي، غارسيا لوركا، خوزيه أنخيل بالنطي …)
ثم إن الكثير من المقاطع أو الجمل السّردية في الرواية تتّسم بكثافة شعرية كبرى تجعل منها مقاطع من قصائد نثر منصهرة في السّرد.
وفيما يتعلق بالشعر في هذه الرواية فإنه إلى جانب ارتباطه بالوظائف النواتات[3] الكبرى Fonctions-noyaux في الرواية، أي أنه عنصر مساعد على تطوّر الحبكة الفنية للرواية ولأحداثها، قلت إلى جانب هذه الوظيفة فإن حضور الشعر بالرواية في عدة مواضيع منها هو حضور فني، أي يحضر الشعر كفن من الفنون (كالرسم والنحت والموسيقى) ليخلق موطنا من مواطن اللذة في النص.
2-2: الأقــــوال المـأثــورة:
نقصد بالأقوال المأثورة، الحكم والأمثال أو ببساطة جملا محدّدة لفلاسفة أومفكرين أو كتاب من مختلف أرجاء العالم والتي ضمّنتها الكاتبة لنصّها الروائي.
ولقد أحصينا في الرواية ثمانية وعشرين قولا مأثورا أغلبه منسوب إلى أصحابه (نيتشه، سيمون دي بوفوار، جاك بريل، أوسكار وايلد، فرويد، روني شار، عبد المعطي حجازي …) إلا ثلاثة منها فقط لم يذكر أصحابها، تكتفي الكاتبة بجملة: « نسيت صاحبه » أو مثل ما يرد في الصفحة 48: « وأنا استرجع مقولة فرنسية لكاتب لا أذكر إسمه » وهذه الأقوال ورد الكثير منها في اللغة الفرنسية مع ترجمة للمؤلفة، وهي أقوال تنتمي إلى أجناس تعبيرية مختلفة (من القصة والشعر الغنائي أو مقاطع أغان (مثال الاستشهادان الخاصان بجاك بريل والاستشهاد الخاص بـ: من غير ليه لمحمد عبد الوهاب …)
ولعل القيمة الرئيسية لهذه التصمينات أنها عبارة عن مؤشرات للتبئير حيث تكون سابقة للحدث، أما عندما تكون لاحقة للحدث فإنها تقوم بأغراض دلالية / بلاغية بالأساس ( التزيين ، الحجة، السخرية … إلخ…)
2-3: المـقـال الأدبي:
تفاجئنا فاتحة مرشيد في نصّها « لحظات لا غير » بإدراج مقالين أدبيين لها: الأول دون عنوان بالصفحة 60 = شكل من السيرة الذاتية أما الثاني فأعطته عنوان « بورتريه الشاعر » ويمتد على طوال الصفحات 64/ 65 / 66…
ولئن أخذ المقال الأول شكل « الخاطرة » التي تتولى فيها الكاتبة إعطاء أربعة أوصاف أولية للبطل ثم تصف أمنيات البطلة، وكأن المقال مؤشر لبداية إعجاب البطلة وتعلقها بالبطل، فإن المقال الثاني ينهض بمهمة تأكيد بداية حب البطلة أسماء الغريب للبطل الشاعر وحيد كامل…
2-4: الـقــصـة:
الطبيبة أسماء الغريب لها ميولات أدبية خلال دراستها الثانوية جعلتها دراسة الطب بالجامعة واحترافه بعد ذلك تبتعد عن هذه الميولات، لكن علاقتها بالشاعر وحيد الكامل تحفزها على العودة إلى الكتابة فتختار كتابة القصص، وتورد لنا بالصفحتين 131 / 132 إحدى قصصها، تقول في ص 131: جلست إلى الكمبيوتر محاولة إتمام قصة قصيرة جدا كنت قد بدأت في كتابتها تحت عنوان « وجهان ووسادة » ثم تطلعنا على هذه القصة.
إنها آلية أخرى من آليات التعدد الأجناسي التي تعمد لها الكاتبة قصد « حكاية » روايتها…
ولعل الطريف أن الكاتبة تعلّق على هذه القصة قائلة: « بدت لي هذه القصة كمشهد من شريط عشته خلال سنوات زواجي السابق، أعجبتني كما هي: صادقة تفتح باب التأويل على مصراعيه »
إنه إقرار بنوع من السيرة الذاتية يخترق رواية « لحظات لا غير » ولعل اختيار فن القص هو اختيار للإيجاز والصرامة.
لا بدّ كذلك من الإشارة إلى نص (الكاتبة هي من اختار له هذا الإسم) يمتد على طول الصفحة 125 وهو بمثابة النص القصصي، لكنّه يتميّز بانغلاقه في الخاتمة على مجموعة من الأسئلة، التي كانت تؤرق كاتبته.
2-5: الــرســـائـــل:
كثيرة هي الرسائل الإلكترونية التي يتبادلها بطلا رواية « لحظات لا غير »، ولا يمكن اعتبار هذه الرسائل من قبيل رسائل العشاق أو المحبّين إنها رسائل ثقافية تتعلق بالكتابة والفنون، والوظائف التي تنهض بها هذه الرسائل في الرواية عديدة لكن يمكن حصرها في ثلاث رئيسية:
أ/ البعد المكاني وعدم القدرة على الإلتقاء (أغلب هذه الرسائل مكتوبة في الفترة التي ينتقل فيها البطل الشاعر إلى باريس لتقديم ديوانه الجديد).
ب/ إضفاء جانب من الرومانسية على علاقة البطلين: إتفاقهما وتناغمهما في الآراء والأفكار.
ج/ عرض آراء لا يسمح بها السرد الروائي: في هذه الرسالة حديث عن الكتابة أو عن الميتالغوي، وهو حديث يصعب إجراؤه في إطار حوار أو سرد روائيين، بشكل تكون معه هذه الرسائل نوعا من « المحمل » support المنهجي (آلية منهجية) للتطرّق لهذه المواضيع …
وفي هذا القسم المتعلق بالتعدّد الأجناسي يمكن أن نضيف كذلك تلك المقاطع من الأغاني الفرنسية (أساسا لجاك بريل) أو العربية (من غير ليه لعبد الوهاب، وأغنية لنجاة الصغيرة) التي تضمّنها المؤلفة لروايتها.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار هو: لماذا عمدت المؤلفة إلى كل هذه الأنواع الأجناسية في روايتها؟…
ولعل احتمالات الأجوبة عن هذا السؤال يمكن تصنيفها إلى صنفين:
أ/ صـــنــــف أول: تكون فيه المؤلفة غير واعية بهذا التعدد الأجناسي فيكون حضوره من باب العفوية، كما يمكن أن يكون من باب « التجريب » (المعنى في حدود الكلمة القاموسي لا كمصطلح نقدي) باعتبار أن « لحظات لا غير » هي الرواية الأولى لصاحبتها فهي « روائية » مازالت لم تتأكد بعد من قدرة آلياتها السردية على « إيصال » الحكاية والتأثير في القارئ…
ب/ صــنـــف ثـــــان: تكون فيه الروائية قد اختارت عن وعي استعمال هذه الأنواع الأجناسية المختلفة في روايتها حتى تؤكد أن الرواية نص جامع من جهة، وحتى تتلاعب « بالذائقة النصّية » المختلفة عند القراء، ثم أخيرا حتى تثبت أنها قادرة على صهر كل هذه الأنواع الأجناسية في نص روائي متجانس يشدّ القارئ.
ومن رغب في مهاجمة المؤلفة (وهذا شيء غير غريب على ساحتنا النقدية العربية) فأمكنه أن يعتمد الصنف الأول من الإجابات، أما من رغب أن يجاملها أو أعجبه فعلا نصها فسيعتمد على الصنف الثاني من الأجوبة.
أما موضوعيا فلا يمكن حسب رأيي نقديا أن نختار أي صنف من الصنفين ما لم نجر بحثا مفصّلا عن آليات وشروط إنتاج النص من جهة أولى، أما من جهة ثانية فإن رأيا مماثلا لا يمكن الجزم به حتى تنتج الكاتبة روايات أخرى تجعل قدرة الحكم على خياراتها الفنية قاطعة.
3- عـناصر « التـوفـيـق » فـي الـروايـة:
« لحظات لا غير » لفاتحة مرشيد دون أن تدرك درجة عالية من الإمتياز استطاعت أن تكون رواية محترمة يستسيغ القارئ مطالعتها ولا يتركها إلا متى أتمّتها (جلبت معي بعض النسخ من المغرب وسألت قارئيها، كما وزّعت نسختي الشخصية إلى قراء آخرين أبدوا لي إعجابهم بها)، وأعتقد أن ثمة أسبابا « تقنية » لنجاحها، وما أقصده « بتقنية » أي آليات كتابتها التي عمدت إليها المؤلفة، وهذه الأسباب حسب رأيي هي:
أ/ حــســن اخـتــيـار الحـكـايــة:
وكدت أعنون هذا المقطع « حسن اختيار الملعب » ففاتحة مرشيد أتقنت اختيار ملعبها الذي رغبت مواجهة القارئ فيه، كيف ذلك؟ فاتحة مرشيد طبيبة أطفال (في الحياة) اختارت بطلتها طبيبة نفسانية (قد يكون ذلك طموحا شخصيا لها) وفاتحة مرشيد شاعرة فاختارت أن يكون بطلها شاعرا، لكن ما يشد في هذه الرواية هو أن الطبيبة تكتشف مرضها وهي تعالج مريضها فتتداوى بشعره، إلى جانب عدم إهمالها لمريضها بالطبع الذي يشفى ليصير حبيبها.
الكاتبة الشاعرة استعانت بكل المخزون الشعري والأدبي الذي تعرفه لتوظيفه توظيفا فنيا وجماليا في علاقة بالمرض، بالحب، بالحياة والموت بالشيخوخة مما منح الرواية شيئا من الإدهاش والفتنة المحببة.
ب/ اللـعـب عــلــى وتــر الــرومـانـسـيـة:
الكاتبة بنت عصرها وتعرف مصاعب الحياة المعاصرة لذلك عمدت إلى حكاية / حلم، تعود بنا إلى أزمنة الرومانسية، وذلك باعتمادها لحبكة ميلودرامية intrigue mélodrame، تتجلى في موت البطل بعد نجاح علاقته بالبطلة، إنها قصة ناجحة تنتهي بموت أحد طرفيها أهو صدى « قصة حب » لإريك سيغال ؟ أم هي تلك النزعة العذرية عندنا العرب في اقتران العشق بالموت؟
مهما تكن الأجوبة عن مثل هذه الأسئلة فإن الروائية فاتحة مرشيد استطاعت من خلال روايتها هذه أن تكسب ودّ الكثير من القراء ولعل عزفها على هذا الوتر الرّومنسي هو الذي ساهم في تحقيق ذلك …
ج/ خــيـــار الـــبـــســاطــة
لقد رغبت فاتحة مرشيد ان تحكي حكاية، بعيدا عن الفلسفة وبعيدا عن محاولات التجريب، كما ابتعدت أيضا على المنحى الرمزي (رغم وجود الكثير من الرموز في نصها، لكنها رموز في اغلبها تحيل على رؤية نقدية بشكل ما للواقع ولا لغايات إلغازية)، إنها رواية البساطة بامتياز بساطة الحكاية بساطة الحبكة، وخاصة بساطة اللغة والأسلوب، فجمل الرواية في اغلب الأحيان بسيطة، قصيرة لا مجال لكثرة التزويق والرنين البلاغيين فيها، كما لا مجال للإبهام أو الإنقطاع التلفظي فيها، وحتى الحوارات فيها رغم احتوائها على تعدّد لغوي (دارجة مغربية، عربية فصحى، فرنسية ) فلا أثر للتعقيد فيها وهي واضحة في بنية سطحها ولا توظيف رمزي لها…
خيار البساطة هو الذي جعل الكاتبة في اعتقادي تتعمّد بناء نصّها بشكل دائري (الصفحة الأولى من الرواية هي الصفحة الأخيرة) أي الرواية تنتهي حيثما بدأت، وهو خيار جاء ليبعد القارئ عن أجواء الحزن المسيطرة في الفصل القبل الأخير، حزن سببه موت البطل.
فاعلية بعض الجمل الشخصية:
ثمة في نص الرواية بعض الجمل « الخلاصات » التي توصّلت لها الكاتبة وأسميتها خلاصات باعتبار انها بمثابة خلاصات من الحياة والكتابة توصّلت إليها فاتحة مرشيد وصارت هذه الجمل ملكا لها، إنها جمل على درجة كبيرة من الحكمة والشعرية في نفس الوقت يكفي أن أذكر منها:
- تريّث قليلا أيها الموت … إنني أكتب.
أليست الكتابة جديرة بالاحترام حتى من قبل الموت …
- قصيرة هي لحظات الإكتمال، نتمنّاها أبدية ونخافها متى حلت … كعاشق الجبل يتسلّقه عمرا ولا يمضي في القمة يسوى لحظات.
- لكن حبّهما تحوّل إلى محبّة …
- الحب والموت هما المحرّكان الأساسيان لكل إبداع … وأنا عاشق يحتضر … إذن أنا سيد المبدعين.
- ثمة تجارب في الحياة لا يمكن أن نخرج منها سالمين …
اللعب على المفارقات:
تقوم الكثير من الأحداث في الرواية على المفارقات وتبادل الأدوار فالبطلان مثلا كانا يلتقيان « ساعة الغروب في مقهى الشروق »، وتبدأ الرواية بجلسة علاجية thérapeutique، يتحول فيها المريض إلى طبيب والطبيب إلى مريض، ثم إن البطل يشفى من الإكتئاب ليموت بالسرطان أما البطلة فتشفى من سرطان الثدي لتسقط « في خاتمة الرواية في حزن فقدان الحبيب » … أما المفارقة « الرومنسية » التي حاولت الكاتبة التركيز عليها فهي اعتبار « اللجنة الطبية » لمجلس التأديب الحب جريمة يعاقب بموجبها المعالج النفساني متى أحب مريضه وتركه يتعلق به.
3- الكتابة وصفة ضدّ الموت:
لعلّ التيمة الرئيسية التي ركزت عليها الكاتبة في هذه الرواية هي الصراع ضد الموت، فالنص الروائي مسبوق بعتبة هي بمثابة الفاتحة للرواية تقول : تريث قليلا أيها الموت … إنني أكتب … هي عتبة غريبة لأنها تجمع بين متضادين التفاؤل والتشاؤم، إذ أن الموت حقيقة لا مناص منها تسعى الكاتبة لمواجهتها بالكتابة … الكتابة إذن فعل إنساني للخلود أليست هذه الجملة ضربا من التنويع على جملة للشاعر البرتوغالي فرناندو بسوا حين يقول : الكتابة هي الدليل أن الحياة لا تكفي … ومثلما خلدت تماثيل مايكل أنجلو ورودان (ليس من باب الصدفة أن تخصص الكاتبة أكثر من صفحتين للحديث عن منحوتاته) ستخلد النصوص الأدبية شعرا كانت أم نثرا…
أليست الكتابة هي الملجأ الذي هرب إليه البطل وحيد الكامل حينما عاود والده التزوج بإمراة إخرى بعد وفات والدته : (هربت من اليومي إلى شرنقة الكتب والكتابة، وسكبت كل طاقتي وثورتي في الدراسة والتحصيل)[4].
إن هاجس الموت طغى على صفحات كثيرة في الرواية فالبطل جاء مريضا إلى الطبيبة النفسانية بعد أن حاول الإنتحار (شكل من أشكال الموت)، ليموت في خاتمة الرواية بالسرطان، ألم تنج البطلة من سرطان الثدي (تهديد حقيقي بالموت)؟ ألم تعرف البطلة الموت (في شكله الرمزي : موت العواطف والجسد) في زواجها الأول بالدكتور الجراح ؟
البطلان إذن قاربا الموت بشكل ما، لذلك تدفق الحب بينهما بشكل إستثنائي ضاربا بكل الأعراف والتقاليد ( البطل متزوج إضطر بعد هذا الحب لتطليق زوجته والبطلة دكتورة نفسانية إضطرت إلى التضحية بمهنتها في سبيل هذا الحب) وهنا حسب رأيي يكمن عنصر الإمتاع الجاذب في هذا النص الروائي، هذا التمرد على الموت وعلى الحيات أيضا، لذلك ليس من الغريب أن تتساءل البطلة وهي توافق على عملية تجميل لنهدها المبتور وهي مسألة سبق أن رفضتها: (ما الذي جعلني أغير رأيي؟ أهو عزمي على معانقة الحيات من جديد؟ أهو الحب الذي يصالحنا مع أجسادنا)[5].
إن الأقبال على الحياة والرغبة في مواجهة الموت هي التي منحت للرواية عنوانها (لحظات لا غير) إنها تلك اللحظات المسروقة في غفلة من سيف القدر الذي قد يضرب في أية لحظة سيف يصنع الموت والفناء لذلك يقول البطل لحبيبته: تمتعي باللحظة ياحبيبتي… لنا اللحظات لا غير[6].
وتتجلى قدرة الكتابة على مواجهة الموت في الفصل الأخير من الرواية ذلك أن البطلة بعد موت حبيبها وإنهيارها طيلة أربعين يوما سرعان ما تنهض لتمارس الحياة من جديد وأول ما تقوم به فعل الكتابة وهي تستمع إلى طيف الحبيب المتوفى يهمس لها : إكتبي كما للأموات … لتزدادي حياة[7]. فتولد هذه الرواية أو هذا ما رغبت الكاتبة إيهامنا به على الأقل وأرى إنها نجحت في ذلك بشكل مميز جدا.
ملتقى الرواية المغاربية بتونس- قابس
أيام 27- 28- 29 دسمبر 2007
[1] لحظات لا غير: فاتحة مرشيد، ط 1 المركز الثقافي العربي الدار البيضاء 2007.
[2] نتعامل مع مفهوم Architexte حسب ما استعمله جيرار جينيت اما ترجمته بالنص الجامع فإعتمادا على أبحاث الأستاذ الدكتور حمّادي صمود..
[3] الوظائف النواتات: راجع: بارط رولان: مقدمة للتحليل البنيوي للحكايات Communications8
[4] لحظات لا غير : ص.19.
[5] لحظات لا غير : ص.73.
[6] لحظات لا غير : ص.126.
[7] لحظات لا غير : ص.174.