خفّة السرد وجمالية الإحالة في رواية “التوأم”
كه يلان محمد
تدركُ الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد أهمية الدراية باللغة في صنعة العالم الروائي، ودورها في شدّ المُتلقّي لمُتابعة وحداته المُتَتالية، إذ إنَّ السرَ في ملاحقة شخصيات روايتها «التوأم» يكمنُ في خفة السرد القائمة على اللغة الشفيفة والمعبّرة عن الترقّب والقلق. وبذلك، يتسرّبُ التوترُ من جسد النصّ المقروء إلى وعي المُتابع ما يزيدُ من نسبة التوقع وإستنفار الحواس، لأنَّ تضايف الفنون الأخرى خصوصاً السينما ركن أساسي في بناء الرواية فضلاً عن الإحتفاء بالفنّ التشكيلي. وممّا يولدُ ذلك المُناخ الحافل بالألوان والإحالات إلى الأفلام والمُقتسبات السينمائية هو إهتمام الشخصيات الأساسية. فالراوي المعتمدُ على ضمير المتكلم «مراد» مخرجٌ يعملُ على إنجاز مشروع فيلم حولَ المهاجرين المُتقاعدين المغاربة الذين يعانون نتيجة ما يفرضُ عليهم القانون الفرنسي بالتواجد في فرنسا لمدة ستة أشهر في السنة. ولن يكون عنوان الفيلم الذي يتأرجح بين «ثمن الغياب» أو «سلسلة» سوى تسمية دالة على الإنشطار بين الضفتين، يتحمّلُ هؤلاء المُهاجرون المعروفون بـ»الشيبانيين» تبعاته. فمن الطبيعي أن تتواردَ على لسان الراوي مقولاتٍ منسوبة إلى المُخرجين العالميين أمثال فيليني وفرانسو تروفو وبولانسكي ووودي آلن. إضافة إلى ما يضمّهُ النصّ من الصيغ التعبيرية الخاصة بفن السينما وإيرادُ مختصر للسيناريوهات التي كتبها مُراد، ما يعني إمكانية إنضمام قصص فرعية داخل قصة الإطار. كما أنَّ الراوي يتكفّلُ بتنظيم الخطاب السردي وترتيب المادة الفيلمية في آن واحد.
حُب مكتوم
ثيمة الحبِ هي قوام هذا النص الروائي، فمنها تنطلقُ الأحداث وما يحكيه مراد عن مشاعره المكتومة لنور تأسيس لكيان النص. ويدعمُ الجانبَ الوجداني في بنية الرواية أيضاً إعتراف موريس بتجربته المؤلمة في الحب، إذ عَشِقَ بيترا البرتغالية لكن الأخيرة لم تُبادله المشاعر نفسها، ما دفع بموريس نحو دوّامة الهذيان والهوس، وإستغرقت معالجته وإعادة تأهليه ليفرّق بين الخيال والواقع سنواتٍ من المُتابعة، إلى أن يجدَ في إقتناء التحف الفنية تعويضاً للحب الذي كان سراباً أكثر من الحقيقة. وما يُخلصُ إليه العائد من لشبونة بعد إخفاقه العاطفي أنّ الولع بالأشياء أهون من الولع بالإنسان. وهذه الجملة يستعيدها مراد موضحاً إستحالة التخلّي عن حبّه للفنّانة نور أخت زوجته. من هنا تتّضحُ أبعادُ أزمته العاطفية المركّبة، فهو لا يمكنهُ الإعلان عن حبّه المُخالف للعرف والتقاليد من جانب، كما يُحمّلُ نفسه وزر ما تعانيه نور من سوء العلاقة مع الروائي كمال الخلفي من جانب آخر. لأنَّ معرفة المؤلف بنور تزامنت مع قيام مراد بتحويل لرواية (ليلة التحدى) إلى فيلم سينمائي وإختارت نور بطلةً ولاينتهي الأمرُ عند هذا الحد إنما يتنقلُ الوضع إلى مستوى أشدَّ توتراً عندما يفشلُ مرادُ في إعادة اللحمة بين الإثنين والإنفصال يكون نتيجة أخيرة. غير أنَّ ثمة خيطاً يشدُ الشخصيات الثلاث نحو إختبار صعب، وذلك يتمثلُ في إكتشاف نور بأنها حامل. ما يعني إنفتاح السردِ على إحتمالات عدة وإكتسابه لمزيد من الزخم.
أسرار
مع توالي الأحداث في فضاء الرواية يُضاف عامل جديد يحدو بالراوي للإهتمام أكثر بشخصية نور وإقناع الأخيرة بالإنصراف عن خيار الإجهاض، لأنَّ مرادَ يرى في السرّ الذي تحمله نورُ في أحشائها وهي حامل بالتوأم صورةً لحياته مع أخيه التوأم، وهذا الوضع يستدعي إفصاح مراد لسرّه، فهو قد ذاق مرارة خسارة شقيقه منير الذي يموتُ في حادث السير، كما حُرم قبل ذلك من حنان الأم بعد إنفصال والديه إذ يكتشفُ الرجل وجود علاقة مشبوهة بين زوجته وردة وأحد الشبان، وإتفق الإثنان على حضانة الطفلين بحيثُ يعيشُ مرادُ في كنف والده ويبقى منير لدى الأمِ.
يستمرُ الراوي في إدارة دفة السرد الفائض بالدرامية إلى أن يتمَّ فك عقدة الأسرار بالتوازي مع مرض نادية ورقودها في المستشفى. يشارُ إلى أنَّ الكاتبة تستفيد من فضاءات بيضاء للقفز على الزمن الرملي بعد الإبلاغ عن مرض نادية ومعرفتها لوالدي الطفلين، يكونُ المتلقي أمام مشهد جديد حيثُ يسمعُ كمال الخلفي من صديقه المخرج بأنَّ الطفلين من صلبه غير أنَّ كشف المستور لا يغيّر موقفه.
وتحتوي الرواية على خطاطة السيناريوهات ومشاريع الأفلام ومعلومات عن صناعة السينما، هذا إضافة إلى مقولاتٍ لصُنّاع الفن السابع والتواصل مع البرنامج التلفزيوني وإعترافات سارق لوحة رامبراندت التي لا تخلو من الطابع البوليسي. كما تستشفُ من تضمين مقولة كوكتو الذي يقولُ إنّ السينما كتابة حديثة، الحبر فيها هو الضوء إنحياز الراوي إلى السينما والصورة وهذا موقفٌ مبرّر كونه مخرجاً ومبدعاً تثقفَ بمفردات السينما. كما أنَّه يحاكي بطل فيلم «رسالة في قارورة» عندما يعبّرُ عن حبه العميق للوالدة ومنير ونادية في رسالة يسلمها للنهر. أكثر من ذلك فإنّ مقولة ألفريد هيتشكوك «الدراما هي الحياة بعد إزالة الأحداث المُمِلّة» تأتي متجاورة لعتبة العنوان، ما يؤكدُ تفاعل النصّ مع عالم السينما.عطفاً على كل ماسبقَ فإنّ صاحبة «حق الرحيل» تمكنت من تضفير ثيمات الحب والحنين وسايكلوجيا التوأم في لحمة نصّها. وما يجبُ الإشارة إليه أن ما يردُ على لسان مراد بأنَّ الرغبة هي قاعدة التقدم وليس العقل يعد نواة لما نشرته فاتحة مرشيد بعنوان «إنعتاق الرغبة».
جريدة الجمهورية البنانية
الجمعة 12 يوليوز 2019