:شعبان يوسف
لحظات لاغير رواية جديدة كتبتها شاعرة رقيقة ورومانسية، كتبتها بروح الشاعرة، ولكنها تنطوي علي جمالها تسرد روائية متقنة، ولم تغرق في عشوائيات لغوية، كما لوحظ علي كتابة بعض شعراء كتبوا روايات، وهكذا تنضم الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد الي من أغوتهم لعبة السرد، وانفتحوا من خلالها علي عوالم ومعان وطرق، ربما لم يستطيعوا اكتشافها في بحور الشعر وقوافيه، هكذا فعل سعدي يوسف في مثلث الدائرة ، وقبله كان جبرا ابراهيم جبرا في رواياته السفينة، والبحث عن وليد مسعود، والصراخ في أبار قديمة، ثم أحلام مستغانمي التي هجرت الشعر تماما ولم تعد اليه، وحسمت موقفها الإبداعي مع الرواية بشكل مطلق، وكتب الراحل ممدوح عدوان كذلك، واللبناني عباس بيضون، وأصبح اختلاط كتابة الشعر والرواية في مصر – الآن – ما يشبه المودة فتعددت هجرة الشعراء والشاعرات من الشعر الي الرواية تقليداً شبه ثابت، وقفزت الي ساحة الرواية أسماء شعرية كثيرة مثل سهير المصادفة، وياسر عبداللطيف، وشحاته العريان، وياسر شعبان، وصبحي موسي، وطاهر البربري، وهدي حسين، وعلاء خالد، وأساة الدناصوري.. هناك طابور كبير انتقل من ساحة الشعر الي غواية السرد، للدرجة التي أقلقت النقاد علي مستقبل الشعر ذاته، وتستحق هذه الظاهرة دراسة تحاول أن تجيب علي أسئلتها..
وماهي الشاعرة فاتحة مرشيد بعد دواوينها إيماءات و ورق عاشق ، و تعال نمطر و أي سواد تخفي يا قوس قزح ، تصدر روايتها لحظات عابرة، عن المركز الثقافي العربي، وتخوض غمار السرد الروائي متسلحة بعده لغوية وحكائية وفكرية دقيقة، بالاضافة الي روح تمردية متأصلة وليست دخيلة، روح تهدم أبنية أخلاقية قديمة، لحساب حلم طليعي مستنير، ورغم أن الغلاف قرر انها رواية رومانسية جميلة، تنسج حبكتها من وقائع الحياة، ومن جمال اللغة ومن غني الشعر ، الا ان الرواية تتجاوز حدود الرومانسية، الي شواطيء التمرد والثورة، وتغيير النواميس القائمة، بل والعفنة، والتي تؤبد دزينه من الافكار البالية، لتصنع أقفاصا للبشرية، هنا محاولة مزدوجة جماليا وفكريا للإغارة علي هذه الاقفاص، من أجل تحطيمها، والإلقاء بحطامها في متحف التاريخ، مع الآلة التجارية، والفأس البرونزية.. وتحويل هذه التقاليد والاعراف والقوانين الي مسخرة، رغم التشنج الذي ينتاب الهيئات الموقرة، أو بالاحري الهيئات التي تفتعل الوقار، ولا تسعي لحل المعضلات الانسانية والاجتماعية المتجددة دوما، بتجرد الحياة واستمرارها وتواصلها..
والرواية لا تهتف باسقاط القوانين، ولا تضع مانشيتات مثل الموجة الجديدة من الروايات التي تهدف انتشارا جماهيريا وشعبيا رخيصا، من خلال قضايا الإثارة مثل الجنس، أو الدين أو السياسة، ولكننا ندخل الي عالم الرواية من خلال شخصيتين رئيسيتين، طبيبة نفسية، هي أسماء، تعالج شخصا يعاني من متاعب وارتباكات نفسية، لأسباب تتعلق بالأم التي رحلت في حادث سير والاب الذي يتزوج امرأة تحل محلها بعد ذلك، ثم الزوجة التي لا يشعر تجاهها بعاطفة حنين، بالاضافة الي أن هذا الشخص يفصح عن شاعر رقيق، أصدر بعض دواوين، وعندما تصفه الكاتبة في مطلع الرواية تقول: أذكر يوم دخل عيادتي أول مرة.. كان كطفل لم يهيئ الامتحان.. اتخذا المشاكسة سلاحا ضد وقار المجلس سألته: هل أنت متزوج؟
قال بنبرة تهكمية: حسب الضرورة
– ماذا تعني الضرورة؟
– أكون متزوجا عندما تتطلب ضروريات الحياة الاجتماعية ذلك وأكون أعزب لضرورة الشعر، ويستمر الحوار في مستويات متعددة، وبطرق مختلفة، بين أسماء و وحيد الذي كان مقبلا علي الانتحار، وعلي وشك ارتكابه بين آونة وأخري، لولا انه ذهب الي الطبيبة أسماء، والتي هي أيضا تمارس الكتابة بعض الشيء، وكانت الكتابة مدخلا أخر ليجلس كل شخص في الاخر. والتجول في غابة الروح المتشابكة، كان وحيد ينشد بعض القصائد لأسماء، فتسكر لسماعها، وتجد في معانيها ملجأ لأسئلة غامضة وتائهة عندها، وبالتالي كانت أسماء ترسل له علي بريده الالكتروني بعض الكتابات القصصية، ليدلي برأيه النقدي فيما تكتب، كان يخشي أن يتورط في مجاملة لا تليق بشاعر يحترم نفسه، وكانت هي تفرط كثيرا في التواضع أمام قدراته وطاقاته الابداعية والنقدية والثقافية، رغم أنها كانت تدجج رسائلها ومكتوباتها جميعا بآراء لكتاب ومبدعين ومثقفين عتاة مثل خورخي لويس بورخيس الذي يقول في ثناياما تكتب: إننا نحس بالشعر كما نحس بقرب امرأة كما نحس بجبل أو خليج، اذا كنا نحس به دون وساطة، فلماذا نميعه بكلمات أخري. بكلمات لابد أن تكون أضعف من أحاسيسنا. أو تتجول في لوحات فنية لفنانين كبار، ونتأمل.. ونلقي بآراء خاصة بها، وكأنها آراء الكاتبة ذاتها مثل: رودان لا ينحت أجسادا بقدر ما ينحت انفعالات الكائن .. ينحت اليأس و التعب و العذاب و البكاء في أجساد نساء تكادتئن.. ويأتي الألم علي شكل رأس فاغرة فاهاً تكاد تسمع صراخها.. وهكذا نجد أن الكاتبة تستعين بأصوات الآخرين.. وأفكار عائلة الكتاب والمبدعين في العالم، كأن هذه الاصوات تصنع ألفة ما داخل مياه السرد، وكأنها تبحث عن أخوة في القضية التي تترافع فيها.
حدث المحظور والممنوع، بل وقع الحدث الذي تجرمه الهيئات العلمية!! المنضبطة والتي لا تعرف الا القوانين الازلية، والتي تمتثل للعقل المجرد والرياضي، ولا تأبه بشئون القلب، ولذلك انعقدت هيئة المحكمة الموقرة، والمكونة من بضعة أساتذة، واتفقوا علي توجيه اتهام خطير من وجهة نظرهم للطبيبة أسماء، هذا الاتهام الموجه من السيدة سوزان زوجة الاستاذ وحيد الكامل، والشاعر الذي هام بأسماء، وهامت به، ولكن الزوجة لا تفهم هذه الامور، ولا تستوعب ما حدث وأصرت علي الانتقام، حتي ولو قررت هي وزوجها الانفصال، بعد عدم قدرتها لتوفير أي سعادة له، وأرادت تحطيم الدكتورة أسماء بتقديم شكوي ضدها، للهيئة الموقرة، والتي انعقدت فعلا، وأجرت تحقيقا مع الطبيبة، وآثرت أسماء ان تستقيل من وظيفتها، بدلا من الكذب والاستجداء، وطلب الرحمة والمغفرة عن سلوك تراه طبيعيا، وليس ذنبها أن المجتمع لا يطور أفكاره، تجاه تطور العلاقات الانسانية وترفض أن تجيب علي رئيس اللجنة عندما يوجه لها أسئلة محرجة أو مهينة، ولكن يدور حوار بينهما وبين سعادة الرئيس ادارته الكاتبة بذكاء فني جيد، وعندما بدينها لانها عقدت علاقة غرامية مع وحيد بصفته مريضاً، وبصفتها الطبيبة المعالجة، وهنا – من وجهة نظرهم – تكمن نقطة ضعف عند المريض لا يجوز استخدامها، فترد عليهم بقوة قائلة: أنا انسانة قبل أن أكون طبيبة.. وإن كنت غير قادرة علي حب الآخرين بمن فيهم مرضاي، فأنا غير صالحة لأن أكون طبيبة، ومع ذلك فقد حاولت جادة أن أكبح هذه العاطفة بداخلي وأنهيت الحصص بكل مهنية دون أن أجعله يعلم شيئا عن عواطفي.. ويتعمد الرئيس الإمعان في الإهانة، عندما يسأل: هل هذا يعني أنه قد سبق لك أن أحببت أحد مرضاك من قبل؟ فترد عليه بعنف: أجل.. أحببت كل مرضاي نساء ورجالا وأطفالا.. أما اذا كان قصدك من السؤال: هل مارست الحب معهم جميعا؟ فأنا أرفض أن أجيب علي سؤال فيه إهانة لمهنة شريفة دخلتها عن اقتناع، وإهانة لكم بصفتكم حراسا لأخلاقيات تسقط الحب من قاموسها.. وبعد حوار عنيف، تصرخ: لا.. لن أدعكم، باسم أخلاق تفتقدون اليها، تصدرون حكما بالاعدام يبدو مقررا لديكم، لتغسلوا به كل ذنوبكم.. وتقدم استقالتها، تاركة الوظيفة، ثم يتقدم وحيد للزواج منها، وفعلا يعقدان الزواج، ثم يمرض.. وتباشر الطبيبة مهمتها من أجل مريض واحد هو حبيبها وزوجها، ولكنه يموت.. ويرحل، ولكنه لا يغني.. فتعاملت معه كحي.. لم أدر من أين أتيت بكل هذا الصمود في لحظات تدعو الي الانهيار، قبلته، أزلت عنه كل الخيوط التي تربطه بأجهزة الحياة، حلقت ذقنه، ونظفته كمولود صغير.
رواية فاتحة مرشيد. تعيد أمثلة تقليدية للوجود مرة أخري، وتحاول أن تضع إجابات شائكة في مجتمعات مازالت كل الأسئلة شبه محرمة، فما بالنا بالإجابات الشجاعة، والجريئة، هذه الإجابات التي تليق بكاتبة ومبدعة وشاعرة وطبيبة أيضا مثل فاتحة مرشيد.
جريدة “الراية القطرية” 17 مارس 2007
جريدة “العلم” الملحق الثقافي 5 أبريل 2007 العدد 20696