خالد الحسيني
عرفت الحركة الشعرية المغربية المعاصرة، دفعة نوعية وكمية، دفعة تأسست على الفرادة والاختلاف والمغايرة، تدعوا تدعو إلى التجاوز والتخطي، تصر على التفتح والانفتاح، تنحو نحو رؤيا شعرية متجددة من أجل الكشف عن عالم بحاجة إلى الكشف، تريد للشعر أن يحيى زمنه بلغة مغايرة ورؤية مغايرة، وحساسية مغايرة، تقود ثورة التحول باسم الشعر، وباسم التغيير من أجل مستقبل خصب و مضيء، ترفض الحاضر المؤلم المثقل بالقمع المزدوج للعلم والدين، النابذ للحلم والرغبة و الخيال.
إن السؤال الشعري جدي وخطير، سؤال في زمن لم نعد نعبأ فيه بالشعري ولا بالوجودي، رغم أن الشعر هو الأساس الأول الذي نرى فيه وعبره واستنادا إليه الوجود وعلاقتنا به، خصوصا أن العلوم حينما تعجز عن الاستفسار، وعن طرح أسئلة حول الذات الإنسانية ينطق الشعر بقوة.
وفاتحة مرشيد كسواها من الشعراء مسكونة بهم الإبداع الشعري الذي يغير العلاقات بين الأمكنة و الأزمنة من أجل حضور يضئ كل ما حولنا في هذا العالم، عالم اليبوسة والتحجر بحثا عن عالم متجدد ومتغير، ويضل الشعر هو الوحيد القادر على بدء مسيرة التغيير و التحول، فالكلمة كانت ولا زالت السلاح الأقوى والأجدى في تغيير صيرورة التاريخ، لذلك نرى الشاعر يرفع راية الشعر طريقا إلى التجاوز و التخطي لأن الشعر عبور: وخرق لما هو سائد، لكل تنميط و نمذجة، فالشعر مغامرة في المجهول، يتحرك في عالم لا سيطرة فيه للمقدس لأنه مخاطرة بكل ما للكلمة من معنى، ولأن الشعر يكتب الخطر و المحذور، والمنسي و الهامشي، فهو يعلن حربا ضروسا على المألوف والعادي، لأن أفق الشعر خارج المعايير والأنساق، يتهم المباشرة و التقريرية و يطعن في البداهات و المسلمات لأنه فكر لا
يستند إلى حقائق أولى وإنما يقوم بالرغم منها، فالشعر تخطي للمعنى المباشر والكلمة في الشعر تخر بأكثر مما تعد به، وتشير إلى أكثر مما تقول، ينتفي فيه الشعر التجانس و التناغم كل ما هناك هو التصدع والاختلاف، كما ينزع دوما و أبدا إلى التكثيف والإيحاء، حتى يضمن وجوده واستمراريته، لأن الشعر يستجيب لصمت الليل، للسر، فتجربة شاعرتنا مثقلة بالقلق و الرفض و الشك و الغربة، و هي تجربة يصعب امتلاك ناصيتها، تجربة تضيء مسافة المجهول، لكي يظل مجهولا، ترفض البديهي و الظاهر، لأنهما ببساطة جميعها حجاب وتستر، لهذا نجدها تعتمد على لغة تميل أكثر إلى المجاز و الرمز، وتؤسس بناءها على السؤال لا الجواب، على الخرق و الإنزياح بدل التقريرية و التبسيطية، إن المسلك الذي اختطته شاعرتنا ينحو نحو الأساس عبر اقتحام المجاهيل، و المناطق المكهربة، لأن طريق الشعر أولا و قبل كل شيء تيه و أول الشعر منفى كما يقول أدونيس، فلغة شاعرتنا لغة تتوق إلى التحرر من إسار الماضي و الحاضر ومحاولة منحها القدرة على العبور نحو مستقبلها و الانتماء إلى هذا
المستقبل بجدارة، لأنها تحاول خلق شعرية جديدة خاصة بها، تفلت من إلزامات المشترك العام ومن المنطق و العقل، لأن اللغة رموز و إشارات، اللغة جوهريا هنا مجازية .
يتخلل الديوان صمت رهيب، لكنه صمت الإصغاء، الصمت الذي ينشأ من أجل إنصات جيد للعالم و للذات وللآخرين، فالشاعرة متعطشة للصمت، ذلك لأنها ببساطة شاعرة تنصت للصمت وتكتبه و قد أثنت حياتها وجسدها من أجل ذلك، فالشاعرة تنصت كثيرا حتى تحسن الكلام و القول، إذ لا يستقيم الكلام بدون إنصات، فقد قال هيدغر يمكن أن نتعلم من الشعراء حسن الإنصات والإصغاء عوض الثرثرة، الإصغاق إلى أفق الوجود لكي تحوله الشاعرة إلى الكلمة الشعرية التي تثبت الطاقة الشعرية للغة و للإنسان، فإن حسن الإنصات يتمكن من تبين الأشياء ومن ترك مقال اللغة يتكلم في الزمان ويتأرخ، تقول شاعرتنا :
أجلس خلف مكتب
أنصت للآلام الاخرين
لا أحد ينصت للآلامي (ص62)
يشي هذا العمل المفتوح “إيماءات: بكتابة لا تخمد ولا تخبو دائمة الهيجان والنفور، كتابة تتكلم بالجرح و النزيف لأنها وليدة وعي شقي، كتابة شقية لا من شدة استنكارها ونفيها، بل لقدرتها على الإثبات، إثبات الواقع بما فيه من نعوت متناقضة، على حد تعبير نيتشه، إن هذا النوع من الكتابة المكلومة المتوترة لا ترتاح إلى ما هو كائن، وإنما تصعد به نحو ما ينبغي أن يكون، إنها كتابة رفض واستنكار، احتراق واكتواء، لهيب يشتعل ويشعل، تستنفر قراءة لا نهائية، لأنها تعتمد على توليد الاستعارات وفيض في المعاني، إن هذه الاستعارة تجعل القراءة لا تنفصل عن الكتابة، فالكتابة بهذا المعنى تقدم نفسها مقروءة و مؤولة، وبالنسبة لهذه الميزة التي تتمز بها هذه الكتابة الشعرية تستدعي قراءة عاشقة تتخلله كتابة بلورية، متشظية، أو بالأحرى ديوان يتوغل في مستقبله، في كثافته وانشراحه، بمعنى أنه يراهن على الافتراضية لا اليقينية، لأنه عادة ما يفشل في إثبات ما يؤكده، إن مثل هذا النوع من الكتابة تتغيا قراءة لا تهدف إلى معرفة المعنى، وإنما تهدف إلى الدخول في العالم التساؤلي و الاستفهامي الذي يؤسسسه الديوان، هذا الديوان الموغل في جرحه ونزيفه حتى العظم حيث تقول:
لا توقد الجرح
لا تُدمه
دعهُ للأيام
فمرة تُميته
ومرات تُحييه (ص40)
إن هذه الكتابة تراهن على الذات بشكل لافت للانتباه، بعيدا عن إرغامات و إكراهات الإيديولوجي، بعيدا كذلك على إيستمولوجيا المباشرة، وعلى أنطولوجيا المطابقة. إنها كتابة متموجة منفرطة تقيم على الترحل صوب اللاّ نهائي واللاّ مكتمل، كتابة بسيطة تنتمي إلى صنف السهل الممتنع، لأن الشاعرة بسيطة وينبغي أن تكون و أن تظل بسيطة، لكن ليست البساطة التي تؤدي إلى الإسفاف والاستخفاف، بل البساطة المتمنعة، البساطة الخادعة والمخاتلة، تقول ولا تقول، تبوح ولا تبوح، لأن الشعر سفر نحو المجهول، دائب الترحل و
العبور نحو الغياهب والسراديب، شغوفا بالفتنة والارتياب و الدهشة، لأن الارتياب آلية شعرية بامتياز حيت تقول:
على إيقاع الغياب
أريكة شاغرة
تئنُّ.. ذات برد
من اشتعال الشك
ويرنُّ هاتف الارتياب
يرعشُ سمعٌ
يجهشُ دمعٌ
يعتذرُ.. قوس السحاب (ص58)
إن هذه التجربة تطرح أسئلة متعاظمة، أسئلة محرقة، أسئلة مقلقة، لأن السؤال قلق، لحظة توتر في آن، لأنه ينطوي على فراغات وثقوب، ينبذ كل خطاب يراهن على الوثوقية والمطلق، فالسؤال سفر نحو المجهول، زمانه زمان مفتوح، لهذا فهو خطاب المستقبل بامتياز، يرمي إلى اجتراح كل أشكال المطابقة والاطمئنان، فالشعر ينحو منحى المغايرة والاختلاف، يخرق مبدأ الاخبار والتقرير، كما يخرق مبدأ الصواب والخطأ، فالشعر يحتمي بالسؤال، وهو سؤال المستقبل، مشروع استراتيجي تتبدى فيه المفارقات بدل المطابقات، بمعنى أن الشعر يخلخل النتائج الجاهزة والمطلقة، ويخفف من ثقل الحقائق واليقينيات، والثكتيف من السؤال لأنه زمان المستقبل بامتياز، فشاعرتنا ترفض كل واقع بالغ الجمود، تطرح أسئلة مقلقة، تعبر الانسان، تشكله، لأن السؤال لا يستدعي إلا السؤال، ويسافر هكذا مثل الريح التي تجعل من العالم عالما يتفتح إزاء كل تساؤل تقرأ:
على إيقاع
تراجع الانبهار
يزحف السؤال
على المواقع الملغومة (ص70)
إذا كانت الكتابة هي فن إتقان الكتابة كما يقول همنغواي، فإن هذا الصنف من الكتابة يستدعي قراءة مرحة، تحاول الاقتراب منها، الحوار معها، لمسها بكل اختصار، حتى تصبح القراءة هي الأخرى فن إتقان القراءة بكل بساطة.
جريدة “الأخبار المغربية”، أخبار الثقافة، العدد 36، من 11 إلى 17 يونيو 2004