:عبد الدّائم السلاّمي
الظاهرهي قصيدة تُخْفي كلَّ شيءٍ في الوقتِ الذي تبوحُ بكلِّ أشيائها، قصيدة موغلةٌ في الترميز إلى حدِّ التشبُّع الذي يتحول فيه كلّ دالٍّ فيها إلى بؤرةِ معانٍ، و إذ تتكثَّف محامِلُها الدّلالية فإنّ بنيتَها الشكليّة تتقلَّص تقلُّصاً من حيث عدد الأسطر الشعريّة و من حيث عدد الألفاظ فيها، و بذلك تصير القصيدة مركز امتلاء الذات، بل مركز فراغ الورقة، بل مركز خُواءِ العالم من كائناته و من كينوناته، فينفجر معناها، لشدّة اضغاطه فيها، في وجه المطلق من التأويل، مهشِّماً كلّ أسوار فعل القراءة بضغطاته المألوفة، و ينفتح على الأشياء و ضديداتها مما يربك ذائقة القارئ فترتبك معها عاداته في فكّ شيفرات المكتوب، و تمتزج فيه حواسُّه كلها فيسمع في القصيدة ما لا يرى فيها و يرى فيها ما لا يملس و يملس منها ما لا يشمّ، وينوجِدُ في دائرة تتجادبه فيها شعاعات القصيدة فيرحل مع كل شعاعٍ إلى معناه البعيد، و من ثمة يكون التيه، تيه القارئ في المعنى و تيه المعنى في الكلمات و تيه الأشياء في الفراغ، و يعم الغموض و يلف القصيدة كاتبها و قارئها. و من الشعراء المغاربة الذين اعتمدوا هذه البنية القصيدية الجديد نذكر الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد و الشاعر منصف المزغني، فنحن نقرأ للأولى قولها في كتابها “ورق عاشق” (1)(المتدارك):
“تنزف
الروح
منّي
لا أثر
لدمائي
على القلم” (ص139)
فالظاهر أن فاتحة مرشيد توزع روح معانيها رشفاتٍ، إذ هي تعتمد على طاقة الألفاظ الإيحائية لتقول كل شيء باستعمال عدد من قليل الألفاظ، قكل قصيدة عندها هي رشفة معنى يتذوقها القارئ فتذوب و تتلاشى في فمه ولا يبقئ منها غير اشتهاء المزيد منها :حلاوة أو نكهة، ما يجبره على إعادة تذوقها (قزاءتها) مرات و مرات حالماً بعثوره على موطن الانتشاء قيها أو حتى دليل عليه يقوده إلى منبع المعنى لكنه يتلاشى في تفاصيله و لا ينتشي ( لا أثر لدمائي على القلم)، إن ومضات فاتحة مرشيد الشعرية لا تعدو أن تكون جرعات مكتملة الوحدة اللغوية توهم قارئها بتمام وحدتها المعنوية، إلاّ أنها تبقى منفتحة عنده على التأويل، لا بل هي كالأسطورة كلما استمعت إلى بعضها إلاّ وزادك ذلك رغبة في مزيد الاستماع، فإذا بالقصيدة تأخذ من القارئ أكثر مما تعطيه، و إذا أعطته من أسرارها شغلته بها عن نفسه و زادت من جوعه على حد ما نقرأ لها بالصفحة 148 من نفس الكتاب (متدارك):
“تطعمه
كرز الثغر
يضطرم جوعه”
و قد بدا لنا أمر بناء قصيدة الومضة عند فاتحة مرشيد وما يتغيا من قارئه شبيها بما نجد في ومضات المنصف المزغني، إلاّ أن المزغني قد ذهب بعيدا هذه التقنية الشعرية فإذا قرأنا له مثلاً (متدارك):
قشِّري ضحكتي
تجدي دمعتي(2)
أو قوله في قصيدة “الممكن” (متدارك):
يستحيل
حبنا المستحيل (3)
يتضح لنا منزع التجديد الشكلي الذي إليه الشاعر في بناء قصيدته، إذ اقتصر فيهما على سطرين شعريين جاء كل منهما في جملة ذات نواة إسنادية واحدة (فعل+فاعل+مفعول به مركبا إضافياً) دون وجود فضلة من الكلام، فكأن القصيدة اكتفت في هندستها التركيبة بمحلي الفاعلية و المفعولية في إشارة إلى تعويلها على أقل قدر ممكن من الألفاظ لتفسح المجال لأكبر قدر من التأويل، فالأمر في “قشري” مُنصَب على مركب إضافي (ضحكتي) متكون من ضحكة و ذات شاعرة، و طاب فعل التقشير يوحي بأن شكل الأشياء المألوف غير حقيقتها، ذلك أن الضحكة هي في الأصل دمعة، و من ثمة يجوز لنا القول إن المزغني يدعو قارئه إلى تجاوز المظهر الخارجي للقصيدة بما هي كون من الأشياء و الرموز و الغوص في أعماقها حيث إمكان وجود الحقيقة و حيث مرارتها الدائمة.
التشكيل الممتد
نعني بالتشكيل الممتد مسار حركة الذات و هي تنكتب على الورقة، مسار يحتشد فيه الإيقاع و الكلمات و تتابع السطور وتداخل القوافي و اطراد السياق الشعري، بما يخلق، في ذلك الحيز الممتد من النص، تشكيلاً بصريا يسعى إلى تغطية مساحة الفراغ. و هذا التشكيل الممتد المتنوع الذي يجري على سجية النفس و يتحرك مع حركة الذات و تحولاتها الشعورية، هو الذي “ينفي عن الشاعر الجديد التصنع أو الالتزام بالمعيار القبلي للقصيدة، كما بلغي عنه تهمة الشكلية، و الميل إلى الكتابة الفسيفسائية، وتصيّد الأشكال البصرية لكس يستميل بها عين القارئ لا وجدانه”(4).
و في هذا الشأن يرى الدكتور علوي الهاشمي أنّ “للتشكيل الممتد، في إطار تشكيل النص الكلي، وظائف دلالية و نفسية وإيقاعية تتجاوز حاسة البصر التي يرتبط بها التشكيل فيزيائيا، فهو أولاً يكسر رتابة التشكيل المتموج في قصيدة التفعيلة، و يؤشر ثانيا على مواضع احتشاد الذات وانطلاق حركتها الداخلية، مما يجعل لعبة السواد و البياض أكثر غنى و إمتاعاً و دلالة”(5).
و بالعودة إلى مدونتنا الشعرية المغاربية، نجد قصائد حافظ محفوظ في أغلب دواوينه الشعرية تتزيا بالشكل الممتد الذي ذكرنا، فالأسطر الشعرية فيها تكاد تكون متساوية التفعيلات كثيرتها، بل تكاد تتساوى من حيث المقاطع الصوتية فيها، و قلما نجد له سطراً شعرياًّ مكتفيا بلفظة أو لفظتين، ذالك أنّ الشاعر يجعل من سطره الشعري حمّالَ أكثر من صورةٍ، فهو إذ يطول تتوالد فيه المعاني كثيفة، فحين نقرأ له كتابه
“الأبدية في لحظة” وهو الكتاب الثالث من ثلاثيته الشعرية عزلة الملاك :”الخزّاف” و “تعريفات الكائن” و “الأبدية في لحظة” نجده يقول في قصيدة بعنوان “لندفع بالموسيقى جانباً” (خبب):
…وكما لو أنّي أردي الوقتَ جريحاً،
و كما لو أني أتنفس داخل كهفي أزمانا تعبر،
و كما لو أني أصعد رابية مأخوذا بهلاكي،
أرمي الشمس بأغنية صدئت،
و الأضواء بأصوات حروف مظلمة،
و الأنهار بأجنحة ملاكي،
و أقوم أحرك أجساد رفاقي،
أتحسس في العتمة أوصافي
لست أنا من نام هنا أمس
و لست هنا في رمسي!
و دليلي حنجرتي، هذه الهمهمة، صرير ثيابي،
هسهسة ضلوعي ، هذا الرمل المتكلس في كفي
أنا لست هنا لأجرب حدسي! (6)
و الذي نتبينه من خلال هذا المقطع الشعري أن الشاعر يجعل من رسم قصيدته يعاضد ما يسعى متنها إلى قوله، ذلك أن أغلب الأسطر الشعرية تضمنت كمًا من التفعيلات هائلا احتوتها جملة نحوية تامة المعنى كثيفة الدلالة بفضل ما فيها من متممات ( المفاعيل و أشباه المفاعيل)، بل إن الشاعر عمد إلى ختم كل سطر شعري بفاصلة محيلة على عدم اكتمال المعنى بل قد يحيل على عدم اكتمال الجملة ذاتها، فكأنه يُحفز، باستعمال هذه الفاصلة، ذائقة القارئ لانتظار مزيد من القول و من ثمة مزيد من اللغة بمحاملها الدلالية و هو ما جعل انتهاء الأسطر الشعرية في قصيدته لا يعلن عن انتهاء معناها، بل إن المظهر التعبيري يكشف على الصعيد البصري عن فعل داخلي يتجه نحو التعبير عن حركة ممتدة تتصف ببعض الانسجام و التناغم ضمن اتجاه حركي ممتد على صعيد الشكل يشي بانعدام الفراغ البصري، و يصور وقع الخطوات المقتربة تصويرا حركيا متدرجا في نموه الزماني و المكاني، بما يوحي بحركة الخطوات المتساوقة صوتا و صورة و يعبر عنها.
التشكيل المخضرم
إن صفة “المخضرم” التي أطلقناها على هذا النوع من التشكيل تعني أنّ الشاعر يمزج في القصيدة بين تشكيلاتها الجديدة و التشكيل العمودي القديم، و هو مؤشر على هكذا عودة إلى بنية القصيدة القديمة راحت معلناتها تظهر في المشهد الشعري التونسي، فكأن كتاب هذا النوع من الشعر قد “استهلكوا” جميع التشكيلات الممكنة للقصيدة (التشكيل النثري، التشكيل المتموّج، التشكيل الممتدّ، قصيدة الومضة) فعادوا إلى إهاب القديم يلبسونه قصائدهم، بما جعل منها قصائد جديدة في لبوس قديم. و ربما يجوز لنا القول في هذا الشأن إن القصيدة الحديثة بقدر ما نوعت من أشكال ظهورها بقدر ما ابتعدت عن متلقيها الذي ما يزال يحن إلى القصائد القديمة لأسباب اجتماعية و سياسية و ثقافية تلّمُ به فتنفره من كل جديد مؤلم، بل يجوز لنا القول إن الشاعر الحديث لم يعد يملك، بعد أن تحللت لديه البنية القديمة تحللا نهائيا و امًحت آثارها و ملامحها الإطارية و التكوينية خاصة أمام تطور “قصيدة النثر”، إلا أن يواجه الفراغ من جديد، في محاولة مستميتة لتشكيل حالة فزعه منه أملا في الوصول إلى “بنية وسطية”، تجمع بين البنى الجديدة و البنية المألوفة التقليدية، ضاربا عما تزعمه الحداثة الشعرية من إصرار على الانفلات من التشكيل العمودي، و الإمعان بدلا من ذلك في طرق عوالم المغامرة و التجريب، لا على صعيد قتل الفراغ فحسب بل على صعيد تشكيل أبجدية اللغة و رموزها الجديدة. و نحن واجدون هذا النمط من التشكيل في مجموعة الشاعر جمال الصليعي الموسومة بـ”وادي النمل” و هي قصيدة مطولة يقول في مستهلها (رمل):
أ، ب… أو هكذا قيل
تلك بدايات الأشياء
لم تأخذ بعد، نجوم الكون موقعها
[…]
قال الناجون على خشب الهجرات بُعيْد الماء الأول
هذا، واد ذو زرع
تعمره الحكمة، و الملكات
سنمد الوشم على كتفيه
و نؤسس ثانية، نشأتها الأخرى
(فابتسم القمر الشاهد … أن … سنرى)
[…]
قلتُ…
علمْنَا، على أبوابها…
منطق الشوق فقالت، غنِّني
قلت يا ليلاي، هذا هدهد
…… ربّما …قالت بسرّي غنِّني
ما عسى يدرك من أشواقنا
غير أوهام … فهيًا … غنِّني
[…]
لم تكن ليلى على علم بنا
أو للاقتنا بباب اليمن
فبها من شوقنا أضعافه
و بنا ممًا بها ما لا يني (7)
و لعل هذا التشكيل يعني أن المضمون الشعري يعيش أعلى درجات توتره الداخلي المتمثلة في البحث المحموم عن الشكل التعبيري المناسب لانفعالات الذات الراهنة، كما قد يعني أن حركة هذه الذات الداخلية الفردية تعاني حالة من التأزم و الحيرة و الحصار و الصمت المطبق على صعيد التعبير الخارجي و التشكل الإطاري بالنظر إلى الفجوة الرهيبة القائمة بين وظائفها التكوينية الجديدة داخليا، و الأبنية اللغوية و الإيقاعية و الاجتماعية العاجزة عن استيعابها خارجيا و هنا يحدث الاتصال بين الشكل الجديد للقصيدة و شكلها القديم، اتصال يتجلى بشيء من الحذر و الريبة يعلن عنه تدرج الشاعر.
في الانتقال من الشكل القصيدة إلى شكلها القديم في نوع من البحث الداخلي المتوتر عن بنية الاستقرار، إذ بدأ قصيدته بشكل متموج (المقطع الأول) ثم راح يمزجه بشيء من الشكل العمودي (المقطع الثاني) ليلخص في الأخير إلى الشكل العمودي و يستقر عليه طوال القصيدة، مما يجعل القارئ يمطئن إلى استقرار بنية القصيدة و متانة علاقتها بالشكل القديم، بيد أن هدوء هذه العلاقة سرعان ما تخترقه حركة التجريب و البحث عن شكل آخر، و هو ما يتجلى في نهاية القصيدة، حيث نجد الشاعر يعود إلى التشكيل المتموج الذي انفتحت به قصيدته:
أحد الآلاف الفارين
تقدم بين الشيخ و شهوته
ليس الوتد الآخر
هذا الوتد…. الأمثل. (8)
و هو عود ذو دلالة، إذ تعبِّر فيه ازدواجية تشكيل القصيدة عن حالة التذبذب و عدم الاستقرار التي راحت تحكم شبكة علاقات عناصر الواقع الاجتماعية و الإيديولوجية و الثقافية الراهنة التي توزع فيها الناس إلى أصناف ثلاثة منهم المطمئن إلى الماضي يمتح منه رواءه و يكسو به خواءه، و منهم الراغب في الحاضر يتكيف مع تلون حركته و تسارعها تكيفا تحكمه أشراط متنوعة، و منهم القلق المتذبذب بين العوْدِ إلى إشراقةِ الماضي و الرغبة في منجزات الحاضر في نفس الوقت.
و لعلنا نجد تلميحا إلى ما ذهبنا إليه في المقاطع المذكورة من قصيدة جمال الصليعي، إذ يعلن الشاعر عن حالة عدم الاستقرار في بنية قصيدته بقوله “لم تأخذ بعد، نجوم الكون مواقعها”، و هو ما يدفعه إلى التجريب بحثا عن شكل مناسب لحالته الانفعالية، فالحاضر الذي يعلن عنه الدال “هذا” موح بالوفرة سواء من حيث الشكل أو الإيقاع أو الدلالة، فهو “واد ذو زرع تعمره الحكمة” يحبب إلى الشاعر فعل التجريب و الخلق الشكلي الجديد ” سنمد الوشم على كتفيه و نؤسس ثانية، نشأتنا الأخرى”، و ما الوشم إلا رقش جديد في جسد القصيدة نحا إليه الشاعر حتى يخلد تجربته الكتابية.
لكن رغبة الخلود المعلن عنها بال “الوشم”، بعدما طالت جسد القصيدة بإهابها العمودي و بزمنها الموغل في الماضي الذي عبرت عنه ألفاظ رموز مثل النمل وليلي و الشيخ…، سرعان ما تمحي لتحل محلها رغبة أخرى في نهاية القصيدة، رغبة يحكمها زمن آخر فيه من الحاضر و فيه من الآتي يقين، فيظهر من جديد الدَّال “هذا” المعبر عن الحاضر بعد تطواف كبير في زمن الماضي بما هو زمن يحكمه شكليا عمود القصيدة، لكأن القصيدة كلها حركة ارتجاعية انطلقت من الحاضر فنفرت منه و هبت في شهوة إلى الماضي فغمست فيه جسدها حتى التشبع و لما تعاورتها الرتابة عادت إلى الحاضر هاربة من ماضيها هروبا عبر عنه الشاعر بقوله ” أحد الآلاف الفارين، تقدم بين الشيخ و شهوته”، و لعل لفظة “الشيخ” محيلة في هذا الشأن على شكل القصيدة القديم و لفظة “شهوته” معبرة على توق هذا الشكل في التجدد، و لكن يقينا يداهم الشاعر بان زمنه الذاتي الراهن يفترض شكلا مناسبا له ملامحه الواقعية، فيعود إلى التصريح بأن ملامح الواقع الذوقي و الكتابي تجبر قصيدته على مسايرة الجديد من الأشكال فيقر بأن الشكل القديم لا يلبي انتظاراته الشعورية و انتظارات المتلقي الذوقية فيقول “ليس الوتد الآخر، هذا الوتد… الأمثل ».
جريدة “العرب العالمية“، 22 فبراير 2007 العدد 7636 السنة 29