كه يلان محمد
المسافة التي تفصلُ بين الروائي والشخصيات التي تطوفُ في فضاء أعماله تُكسبُ المبدعَ جرأةً في تناول مواضيع حساسة قد لا تتسعُ لها قماشةُ فنونُ أُخرى، لذا تتحوّلُ الرواية أحياناً إلى منصةٍ للأفكار الجديدة والفرضيات القائمة على بُنية التَخيُل التي تسبق المُختبرات العلمية في إنفلاتها من مشروطيات الواقع، كما تُحلقُ الروايةُ خارج أسيجة المُحرّم، ما يعني أن هذا الفنَ يستمدُّ تميّزهُ من مُشاغبة المألوف والأذواق التقليدية.
ومن هنا، لا إستغراب من ملاحقة الرقيب للأعمال الروائية التي لا تتقيّد بالموضوعات المتعارف عليها، بل هي تنزاحُ من الأنساق المُنافية لقيم المعرفة والحرية. وتنفتحُ على شتى الموضوعات دون الإمتثال لثنائية الممنوع والمُباح، كما أنَّ حكمة اللايقين بالنسبة للروائي هي مُعادلة لمطرقة الفيلسوف التي تحدّث عنها نيتشة. وبدورها، تشتغلُ الشاعرة والروائية المَغربية فاتحة مرشيد وفق منطق المعرفة في رواياتها، لذلك نجد في نصوص صاحبة «لحظات لا غير» ثيمات غير مألوفة قد تصدمُ وعي القارئ، وتدفعُ به نحو إعادة التأمّل في الواقع وما تجاهله من الظواهر المسكوت عنها.
إلى جانب الإهتمام بالحركة الخارجية والعلاقات القائمة بين الشخصيات، تستبطنُ مرشيد المستوى النفسي وما تُمَثّله الشخصية من الأفكار المعبّرة عن الذات المُغيّبة. وهذا ما يفسّرُ خصائص الشخصية الأساسية في أعمالها وتثوير بنية النص. إذ ثمّة سرّ دفين يتحوّلُ إلى نواة العمل بأكمله وبذلك تكتسبُ الرواية وظيفة إستكشافية لدى مؤلفة «الحق في الرحيل». أمرُ يضعُ المُتابعَ لوقائع رواياتها بوجه سلسلة من المُفاجآت التي تُظهر وجهاً متوارياً من المشاهد الحياتية.
ضياع
على رغم إنكباب فاتحة مرشيد على هموم الفرد ورغباته المكتومة، لكن ذلك لا يمنعهُا من رصد الواقع الإجتماعي بوصفه بيئةً حاضنةً للشخصية المُتصارعة مع القيَم المُهيمنة. يتّخذُ أسلوبُ مرشيد في رواية «مخالب المُتعة» منحى إجتماعياً، حيثُ ترصدُ التفاوت القائم في أنماط الحياة بين المكوّنات الإجتماعية، ما يؤدّي إلى تفاقم الأزمات الأخلاقية والقيمية وينعكسُ ذلك في ظاهرة عهر الرجال، ويكونُ ممتهنوه من متخرّجي الجامعات الذين يعانون من البطالة ولم يعد لهم خيارُ سوى الإنزلاق إلى سوق المُتعة، لأنَّ الشهادات والتحصيل العلمي لا يجدي نفعاً طالما يسودُ حرمانٌ على المستوى الإقتصادي والعاطفي. مايعني وجود العوامل النفسية والإجتماعية المغذّية لتلك الظاهرة.
لذا، ينساقُ أمين، وهو درس التاريخ والجغرافيا في الجامعة وراء إغراءات هذا العالم ويقتنعُ برأي زميله في الدراسة عزيز بأن لا بديل غير الإنغماس في التجارب الغرامية المُزيّفة التي تقودُه في الأخير نحو نهاية بائسة. ومن الواضح ندرة الأعمال الروائية التي تدور حول هذا الموضوع، نظراً لحساسيته وما يضمرهُ من مؤشّراتٍ مناقضة لرؤية شائعة حول دور الفحولة. أضِف إلى ذلك، فإنَّ ما يفهمُ من تحوّل العلاقة النفعية بين عزيز وليلى إلى شغف وحب بين الإثنين وإستنكار العاشق بالإيجار لما يشاهده في الحفلة الإباحية التي أقامها صديق ليلى الفرنسي بمضافته «رياض شهرزاد»، إذ توخزه الغيرة على عشيقته أنَّ تمثيل في المشاعر ما يلبث أن يصبحَ أمراً حقيقياً لايمكنُ التغافل عن تمظهراته في شخصية الإنسان.
وهذا مايقع فيه أمين أيضاً عندما يُصاحب نسمة التي يجدُ فيها تعويضاً لعلاقته الفاشلة مع أحلام لكن تلك المرأة المكلومة بموت إبنها ترفض خيانة زوجها جسدياً، ما يعطي الخصوصية لعلاقتهما إلى أن يصل أمين لأقصى درجات التعوّد بعشيقته ولا يخلو هذا التطوّر من مردود إيجابي على معنوياته ويتبدّى ذلك في قبوله لإقتراح مُصطفى بالتحضير لدراسة الماجستير في إختصاصه، غير أنَّ إخفاق عزيز في إستعادة ليلى ومن ثُمَّ إقدامه على قتل الأخيرة وما يستتبع ذلك من ضياع العمر في الزنزانة و مُغادرة نسمة إلى كندا بعد خسارة صديقتها يضعُ أمين أمام المجهول من جديد.
عليه فإنِّّ مُعالجة ثيمة الحُبِّ في روايات فاتحة مرشيد تأتي مقترنةً بمفهوم المُحرّم والموت. وهذا ما يتجلى في عملها الموسوم بـ»التوأم»، إذ يعشقُ البطلُ وهو الراوي في الوقت نفسه أخت زوجته ويستحيل بالنسبة إليه البوح بهذا السرّ كونه مُحرّماً إجتماعياً ودينياً ويظلُّ شعوره مُتأرجحاً بين العشق المحظور وإرغامات الواقع إلى أنْ تفارق الزوجةُ الحياةَ، فالبتالي تتُاح الفرصةُ لإعلان سر مكتوم.
رغبة
تختلفُ أشكال التعبير وأساليب حياكة الأعمال الروائية ومن المعلوم بأنَّ الجانب الشكلي عاملُ يُضيفُ إلى المضمونِ ويزيدهُ تشويقاً. تشتغلُ فاتحةُ مرشيد على تراكيب لغوية مُطعّمة بالشعرية كما تميلُ إلى السرد الذاتي أكثر فيكونُ الراوي مُتضمّناً في بناء النصّ كما تمتازُ حركة السرد بالخفة وذلك بفضل حسن توظيف التقنيات المتنوعة. زيادة على ذلك فإنَّ هناك تواصلاً فكرياً بين روايات صاحبة «ورق عاشق»، ويصحُّ إعتبار ما يقولهُ مراد في رواية «التوأم» بأنَّ الرغبة وليسَ العقل هو محرّكُ للتقدّم إستباقاً لما تتناولهُ الكاتبةُ في روايتها المعنونة بـ»إنعتاق الرغبة»، إذ تمضي أبعد في مغامرتها الروائية عندما تنصرفُ إلى موضوع التحول الجنسي والمثلية إضافة إلى العلاقة الكائنة بين الإستبداد السياسي والعنف الجنسي.
كل ذلك يتجاور في تضاعيف نصها الروائي الجديد الذي يتكيء على بنية المدوّنة وصيغة الرسالة التي ينجلي الغموض من خلالها عن السبب وراء هجرة الأب عز الدين إلى بلجيكا وترك أسرته في المغرب. إعترافات الوالد المسبوكة في الرسائل تصدمُ إبنه فريد وهو لايمتلكُ سوى صورة تُنسبه إلى الأب الذي لم يكن غيابه من أجل إمرأة أخرى بل لإكتساب هوية مُختلفة لما كان عليه بين العائلة في المغرب.
ومايُضاعف من حدة التوتر لدى الإبن هو رحيل الأم بسنة قبل إكتشافه لحقيقة صادمة. يعكتفُ فريد على قراءة الرسائل مُنقطعاً عن كل ما يشغله من مُتابعة محتويات دفتر والده حيثُ دونَّ الأخير المراحل التي مرَّ بها بدءاً من الطفولة عندما ضُبط ملتبساً بمحاكاة البنات في أزيائه، مروراً بتماهيها مع مشاعر زوجته وهي حامل بالإبن إلى أن يقع نظره على مقال حول الدكتور الفرنسي جورج بيرو حيث يشدّهُ ما ورد ضمن المنشور بأنَّه كان مُختصّاً في التحوّل الجنسي مرفِقاً المكتوب بصور للمشاهير تحوّلوا من أنثى إلى ذكر أو من ذكر إلى أنثى. وهذه المادة الصحافية تدفع بـ»عزالدين» لإتخاذ قرار مَفصلي في حياته ويبدأُ رحلته بحثاً عن ذاته الدفينة ويفاجأُ إمرأته بحقيقته المتوارية.
حلقة مَفقودة
تتطلبُ معرفة قصة الوالد وكشف حلقات ما برحت منقوصة بالنسبة للإبن أن يقومَ الأخيرُ بزيارة مدينة مونتريال حيثُ تنتظره صديقة عزالدين فاديا لتزوّده بمعلومات عن شطر آخر من حياة عزالدين. يُشارُ إلى أن قصصاً فرعية تتواتر في سياق قصة الإطار والمُلفت على هذا الصعيد هو ما تسردهُ فاديا عن تجربتها القاسية في ليبيا قبل سقوط نظام معمر قذافي، وهي سُيقت إلى كتيبة نساء العقيد الذي إغتصبها ونكّل بجسدها الغض إلى أن تنطلق الثورةُ حيثُ تتمكنُ فاديا من الهروب من سجن النظام ويستقبلها عزالدين في مونتريال مهدياً إياها كتاباً عن جرائم جنسية إرتكبها الزعيمُ.
تثيرُ قصة فاديا إعجاب فريد الذي لم يَعدْ يتحمل الحياة مع زوجته صوفيا وتتّسعُ الفجوة بينهما إلى أن يخبرها فريد بسرّ والده وتنتهي بذلك العلاقة الزوجية، ويشدُّ رحاله إلى حبيبته فاديا بمدينة مونتريال ويتّفقُ مع الدكتور برنار على مزاولة مهنته في مجال جراحة التجميل بكندا. يتخيل على متن الطائرة لحظة لقائه بفاديا وتبقى وتتوقف حركة السرد في لحظة درامية عندما تمرُّ الطائرة بمطبات هوائية ما يعني الدخول في المجهول. يُحسب للكاتبة لغتها الراقية دون الوقوع في مطب الإبتذال وحضور خلفيتها الشعرية والمهنية في متن النص كونها شاعرة وطبيبة قبل أن تختار مُعترك الرواية.
جريدة الجمهورية اللبنانية، السبت 3 غشت 2019.