د.عدنان الظاهر:
بعد كتابيها السابقين…. أتحفتنا الشاعرة المغربية السيدة ( فاتحة مرشيد )
بكتابين جديدين آخرين عنوان الأول ( تعالَ نمطر ) بينما حمل الكتاب الآخر عنوان ( أيَ سوادٍ تُخفي يا قوس قزح ؟ ) . جديد كتاب قوس قزح أنه جاء بالعربية والفرنسية إذ قام بترجمة قصائده السيد ( عبد الرحمن تنكول ). ولأني لا أفقه من الفرنسية شيئاً…. فلسوف أعفي نفسي من محاولة متابعة ما فيه من قصائد. إذاً، سأجد هذه النفس المتأهبة أبداً للسفر وجهاً لوجه مع كتاب ( تعالَ نمطر ).
ماذا وجدتُ في هذا الكتاب من الشعر الحديث المنثور ؟؟ وجدتُ الشاعرة ( فاتحة مرشيد ) صورة أخرى لما قرأتُ في كتابيها الأولين ( ورق
عاشق ) و ( إيماءات ). وجدتُ سمت الحزن العالي. وجدتُ الخوف من المستقبل / المجهول. وجدتُ الشك والحذرمن الدنو من الآخر. وجدتُ الإنفصام الصوفي. وجدتها مرتين كذلك تتكلم بلسان رجل [ الصفحات 71 و 117 ]. وجدتها غارقة في البحر أو المطر. وجدتها تخاطب ولدها
( سليم ) وكانت قد خاطبت في السابق كريمتها ( لمياء ).
فضلاً عن هذه الأمور…. قرأت لها مسائلَ جديدةً في كتاب ( تعالَ
نمطر ). تغيير إرتأته الشاعرة لضرورات ليس عسيراً التكهن بأحكامها. فلقد نبذت مطربها المفضل ( محمد عبد الوهاب ) ظهريا وإتجهت لمغنٍ مصري آخر هو ( كارم محمود / أغنية أمانة عليك يا ليل طوِّل وهات العمر مألأول // قصيدة حب من ماء الصفحة 73 ). وخصّت الشاعرالفرنسي المغامر ( آرثور رامبو ) بقصيدة ” ألوان الخريف “ …. ثم أهدت إحدى قصائد الديوان إلى رجل لم أسمع به من قبلُ…. هو ( عبد اللطيف الدرقاوي ). أخيراً…. إلتجأت إلى اللغة الإنجليزية بدل الفرنسية فصاغت بها عنوانَ إحدى قصائدها الطريفة فأسمتها
(( Over – Dose ))
الأطباء يعرفون لا شكَّ خطورة تجاوز محتوى الدواء بلغة الملليغرام. لذا قررت طبيبتنا ( فاتحة ) أن تتخلص من الحياة بتناول جرعة دواء تتجاوز حدودها المرسومة، فما هو هذا الدواء وما أسلوب تناوله ؟ إخترعت الطبيبة ( فاتحة ) طريقاً جديداً للإنتحار والإنسحاب من الحياة . سأدعها تتكلم نيابةً عني وبلغتها هي. قالت ( الصفحة 90 ) :
سأشربُ نخبَ العاصفة
علّني أقضي نحبي
بجرعة حبٍّ زائدة.
ومن الحب ما قتل…. هكذا قال بعض الشعراء قبل ( فاتحة ). كما قيل إنَّ الشاعر العراقي ( إبن زُريق البغدادي ) قد مات في بلاد الأندلس بعد مفارقته لحبيبته في بغداد مباشرةً . ومَن منا لا يحفظ شعر هذا الشاعر البغدادي قتيل الحب ؟ فلنسمع ما قال :
أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قمراً
بالكرخِ من فَلَكِ الأزرارِ مطلعُهُ
ودّعتهُ وبودي لو يودّعني
صفوُ الحياةِ وإني لا أُودِّعه
وكمْ تشبّث بي يومَ الرحيلِ ضُحىً
وأدمعي مُستهِلاّتٌ وأدمُعُهُ
ما آبَ من سَفَرٍ إلاّ وأزمَعهُ
عزمٌ إلى سَفَرٍ بالرغمِ يُزمِعُهُ
في كلِّ يومٍ لهُ حِلٌ ومُرتَحَلٌ
مُكَلَّفٌ بفضاءِ اللهِ يذرُعُهُ.
إذا ما قتلَ الفراق هذا الشاعر البغدادي، فما الذي يقتل شاعرتنا ؟ الحب الزائد، الحب الفائق الحدود. وكيف السبيلُ إلى ذلك ؟ التعرض للعاصفة…. مجابهة الخطر بشجاعة وتصميم. (( أنا الغريقُ فما خوفي من البللِ ))…. كما قال الشاعر الكوفي العراقي أبو الطيّب المتنبي قبل إثني عشرَ قرناً من الزمان.
الحزن والتشاؤم في شعر فاتحة /
كتبتُ حين تعرضتُ لقراءة كتابي الشاعرة السابقين لهذه الموضوعة مفصّلاً. قلتُ من بين جملة ما قلتُ إنَّ حزن الشاعرة قادر أن يخترق عصب القاريء…. فيُصاب به بالعدوى أو بظاهرة الرنين الفيزيائي
( الريزونانس ). أقرأ كتابها فأحسُّ بمسيس الحاجة للهروب. ذاك لأني أظل حزيناً مكتئباً لعدة أيام. تجرني أحزانها لأعماق بحرية غامضة سحيقة. أجدها هناك مثل ( دلفين ) يعوم بين الأمواج البحرية العاتية. وكأي دلفين…. تحتاج ( فاتحة ) بين فترة زمنية وأخرى إلى الطفو إلى سطح البحر من أجل جرعة هواء حر لا وجود له في تلكم الأعماق السحيقة. تطفو إلى السطح تاركةً إياي كقاريء هناك وحيداً حائراً في أمري وأمر هذا الدلفين الغريب المغامر. أشعر حقاً بالإختناق. أُحس بمرارة هذا الدلفين وحيرته فوق وتحت سطح ماء البحر. شعرها مملوء بالمطر والبحر. لا تفارقهما أبداً.
إذا رأيناها تتمنى الموت بجرعة حب فائقة الوزن، ففي قصيدة (( لا تكترثْ )) تتكشف أمامنا إنها مهيأة للمزيد من الرماد :
مُهيأةٌ لمزيدٍ من الرمادِ
فاحرقْ جُثةَ حبِّنا
ولا تكترثْ لمِدادِ الرسائل.
رماد جثة تحترق ورماد رسائل وحياة رمادية اللون أرضاً وسماءً. سوداوية مركّزة .
وجدت شاعرتنا أكثر وضوحاً في هذا المضمار في قصيدتها ” ليكن… “.
سأعمد إلى تكثيف المقاطع وجمع ما في بعض الأسطر لأفسح في المجال أمام تعليقاتي :
1) سريرٌ نافرٌ من ألم الضلوع …. // تعليقي : هنا الألم
2) طاولةٌ تلزمها ثقةٌ لتَثبُتَ تحت يدي …. // تعليقي : فقدان الثقة
3) مقعدٌ مُتعَبٌ من الوقوفِ ليلاً على عتبةِ الحرف….// التعب
4) حبرٌ مكتئبٌ كعاشقٌ في نقاهة…..// الكآبة
5) فنجانٌ ظاميءٌ يجتّرُ مرارةً غائبةً…..// المرارة والغياب
6) ونافذةٌ مٌغلَقةٌ على حٌلُمي…..// الإنغلاق وفقدان الأمل
7) كلٌّ بغرفتي شاهدٌ على خيبتي وأنا مُضربٌ عن البوحِ…..// الخيبة والتمنّع من البوح {{ ثم نلاحظ الكلام بلسان رجل }}.
8) هذا العشقُ أكبرُ من أنْ تحملهُ أوراقي …. // الوهن والضعف.
هذه هي المقاطع الثمانية التي شكّلت قصيدة ” ليكنْ “. كيف نجد ترجمتها إلى لغة أكثر بساطة وأبلغ دلالة ؟ إذا وضعت الشروح جنباً لجنب فلسوف تتبدى الصورة مرعبةً كالحة السواد ضاربة في السوداوية :
الألم + فقدان الثقة + التعب + الكآبة + المرارة والغياب + الإنغلاق وفقدان الأمل + الخيبة + الوَهن والضعف .
من أين يأتي كل هذا السواد إلى دلفين مياه الأعماق السحيقة ؟! كيف ومن أين يأتي لشاعرة وطبيبة ناجحة لا أراها في صورها المنشورة إلاّ باسمةً أو ضاحكة ؟!
قصيدة ” عطر اللوتس ”
بعيداً عن الحزن والتشاؤم والسوداوية…. نجد في قصيدة ” عطر
اللوتس ” شعراً سوريالياً جميلاً يطغى بجماله على شدة غموض ما فيها من أفكار ودلالات وصور ومجازات. لذا أشعر أني أمام لوحة بالغة الروعة لدرجة تفقدني فضولي وحب معرفة معاني هذه القصيدة. جمالها يغنيني عن الدوافع الفطرية أو الساذجة الملحاحة لمعرفة فحوى هذا السطر أو ذاك. أقرأها فأنتشي وأكاد أتحسس شميم عطر وردة اللوتس التي عرفها فراعنة مصر وخلدوها على جدران معابدهم. لا أعرف عطر الشاعرة فاتحة المفضَّل ولكن، قد لا يكون شذاه بعيداً عن أريج اللوتس.
نقرأ قصيدة ” عطر اللوتس ” :
لا حارسَ لحديقتي غير زوج حمام
ينضو بقايا نُعاسٍ عن أجنحةٍ من مرمر
وخريرُ ماءٍ يغسلُ كسلَ الليلِ عن شعري
أرتديتُ ثلاثَ قَطَراتٍ من عطر اللوتس
ووزّعتُ بالقسطِ عصيرَ حنيني
على كأسينِ
كوردةٍ تستقبلُ الندى
أعددتُ الفجرَ لمسافرٍ قد يُعرِّجُ على إنتظاري.
لا يحتاجُ القاريء للسعي إلى ترجمة أو شرح هذا النموذج من الشعر. لوحة سوريالية مفعمة بالسحر والجمال والفتنة. كلما تهتُ في أعماق غموضها أحسست بنوع جدَّ غريب من النشوة التي أجهل مضمونها ولا أقف على ماهيتها. أي عالم غريب هذه الشاعرة ؟ كيف تجمع المتناقضات في وجدانها وفي قلمها وأفكارها وسياحاتها التي تقوم بها مغمضة العينين كأي بحار مغامر لا يخشى البحر ولا عواصف البحر ؟ كيف تنسى الشك وتنسى الخوف من المستقبل المجهول وتتناسى حذرها من الإقتراب من
” الآخر ” ؟؟!! أين نجدها كإنسانة
وأم وزوجة وشاعرة وطبيبة، أين ؟؟
ما الذي يجمعها والشاعر ( رامبو ) ؟ ولماذا تجد فيه شيئاً منها ؟
أسئلة كثيرة تحيرني لكني أبقى مأخوذاً بطبيعة أحزانها وعمق هذه الأحزان التي تجرني نحو أبعاد سحيقة لا فكاكَ منها.
أرى في هذا الكتاب الجديد ” تعال نمطر ” إصرار الشاعرة على المضي في ذات النهج السابق الذي رأيناه وقرأناه في كتابيها الأول والثاني. بل قد جاء حزنها وتشاؤمها ومخاوفها…. جاءت في كتابها الجديد أكثر تركيزاً وأوسع مساحةً. إصرارها شديد الوضوح.
مطر ” فاتحة ” ومطر الشاعر ” بدر شاكر السياب ” :
خصصت الشاعرة تسعةً وعشرين مقطعاً لعنوان كتابها موضوع المناقشة
( تعالَ نُمطر )…. إستغرقت الصفحات 11 / 49 من مجموع صفحات الكتاب البالغة 131 صفحةً . فلماذا المطر ؟ ولماذا فعل الأمر ” تعالَ ” ؟ ولماذا الدعوة للمشاركة في فعل المطر ؟ ومن هو المخاطب المدعو ؟
كلما تعمقّتُ في قراءة أشعار السيدة الشاعرة ” فاتحة مرشيد ” توضّحت أمامي [ أو هكذا يُخيّلُ إليَّ ] صورة وسمة وماهية مطر هذه الإنسانة الشاعرة . وجدته مطراً من نوع خاص . مطر روحي أو روحاني لا وجود له في الطبيعة التي نعرف. مطر صوفي تتخيله وهي في حالة ظمأ روحي قاتل. تدنو منه لإطفاء جذوة هذا العطش لكنها لا تطاله. يهرب منها أو تتهرب هي منه وَجِلةً هيّابة. وإنْ طالته فأدنته من شفتيها الملتهبتين بحرقة الظمأ لم تجد له طعماً ولم تجد فيه ريّاً ولا شفاءً. لذا فإنها تظلُ ابداً عطشى لشيْ ما وظمأى لأمر ما لا تعرف كنهه أو لا تريد أن تعرف. أجلْ، لا تريد أن تعرف. المعرفة كشف والكشف يخيف الشاعرة. في الكشف إزاحة للسُتُر، في الشاعرة / المرأة / الإنسانة ميلٌ شبه فطري للبقاء خلف ستار. بين حالتي وعالمي الكشف / اللاكشف نجد الشاعرة في وضع عذاب أبدي تجد فيه قوة وجودها وسر تحديها للحياة ومسرة أحزانها الشخصية والكونية. متعة الشاعرة القصوى في هذه الأحزان. متصوف هندي يمشي على جمر النار. وآخر يخرق السيف جوفه والسكين لسانه. متعٌ من نوع خاص جُبِلَ البعض منّا على التكيف لها والإنتشاء بعذاباتها.
فضلاً عن هذا الظمأ الروحي القتّال، وهذا التواري الموارب خلف حجب و سُتُر، أرى الشاعرة، وترى هي نفسها كما إخال، كمخلوق خرافي لا يرتوي من شرب الماء، يسعى دواماً للحصول عليه، فإنْ لم يجده راح يلتهم تراب الأرض … رمل الشطآن… رماد المواقد المطفأة. لهفة لشيء غير واضح. الجري وراء أمل هو السراب بعينه أو كالسراب. غربة عن الروح وغربة أخرى في صميم الروح. تغربٌ وخلوٌّ وفراغ من نسيج خاص تصنعه حواس الشاعرة. قربة مثقوبة أو بالون من غاز الهيليوم فيه عدة ثقوب، أو كسفينة أُفرِغت من حمولتها للتو وغرق قبطانها. في أدناه نموذجان يصوران حالتي الظمأ والفراغ الروحيين.
المقطع الخامس من قصيدة ” تعالَ نُمطر ”
تتكيء الوسادةُ على وجعنا
والسريرُ عَبَثاً يُصرُّ على طي المسافاتِ
بينما يعانقُ كلانا سَفَرهُ السري.
تشارك الشاعرة / المرآة شخصاُ ما…. رجلاً…. سريرأ واحداً، يطفو على أوجاع. تفصلها عنه مسافاتٌ ومسافات … السرير بيداء ورمال. كأنما ما إجتمعا فوق سرير نوم واحد إلاّ ليفترقا. يفرقهما الذي جمع بينهما. فأية لوعة وأية مفارقة حياتية وأي فراغ وخلاء ؟!
المقطع السادس :
أَشبحكَ أم ظلّي
هذا الذي يغفو على أَرقي
أم إنه شاهدُ غيابٍ يبحث عن يقين ؟
ونقرأ في المقطع السابع :
أيها اللائذُ بكبدِ الجرحِ المتجذِّرِ فيَّ كإنتمائي لكفيكَ
أنا بعضُ رضاكَ
فهل رضيتَ بأنثى تجلبُ الأقاصي
تروِّضها على العتباتِ الأليفة ؟
قَدَري أنْ أختلقَ لصمتكَ همساً
وأضعَ يدي في مهبِ اللمسِ
علّني أُلاقيك.
ماذا نقرأ في هذين المقطعين من صور الفراغ والعطش والرغبة الجامحة واللاهثة وراء الإمتلاء والإرتواء الروحي تارةً والجسدي تارات أُخرَ ؟ إشارات كثيرة بليغة وبالغة الدلالات. نقرأ : شبح…ظل…غياب…جُرح…أقاصي…مهب اللمس…علّني أُلاقيك.
تتحول الشاعرة في المقطع الثامن تحت تاثير إنتعاشة أو صحوة أو قفزة عالية الشحنة من حالتي الفراغ والظمأ الروحيتين إلى شعر ذي نفس مخالف تماماً. فيه أمل يائس وفيه نشوة روحية / جسدية متشبثة برغبة لا وجود لها …. تتمناها كما في الأحلام. شعر آيروسي رومانسي راقٍ واضح الدلالات بليغ في أصالته وتعبيره عن نفسه وعمّا يجول في خاطر المرأة / الشاعرة. يكاد هذا الضرب من الشعر أن يضاهي قدرات الشاعرة في الضروب الشعرية الأخرى إنْ لم يتفوق عليها جميعاً. إنها مبدعة في كلا الضربين : شعر الحزن السوداوي وأشعار الآيروس.
فلنقرأ ما جاء في المقطع الثامن :
ما مِن أقاصٍ تُغري
غير سفري فيكَ… أنت البعيدُ كدمي
ضاجةٌ بك الحواسُ
فأين أُخفيكَ عن عيون الرغبةِ ؟
وكيف أحميك من عَطشي
حين تنسابُ بكأسي
وحين تدورُ برأسكَ الأقمارُ ؟
ت
ع
ا
لَ
تعالَ نُلبي نداءَ الطبولِ
و نُسقِطُ عنّا الكلامَ الملثَّم .
فاتحة والتصوف
يخاطبُ المتصوفةُ خالقهم في وجد ووصلٍ وإتصال ومحاولات وصول. يعذبون أنفسهم، يعرقون وقد يغيبون عن وعيهم. أما الشاعرة فاتحة فإنها
تخاطب مخلوقها الخاص لا خالقها. تخاطب رجلاً أو ظلاً أو شبحاً ترسمه بريشة وألوان حواسها هي، حسب مواصفاتها ومواضعاتها هي. ترسم لا على خشب أو قماش رسم. تصور عدساتها الخفية والمخفية عشوائياً ولكن لا على لوح فوتوغرافي ( فيلم ). إنما ترسم وتصور على شبكة سحرية يخترق الضوء ثقوب نسيجها فيغدو لوناً نُحس به ولا نراه. تتخيل فتخاطب رجلاً لا وجودَ له البتة. ترسم شخصاً ليس كسائر البشر. حين تكتب تغيب عن أرضها وعن عالمنا الذي نعرف. ترتفع محلقةً في سماوات عالم المُثُل الأفلاطوني. تريد شيئاً لا مثيلً له. شيئاً لم يُخلق بعد. شيئاً يصعب تحديد مواصفاته فتحاول إلقاء القبض عليه برسمه على لوح خاص لم يعرفه البشر بعد ولا من قبل.
المطر في القرآن
ورد في القرآن الكريم ذكرُ المطر كثيراً. وسيلةً وسبباً لإنعاش الأرض وإنبات الفاكهة والخضرة وما يعتاش عليه الإنسان والحيوان. مطر حقيقي لا إفتراضي. مطر ينزل من الغيوم التي تتجمع في طبقات الجو المتفاوتة الإرتفاع. قلتُ قد ورد في القرآن الكريم ذكرُ المطر كثيراً، ففي سورة
(( الحَج )) على سبيل المثال {{ …. وترى الأرضَ هامدةً فإذا أنزلنا عليها الماءَ إهتزّت ورَبَتْ وأنبتتْ من كلِ زوجٍ بهيج // الآية رقم 5 }}.
ذكرت المطر في القرآن لأنني بصدد التعرض لمطرثالث آخر، مطر الشاعر العراقي المرحوم بدر شاكر السياب. فأغلب مطر السياب الذي وجدتُ في أشعاره مطر خاص ليس فيه من مطر السماء شيء أو شبيه. كما إنه شديد الإختلاف عن مطر الشاعرة المغربية السيدة فاتحة مرشيد.
أقصد مطر السياب الذي ورد في ديوانه المسمى (( أُنشودة المطر )). تتبعت هذا المطر في ثلاث قصائد هي : رؤيا في عام 1956 / مدينة السندباد / و أنشودة المطر.
ما هي خصائص مطر السياب ؟
إنه مطر شرس…. إعتدائي…. سادي…. يهدّم ويدمر….مطر دم ودماء.
قال السياب في قصيدة ” رؤيا في عام 1956
ما يلي ( المقطع الخامس ) :
….
عشتار ب (( حفصةَ )) مُستترةْ
تُدعى لتسوقَ الأمطارا
تُدعى لتُساقَ إلى العدمِ
عشتارُ العذراءُ الشقراءُ مسيلُ دمِ
صلّوا…هذا طقسُ المطرِ
صلّوا… هذا عصرُ الحجرِ
صلّوا، بل أصلوها نارا
تموزُ تجسّدَ مسمارا
من (( حفصةَ )) يخرجُ والشجرة.
[[ يضيف السياب في آخر الصفحة ما يلي : حفصة إحدى شهيدات مذبحة الموصل ]].
عن أي مطر يتكلم السياب هنا ؟؟
نقرأ في المقطع السابع والأخير من هذه القصيدة أمراً أشد هولاً. قال السياب :
ولفني الظلامُ في المساءْ
فامتصّت الدماءْ
صحراءُ نومي تُنبتُ الزَهَرْ
فإنما الدماءْ
توائمُ المطرْ.
<< الدماءُ توائم المطر >>
قد يقول قائل من معاصري السياب وزمن كتابته هذه القصيدة ومجمل ديوان (( أُنشودة المطر )) … قد يتحجج بأنَّ السياب كان على خلاف مرير مع جهة سياسية معينة خلال سنوات حكم عبد الكريم قاسم، بل ومع قاسم بالذات… بعد أن إنقلب الشاعر على نفسه وتبنى قناعات سياسية وعقائدية مخالفة لما كان معروفاً عنه قبل ثورة تموز 1958 . فمطر السياب في هذه المرحلة الفاصلة من عمره القصير يعبر عن مواقفه من أحداث دامية وقعت في العام الأول من الثورة ( 1958 / 1959 ) بشكل خاص وما ناله شخصياً من أذى وملاحقات وبطالة وتشرد وفاقة نتيجة فصله من وظيفته.
في قصيدة ” مدينة السندباد ” يواصل الشاعر بدر شاكر السياب نهجه وفهمه الخاص لظاهرة المطر وأسلوبه في توظيفه صوراً شتى حيناً وأُطراً قاسية تعمق مأساة افكاره أحياناً أخرى :
….
صرختُ في الشتاءْ
أقضَّ يا مطرْ
مضاجعَ العظامِ والثلوجِ والهباءْ
مضاجعَ الحَجَرْ
وأنبت البذورَ، ولتفتّحَ الزَهَرْ
وأحرق البيادرَ العقيمَ بالبروقْ
وفجّر العروقْ
وأثقل الشَجَرْ .
نرى في هذا الكلام متناقضات يرفضها المنطقان الشكلي والشعري….نعم، المنطق الشعري…. فشعر السياب شعر تفعيلة ووزن، وفي كليهما منطق وهندسة وضبط وإنضباط .
وإلاّ فكيف جمع الشاعر بين أمرين مختلفين كل الإختلاف… أعني قوليه
(( أنبت البذورَ )) و (( أحرق البيادر… )) ؟؟
هذا هو مطر السياب أو بعضه. مطر يقض مضاجع العِظام ومضاجع الحجر !! ينبتُ البذور ويحرق البيادر !! مطر سادي عدواني مدمّر. مطر لا كمطر السماء وليس كمطر ( فاتحة مرشيد ) الذي رأينا قبل قليل.
نقرأ في نفس المقطع من هذه القصيدة ما يلي :
وجئتَ يا مطرْ
تفجّرت تنثّكَ السماءُ والغيومْ
وشُقِّقَ الصَخَرْ
وفاض، من هباتكّ، الفراتُ واعتكرْ
وهبّت القبورُ، هُزَّ موتها وقامْ
وصاحت العِظامْ :
تباركَ الألهُ، واهبُ الدّمِ المطرْ .
مطر السياب دم، ودمه مطر… معادلة غاية في التطرف والشذوذ تعكس بل وتفضح مواقف السياب من ذاته ومن باقي البشر ومن الحياة نفسها. سوداوية دموية متطرفة وتجنٍ على ظواهر الطبيعة المعروفة وقوانين الكون.
نموذج آخر من مطر السياب نقرأه في قصيدته المعروفة ” أُنشودة
المطر “… التي تحمل عنوان الديوان :
….
مطر…
مطر…
مطر…
تثائب المساءُ والغيومُ ما تزالْ
تسحُّ ما تسحُّ من دموعها الثِقالْ
….
مطر…
مطرْ…
أتعلمينَ أيَ حزنٍ يبعثُ المطرْ ؟
وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا إنهمرْ
وكيف يشعرُ الوحيدُ فيهِ بالضياعْ
بلا إنتهاءٍ، كالدمِ المُراقِ، كالجياعْ
كالحبِ، كالأطفالِ، كالموتى، هو المطرْ !
أية خلطة عجيبة جبلها الشاعر حيث جمع أموراً لا من جامع يربطها ولا من مغزى ؟؟!! المطر هو الحب… الأطفال… الموتى!! فهل هذا مطر أم غضب.
قضية ” فنية ” : ما حال هذا الشعر وما قبله لو حرّك الشاعر آواخر كلمات أسطره ؟ سينقلب الميزانُ حتماً ويفقد شعره إيقاع التفعيلات الذي إلتزمه الشاعر شكلاً أو إطاراً لقصيدته.
هوامش
1- تعالَ نُمطر / ديوان شعر للشاعرة فاتحة مرشيد. دار شرقيات للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 2006 . القاهرة.
2- أيَ سوادٍ تُخفي يا قوس قزح ؟ / ديوان شعر باللغتين العربية والفرنسية للشاعرة فاتحة مرشيد. منشورات ” مرسم ” ، الرباط 2006 .
3- ديوان بدر شاكر السياب / دار العودة، بيروت 1971 .