الأديبة المغربية فاتحة مرشيد تقر بامتلاك “خلوة” بعيادتها
ب”إيماءات” القصيد بدأت طبيبة الأطفال فاتحة مرشيد رحلتها الأدبية،
الشعر زادها والرواية زلالها، اقتلعت “مخالب المتعة” ب “ورق عاشق” فهادنت “الملهمات” ل”لحظات لا غير”..
ترجمت أعمالها إلى العديد من اللغات، وآخر دواوينها الشعرية صدر باللغتين العربية والانجليزية تحت عنوان “ما لم يقل بيننا”.
أنجزت الحوار: فتيحة النوحو
س: من “إيماءات” إلى “ما لم يقل بيننا”، ألم يسعفك كل الكم من إصداراتك لتهجري زمن الصمت؟
ج: قد تكون القصيدة واحدة.. نكتبها ونعيد كتابتها بأشكال شتى، في كتب شتى، محاولين في كل مرة هزم هذا الصمت الدفين المنبعث من أعماقنا، نخطه على ورقة صماء. كل ما نكتبه هو “ما لم يُقل بيننا” لأن من الصعب أن نقول ما يشكل جوهر آلامنا.. ولهذا السبب يصبغ سوء الفهم علاقاتنا الإنسانية.. فنتخذ طرقا ملتوية للتعبير ويبقى الإبداع أبدعها.
س: كيف أعرت الأدب وزرة الطب؟
ج: بل أعرت الطب وزْرَ الأدب بمعنى “حمله الثقيل” لأن الكتابة عندي سبقت الطب.. وقد لزمها عمر لتتحرر من ثقلها وتنثره شعرا و نثرا في كتب مطبوعة.
س: هل يمكن أن نتحدث عن تركيبة استثنائية تجمع بين وجدان الطب وعلمية الأدب ؟
ج: الوجدان واحد، ولا أعتقد أن هناك تركيبة استثنائية تجمع بينهما غير المعانات الإنسانية. كلاهما يصارع الألم وكلاهما في مواجهة الموت.
س: كتبت روايتين بنكهة الشعر حيث وظفت ليس فقط أسلوبا شاعريا بل تضمن متنك الروائي أشعارا. هل تتوقين إلى النص المفتوح بعيدا عن الحدود بين الأجناس الأدبية؟
ج: أعتقد أن الإبداع هو عبارة عن طاقة يفجرها المبدع شعرا أو نثرا أو صورا أو ألوانا..إلخ. وحدها الفكرة تختار الشكل الذي يعبّر عنها أكثر وعلى المبدع أن يسمح لنفسه بحرية التنقل بين مختلف أشكال الإبداع ما إن أحس الحاجة إلى ذلك. الحدود بين أشكال الكتابة حدود وهمية. أحسني شاعرة في الشعر وشاعرة في الرواية وشاعرة أثناء ممارستي لمهنة الطب وشاعرة في الحياة. الشعر ليس مجرد كلمات، إنه فلسفة ونمط عيش. وأظن أن التصنيف لا يخدم المبدعين بقدر ما يحد من حريتهم.
س: تناولت في روايتك الثانية ” مخالب المتعة ” ظاهرة “الجيغولو” الذي يعد “طابو” في المجتمعات العربية، هل يمكن أن نعتبرها تقابلا لتيمة ” البغي” في الأدب؟
ج: رواية مخالب المتعة تطرح قضايا كثيرة مستوحاة من صلب الواقع، أولها ظاهرة البطالة والظواهر المترتبة عنها. أستهل الرواية بجملة: “أن تكون عاطلا عن العمل فأنت حتما عاطل عن الحب عاطل عن الحياة..” فظاهرة “الجيغولو” هي نتيجة حالة العطالة التي تشمل كل الميادين بحيث تنغلق الآفاق ويتم الهروب إلى متع بلا روح متع ذات مخالب.
الدعارة هي أقدم مهنة في العالم عند النساء والرجال على حد سواء.
كثيرا ما تطرق الأدب العربي إلى ظاهرة الدعارة عند النساء وكأن المرأة تختص بهذا الوضع، متناسيا الدعارة عند الرجال، معتبرا إياها من ضمن التابوهات، مع أنها موجودة في كل المجتمعات. لهذا بدا لي هاما أن أزيح الحجاب عن هذا الموضوع.
س: تملكين خلوة شعرية في عيادتك متى تلوذين إليها؟
ج: متى سمعت نداء الشعر اختليت بنفسي علها تلبيه.
وكثيرا ما أختلي بنفسي بدون نية الكتابة، فقط للقراءة أو سماع الموسيقى أو التأمل. نحن نحتاج إلى جلسات مع أنفسنا للإنصات إلى دواخلنا وإعادة اكتشافها.
س: هل يمكن أن نتحدث عن العلاج بالشعر؟
ج: نعم هو العلاج بالكلمة. الطفل يكبر بالكلمة، يمتلك الأشياء عندما يستطيع أن يسميها. والعلاج النفسي يعتمد الكلمة أساسا.. نحن نحرر عقدنا عندما نفجرها كلمات.. فما بالك إذا كانت هذه الكلمات في أروع حلة أبدعها الإنسان.
للكلمة قدرة رهيبة.. فكلمة تبني وكلمة تدمر.. كلمة تجرح وكلمة تضمد الجراح.. كلمة لها مفعول البلسم وأخرى لها مفعول السم. وقد وظف الشعر لصالحه كل الإمكانيات التي تتيحها.. فكانت مدحا وكانت قدحا.. كانت غزلا وكانت رثاء.. كانت علاجا وكانت سبب الداء.
س: ظهورك في الساحة الأدبية حديث نسبيا، لما هذا الخروج المتأخر للعلن؟
ج: لأن كل شيء بأوانه. لأن لكل فترة من حياتنا أولوياتها. لأنه كان علي أن أصل النضج الذي يجعلني لا أهاب نظرة الآخر ولا أخجل من عري الكتابة.
ولأن للكتابة زمنها الخاص الذي يختلف عن إدراكنا العادي للزمن.
س: حضورك لافت كشاعرة، هل لإلقائك المتميز دور في هذا الشيوع ؟
ج: يقول الشاعر لوركا: ” الشعر يحيا حينما يلقى أما في الكتب فهو شعر ميت”.
أجل، أحب إلقاء الشعر والتقاط رجع صداه في نظرة المتلقي.. إنها اللحظة الشعرية أو اللحظة السحرية التي توحدنا بالمتلقي في إحساس واحد.. وكأننا نسبح في نفس البحر.. بحر الشعر.. وتطهر ملحه أرواحنا.
إلا أن الإلقاء وحده غير كاف، إنه مجرد شكل، ولا يكون الشكل مقنعا من غير مضمون.
س: هل غضبت يوما من إحدى قصائدك ؟
ج: لا، كيف أغضب منها وأنا أحمّلها غضبي من العالم. قد أتجاوزها من الناحية التقنية لكنها تظل من الناحية العاطفية ابنتي التي لا يمكنني أن أتبرأ منها يوما.
س: ما طقسك الأمثل للكتابة ؟
ج: ليس لي طقس خاص، هي طقوس تتغير وتتأقلم مع الأماكن ومع الزمن. لا أريد أن أكون سجينة طقس معين حتى أستطيع تلبية نداء الكتابة أينما كنت.
لكن يمكن القول بأنني “كائن مائي” و للبحر مفعول إيجابي على مزاج الإبداع عندي.
س: ترجمت إصداراتك إلى عديد من اللغات، ألا تخشين من تعدد الخيانات؟
ج: ما دامت “خيانات” ضرورية فلا خوف منها.
الإبداع لا يعترف بالحدود، ولا جنسية له، إنه ينتمي إلى الإنسانية بكل ألسنتها ولغاتها. وما اللغة سوى إحدى أدوات التعبير، وإن اتفقنا على كون الترجمة خيانة فهي خيانة للأداة فقط لا لجوهر الإنسان.
س: ماذا عن أمومة فاتحة مرشيد؟
ج: هي أمومة مزدوجة، أمومة بيولوجية وأخرى أبداعية، كلتاهما تمنحني السعادة والتحقق الذاتي، وكلتاهما تحملني مسؤولية أحاول أن أكون أهلا لها.
س : كيف استطعت أن توافقي بين الطبيبة والشاعرة والزوجة والأم…؟
ج : كل منا يحمل داخله شخصيات متعددة يحاول أن يعطي لكل منها حقها. وإن كان هذا التعدد يُتعب أحيانا فهو يُغني دائما.
أنا لست امرأة مثالية بمعنى “سوبر وومن” التي استطاعت أن تحقق التوازن بين كل هذه الشخصيات بفضل نضام صارم، نحن نحقق أشياء على حساب أخرى، ونُرضي أشخاصا على حساب آخرين، ونتعامل على أساس أولويات تتغير وتختلف حسب الظروف. ونسعى يوميا لتحقيق بعض التوازن.
فمرة تضعف الأم، وأخرى تثور الشاعرة، وأحيانا تطغى الطبيبة و أحيانا كثيرة أقصر في حق الأنثى.. لكنني أحتاج كل هذه الشخصيات المتضاربة بداخلي لأنها “أنا” بكل ما قد تحمل من تناقضات.
مجلة “لكل النساء” ، العدد السابع، يناير 2012
www.likouli-nissae.com/…/384-الأديبة-المغربية-…En cache