فاتحة مرشيد الطبيبة الأديبة
هي امرأة مختلفة عن هذا الزمان ولو كانت تنتمي إليه، خلقت لنفسها أجواء أخرصت كل من يلقي بتبعات كسله وخموله على الوقت. انشغالاتها المتعددة لم تفلح في قمع طموحها أو وأد أفكارها الإنسانية، الإبداعية، رغم أنها طبيبة. فاتحة مرشيد التي نحاورها ليست فاتحة الطبيبة المختصة بطب الأطفال، بل هي فاتحة المبدعة، الكاتبة، الشاعرة صاحبة الدواوين والرواية أيضا. الجميل في هذه الإنسانة الراقية عشقها الكبير للغة العربية واحتفاءها الذي لا يضاهى بأدب وفكر لغة الظاظ، لنتابع إذن، لنحلم، لنرتقي..
حاورها رشيد لبكر
_س: جرت العادة أن تجرى معك اللقاءات الصحفية لاستفسارك عن قضايا صحية وطبية، لكن الآن وأنت تسألين أساسا عن مسائل حميمية تتعلق بجوانب أخرى فيك. ما شعورك؟
_ج: أجريت معي حوارات في الطب وفي الأدب على حد سواء. لكنني كنت دائما أهرب من الحوارات الحميمية التي يكون الغرض منها اقتحام الشخصي والخاص، ولا أدر لما أجازف معك اليوم… أظن عليك أن تواصل بسرعة قبل أن أغير رأيي (تضحك).
_س: متى بدأ اهتمامك بعالم الأدب؟
_ج: بدأ منذ الطفولة، فأنا ترعرعت في بيت رجل تعليم، والدي رحمه الله كان أستاذا للغة العربية وأنا مدينة له بافتتاني وعشقي لها.
كان لدينا بالبيت مكتبة، وكانت المطالعة شيئا أساسيا بالنسبة لنا كالأكل والشرب. لم يكن ساعتها ما يشغلنا. لا التلفزيون ولا المكالمات الهاتفية التي لا تنقطع ولا الألعاب الإلكترونية ولا الكمبيوتر.. وحده الكتاب كان المؤنس والصديق. هكذا بدأت علاقتي بالأدب كشيء ضروري لا يمكن الاستغناء عنه.
_س: لماذا اخترت الطب عوض الأدب؟ ولماذا طب الأطفال؟
_ج: وأنا طفلة كنت أحلم بأن أكون طبيبة وحتى أثناء اللعب مع الصديقات كنت دائما ألعب دور الطبيبة التي تكشف عليهن وتعالجهن. في نفس الوقت، كان لي حلم آخر هو أن تكون لي كتب تحمل اسمي. بما أنه لا يمكن ممارسة الطب كمهنة دون دراسة، فقد دخلت كلية الطب مقتنعة في الحين ذاته بأنه بإمكاننا أن نصبح كتابا دون ولوج كلية الآداب. وكان المثال الذي اقتديت به آنذاك، هو الدكتورة نوال السعداوي. أم عن الاختصاص في طب الأطفال، فربما وجدت فيه نوعا من الثأر لطفولتي الخاصة.
_س: بعد الشعر دخلت عالم الرواية ب”لحظات لا غير” التي تصف حالة إنسانية فريدة، حياة رومانسية في عالم طغت عليه المادية، هل هي سيرة ذاتية؟
_ج: بودي أن أقول نعم إرضاء للقارئ الذي يفضل السيرة الذاتية لما تمنحه من إشباع للفضول الإنساني. الكتابة لغز نحاول سبره عبر السير الذاتية للكتاب. ولكنها ليست كذلك. وفي نفس الوقت، لا يمكن أن أنكر تسرب بعضا من ذاتي داخل الشخصيات الموجودة بالرواية ذلك لأن “الروائي يتغذى من ذاته، شأنه شأن غول الأرض..”
ومن ثم فكل رواية تحمل في طياتها سيرة ذاتية وكل سيرة ذاتية معلنة هي أكذوبة.
_س: لك طقوسك الخاصة، في حياتك وحتى في العيادة، حيث لك هذه الغرفة الخاصة التي جهزتها كفضاء حميمي أشبه ما يكون بالصالونات الأدبية بها كل سبل الإبداع والكتابة، من يلج إليها ينسى أنه داخل عيادة طبية. هل جهزتها لأنك تشعرين بحاجة دائمة إلى الكتابة؟
_ج: بل لأني أحتاج إلى فضاء خاص جدا. فضاء يشبهني، فضاء ألتقي فيه بنفسي لأتأملها وأتمل العالم من الداخل. أقضي معظم وقتي بالعيادة لذا كان من الضروري أن أجعل منها ملاذا لي كما أنها ملاذا لمرضاي.
أما الكتابة فهي تأتي بدون استئذان في أي وقت وفي أي مكان.
_س: بعيدا عن الأدب ترى ما حضور الفنون في حياتك؟
_ج: كل الفنون حاضرة في حياتي ولا أتخيل حياة بدون فنون، الموسيقى والتشكيل والسينما.. كلها تغذي كتاباتي وتثريها. الإنسان يحتاج إلى غذاء روحي ليظل إنسانا بالمعنى السامي للكلمة.
_س: هل تحبين حضور المهرجانات الموسيقية؟
_ج: أحب هذا لكنني مع الأسف لا أجد الوقت الكافي لذلك، يستهويني مهرجان الموسيقى الروحية بفاس وكذا مهرجان موسيقى كناوة بالصويرة.
_س: لو رجعت بك الأيام للوراء، هل كنت ستفكرين في المشاركة في إحدى برامج أكاديميات النجوم؟
_ج: يا ليت الشباب يعود يوما.. فأنتقم من المشيب. (تضحك)
سأسر لك بشيء: وأنا صغيرة في العاشرة من عمري، شاركت في مباراة لتجويد القرآن على صعيد مدينة الدار البيضاء وفزت بالجائزة الثانية. لا زلت أذكر كم كنت سعيدة وأنا “كرابعة العدوية” أرتدي قفطانا أبيض كتب عليه “صباح الخير” وعلى رأسي شال أبيض ووالدي وجدي، رحمهما الله، فخوران بي.
_س: لديك صوت جميل إذن؟
-ج: ربما…
-س: إلى من تستمعين ولماذا؟
_ج: أستمع إلى كل ما هو فن أصيل، أميل كثيرا إلى الطرب الكلاسيكي: أم كلثوم، محمد عبد الوهاب.. وغيرهما، وكذا الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى الجاز.
عندما أكون أشتغل، أحب سماع معزوفات موسيقية صامتة على آلة العود أو آلة القانون أو الكمان مثلا.
_س: هل أنت متزوجة؟ كيف تسهرين على إدارة البيت؟
_ج: أنا متزوجة “جدا” (تضحك)، يعني منذ خمسة وعشرين سنة وعندي “لمياء” و”سليم”. أما عن إدارة البيت فأنا أعتبر نفسي محظوظة جدا إذ تساعدني إنسانة رائعة: “مليكة”، مربية طفلي، هي بالنسبة لي الأم والأخت والصديقة، لولاها لما استطعت أن أقوم بعملي على أحسن حال ولا أن أكتب.
-س: هل تزوجت عن حب؟ كيف كان لقاؤك الأول؟
-ج: أجل تزوجت عن حب وكان لقائي الأول مدهشا في روعته ككل البدايات، أضن أن هذا الجواب يكفي.
_س: هل تحبين الطبخ وأي طبق تتقنين؟
_ج: أنا طباخة ماهرة لكن متقاعدة، أدخل المطبخ خلال العطل وعندما أستقبل الضيوف فقط. ففي مطبخ الكتابة أجد نفسي أكثر.
_س: متى يكون ضيفك مزعجا بالنسبة إليك؟
_ج: لا أنزعج من أي ضيف فهو عابر مهما أقام.
_س: هل أنت ليلوية الطباع؟
_ج: لا، أنا أنام باكرا وأستيقظ باكرا كذلك. أظن أنها ساعتي البيولوجية التي تفرض علي هذا، لكنني ككل الشعراء أحب الليل.
_س: لو خيرت بين الطب والإبداع. ما كنت تختارين؟
_ج: لا تناقض بينهما ولا مفاضلة، لكن سيأتي يوم، وأخاله قريبا، أتقاعد فيه عن الطب، ساعتها سوف أتفرغ للإبداع.
_س: لو عرض عليك الاستوزار، أي حقيبة كنت ستفضلين؟
_ج: كنت سأفضل حقيبة يدي (تضحك)، لأنه لا إبداع بدون حرية: حرية الرأي، حرية التعبير، وحرية الحركة كذلك.
_س: لو عرض عليك إلقاء كلمة بمجلس الأمن كي يسمعها العالم بأكمله، ما هي الرسالة التي ستحرصين على تمريرها؟
_ج: رسالة حب وسلام.
_س: لكل شاعر ارتباط بالمكان، ترى ما هو مكانك المفضل؟
_ج: الإنسان هو الذي ينفخ في المكان من نفسه بحيث لا يهم أين ولكن مع من؟ ومع ذلك لا أظنني قادرة على الاستغناء عن البحر، جوار البحر هو مكاني المفضل.
_س: لباسك المفضل؟
_ج: هو اللباس “اللى إيواتيني”
_س: هل أنت عاشقة للدار البيضاء؟
_ج: أحب الدار البيضاء لما تتيحه من تناقضات تغذي الكتابة، هي مدينة حية، مشاغبة، كريمة، رحبة، ودود وعنيفة كالمحيط الذي يعانقها. كما أحب سحر مدينة مراكش وكل الشعر المنبثق عنها.
_س: أي رياضة تفضلين؟
_ج: رياضة الحالمين: المشي على الشاطئ.
_س: هل للأناقة والجمال حضور في حياتك؟
_ج: بالتأكيد، ولا أعني هنا الجمال بمفهومه الضيق، لكن الجمال كقيمة سامية، الجمال الذي يهذب النفس و يسمو بالروح.
_س: كم من مرة تزورين الكوافير؟
_ج: حسب مزاجي، قد تكون مرة في الأسبوع وقد تكون مرتين وقد أقاطعه لأسابيع.
_س: هل تحرصين على اقتناء ملابسك من محلات صولد أم تفضلين الماركات المسجلة مهما غلا ثمنها؟
_ج: لا قيمة للماركات المسجلة عندي ولا أقيس الأناقة بالثمن. فالأناقة مرتبطة بالذوق لا بالإمكانيات المادية.
_س: هل سبق لشرطي المرور أن أوقفك؟ كيف تعاملت معه؟
_ج: أوقفني مرة شرطي المرور وأنا أتكلم في الهاتف المحمول، وكنت ساعتها أشرف على إعداد وتقديم البرنامج الصحي بالقناة الثانية. تعرف علي كوجه تلفزيوني وقال لي بكل أدب ” أنت كتعطينا النصائح الصحية المفيدة ونشكرك على ذلك، لكن اسمحي لي نقدم ليك نصيحة بدوري: تفادي الكلام في الهاتف المحمول أثناء السياقة أنه خطر عليك ويمكنك الانصراف”. كان درسا لم ولن أنساه أبدا.
_س: آخر مرة تشاجرت فيها؟
_ج: لا أذكر، لأنني بكل صراحة مسالمة إلى أبعد حد ولا أتشاجر مع أحد.
_س: ما رأيك بسرعة في:
* الصحافة النسائية: طفلة تتعلم المشي.
* مدونة الأسرة: حققت قفزة نوعية ولازلنا في انتظار قفزات أخرى.
* الطفولة: الدهشة الأولى والوجع الأول الذي لا نشفى منه أبدا.
* الطبيعة: تقربنا من أنفسنا ولو تأملناها لتعلمنا منها الكثير.
* البحر: هو الصديق الذي لا يمل من ثرثرتي كل صباح.
* الحداثة: مصطلح لفرط ما نستعمله أفرغناه من محتواه.
* الحب: ملح الحياة.
* الطب: سلاح دو حدين.
* الماضي: كلما تخطيناه وجدناه أمامنا.
* البيت: قد يكون حضنا دافئا وقد يكون منفى.
* التلفزة: صندوق العجب ومن العجب ما خرّب.
* الزمن: وحش نركض خلفه عمرا ولا نمسك به.
* الآخر: يقول سارتر ” الجحيم هو الآخر” وأقول “والجنة كذلك”، إذ ما قيمة جنة بدون آخر؟
* النجاح: أن تكون أقرب من جوهر ذاتك.
* المال: جعله الله في أيدينا وليس في قلوبنا.
* الأمومة: قالت سيمون دي بوفوار: “الأمومة استعباد” وأقول أنها تجعلك سعيدا بعبوديتك.
* أكره صفة لديك: البخل وخاصة بخل العواطف.
* أحب صفة لديك: الشهامة ولا شهامة دون كرم العواطف.
* أي مهنة من غير الطب وددت لم تمارسين: التعليم.
* شخصية تحلمين بلقائها والحديث معها: والدي رحمه الله.
_س: سؤال وددت لو طرحته لكني لم أفعل؟
_ج: “كيف حالك؟” لكنك حسنا فعلت إذ يتطلب الجواب حوارا آخر.
نساء من المغرب، العدد 83، يونيو 2007