فاتحة مرشيد: غمامة تمطر شعرا
نحن في مجتمع الاستهلاك لم نعد نعرف كيف نحب.
أصبحنا نستهلك الحب كسلعة لها مدة صلاحية محدودة
الرواية تطرح قدرة الحب الخارقة على الترميم واستعادة الحياة
أحب مغامرة القراءة لأن في القراءة كما في الكتابة
مغامرة جميلة لمن يبحث عن الدهشة.
تعتبر الروائية والشاعرة المغربية فاتحة مرشيد من أبرز الأصوات المبدعة والحاضرة بقوة في المشهد الإبداعي المغربي، فهي تجمع بين كتابة الشعر والرواية في آن واحد، صدر لها: “إيماءات”، “ورق عاشق”، “تعال نمطر”، “أي سواد تخفي يا قوس قزح”، “حروف وألوان”، “لحظات لا غير”، “آخر الطريق أوله”، وهو آخر عمل شعري يصدر لهذه المبدعة الرقيقة والمتألقة عن المركز الثقافي العربي – الدرالبيضاء – بيروت.
كبار النقاد والدارسين العرب والمغاربة تناولوا أعمالها باحترام واستحسان، وترجمت أعمال فاتحة مرشيد إلى الفرنسية، والانجليزية، والاسبانية، والايطالية، والتركية، والدانماركية، كما ألقت شعرها في عدد من الدول: تونس، مصر، الجزائر، البحرين، فرنسا، الدانمارك، سويسرا…
انتظرنا الشاعرة والروائية والطبيبة الرقيقة فاتحة مرشيد إلى حين عودتها من مهرجان المتنبي الشعري العالمي الذي ينظم سنويا في سويسرا لتخص ” الإتحاد الثقافي” بهذا الحوار
حوار- محمد نجيم:
س- روايتك الأخيرة لحظات لا غير يغلب عليها الطابع الرومانسي الميلودرامي فهل نحتاج اليوم إلى نظير هذه الروايات في زمن العولمة والإنترنيت.
وطغيان الماديات على كل ما هو اخلاقي ومثالي؟
ج- العولمة لا تلغي الرومانسية أو الحب بل هي أكبر دليل على حاجة الإنسان الأزلية للتواصل مع الآخر، هذا الآخر الذي تعددت جنسياته ولغاته وأصبح عبر شاشة صغيرة يعبر القارات وعبرها يعشق. لكن إن كانت الانترنيت تسمح بتواصل مكثف من ناحية الكم فهو تواصل نسبي وسطحي لا يحقق الإشباع الروحي والوجداني للعلاقة الإنسانية. وننسى أنه ليس إلا وسيلة قد تمنح سرعة التواصل عبر البريد الالكتروني عبر الهاتف، وقد تنقل الصورة لكنها لن تنقل دفء لمسة يد، ولا رائحة الحبيب، ولا لوعة الشوق في عيون الحبيبة.
هل نحتاج اليوم إلى الرومانسية؟ بالتأكيد. وأعني هنا بالرومانسية: فن الحب، نحن في مجتمع الاستهلاك لم نعد نعرف كيف نحب. أصبحنا نستهلك الحب كسلعة لها مدة صلاحية محدودة، قابلة للتغيير وفق ما تفرضه الموضة. لم نعد نعرف كيف ننظر إلى الآخر، كيف نستمع إليه بجوارحنا وقلوبنا قبل عقولنا.
وأكبر دليل على أن الحاجة إلى الحب الحقيقي أصبحت ماسة هو ارتفاع عدد الإصابات بالاكتئاب، هو هذا الإحساس بالوحدة القاتلة..
– س: في روايتك “لحظات لا غير” تتحدثين عن علاقة حب بين طبيبة نفسانية بمريضها الشاعر، ألا تعتبرين بأنك كشفت أو تحدثت على بعض من المسكوت عنه في العالم ؟
– ج: قد تكون هذه العلاقة من النوع المسكوت عنه ، لكن هذا لا يمنع وجودها على أرضية الواقع. وكونها ممنوعة من طرف أخلاقيات المهنة يؤكد وجودها. المريض النفسي يسقط غالبا في حب معالجه لأسباب لا داعي لذكرها هنا وهذه حالة معروفة من طرف المختصين الذين يعملون على ضبطها. لكن الطبيب أو المحلل النفسي يبقى في نهاية المطاف إنسانا ككل البشر، له قلب وأحاسيس ومعاش خاص ومعانات خاصة، وتكوينه العلمي لا يحصنه من السقوط في الحب وهذا ما حاولت التطرق إليه في الرواية.
– س: من خلال هذه العلاقة تكتشف الطبية النفسانية ذاتها هل يستطيع المريض الذي حاول الانتحار أن “يعالج” هموم طبيبة نفسانية تعاني من الوحدة رغم مكانتها الاجتماعية ؟
– ج: في كل علاقة إنسانية بين اثنين هناك أخد ورد فأنت عندما تعطي فإنما تأخذ من الآخر في غفلة منه.. وقد يمنحك إنسان عادي أو مريض نفسي مفاتيح ذاتك. كلنا معرضين لحالات الإحباط والاكتئاب والأمراض النفسية، تماما كما نحن معرضين للإصابة بأمراض عضوية. لا أحد محصن ولا الأطباء أنفسهم بل أبعد من هذا قد يكون الأطباء أكثر عرضة من غيرهم والدليل على ذلك نسبة حالات الانتحار التي تسجل في صفوف الأطباء وعلى رأسهم الأطباء النفسانيين. وهذا يؤكد مرة أخرى خطأ الاعتقاد السائد بأن الطبيب النفسي إنسان صلب كالصخر يعرف كل عقده ويعالجها. لأن معرفة الأشياء من الناحية النظرية لا يعني تجاوزها من الناحية العاطفية والنفسية، ولهذا يخضع المحللون النفسانيون أنفسهم للتحليل النفسي قبل وخلال مزاولتهم لمهنتهم. الطبيب النفساني من خلال سبره لأغوار النفس البشرية قد يكتشف ذاته فهو يعطي ويأخذ فنحن على العموم نتعرف على ذواتنا في مرآة الآخرين ومن خلالهم ومن هنا جاء السؤال المطروح في الرواية “من يحلل من؟”. فما بالك إذا كانت هذه العلاقة تنمو في أحضان الحب. الطبيبة هنا وهي تنصت لحكاية المريض تستعيد حكايتها الخاصة. الحب هو الذي سيصالحهما مع ذاتيهما ومع العالم. الرواية تطرح قدرة الحب الخارقة على الترميم واستعادة الحياة.
– س: يختلط في نصك الإبداعي الشعر مع النثر مع توظيف نصوص كتاب وشعراء عرب وغرب فلماذا التجأت إلى كل ذلك؟
– ج: لأن الرواية كجنس أدبي تسمح بكل هذه المغامرة وهذا الثراء..فهي تستوعب كل أنواع الكتابة وأشكالها، تمنحنا فضاء أوسع للتعبير، وهامشا أرحب يجعلنا نفرغ أغوارنا بأكملها. تمكننا من التحليق عاليا وبدون شروط أو قيود.
أنا لم أخطط مسبقا لتوظيف هذه الأشكال تركتها تأتي بتلقائية فالشخصيات هي التي فرضتها. فكون الشخصية الرئيسية شاعر جعلت الشعر يتواجد بقوة وكونه كذلك أستاذ للفلسفة جعلت البعد الفلسفي حاضرا في خطابه وفي رسائله إلى حبيبته. وكون الشخصية الساردة طبيبة نفسانية جعلت التحليل النفسي وعلاقة الإنسان بالمرض والموت من التيمات الأساسية. قد يخلق الروائي الشخصيات لكنها سرعان ما تستقل بذاتها وتفرض شروط اللعبة.
– س: في رأيك ما سبب رحيل العديد من الشعراء إلى قارة الرواية بصفة عامة؟ هل توفر الرواية ما لا توفره الكتابة الشعرية من طاقة إبداعية؟
– ج: الشعراء لم يكتبوا في الرواية فقط بل كتبوا في القصة والمسرح وكتبوا للسينما ومنهم من يبدع في مجال التشكيل أو النحث وغيرهما. أن تكون شاعرا يعني أن تكون قادرا على استشفاف مكامن الجمال والتعبير عنها وهذا التعبير قد يأخذ أشكالا متعددة لأن الموضوع هو الذي يفرض الصيغة التي يخرج بها إلى المتلقي. لهذا أنا لا أعتقد أننا نمر من صيغة إلى أخرى بمحض اختيارنا. أنا مثلا كنت أعتقد دائما أنني غير مؤهلة بحكم ميلي للتركيز لكتابة الرواية لكنها جاءت وفرضت نفسها كما جاء الشعر قبلها دون استئذان ولا أستبعد بعد هذا أن أكتب في القصة القصيرة أو غيرها.
أما عن ما توفره الرواية ولا يوفره الشعر فأنا لا أحب المفاضلة أو المقارنة بين أشكال التعبير. أشكال الإبداع كلها توفر للنفس البشرية الرقي والسمو. وحده الإنسان من كل الحيوانات قادر على الإبداع على الخلق.. على تجسيد الأحلام في كلمات أو ألوان أو صور أو غيرها.
ليس مهما الجدل حول “أزمة الشعر” أو “زمن الرواية” أو.. المهم هو النهوض بكل أشكال التعبير الإنساني.. تحريرها من كل رقابة أو حصار إيديولوجي.
كل عناصر الإبداع نحتاجها في حياتنا كلها تنتج شعرا بأشكال مختلفة.
– س: أنت شاعرة وروائية في نفس الوقت أين تجدين ذاتك هل في الشعر أم في الرواية؟
– ج: أنا شاعرة في الشعر وشاعرة في الرواية وشاعرة في الحياة وشاعرة أثناء ممارستي لمهنة طب الأطفال. أنا عصفور يحلق بين أغصان متعددة لنفس الشجرة وبين أشجار متعددة لنفس الغابة ولو رحل إلى غابات أخرى.. إلى عوالم أخرى فهو نفس العصفور بنفس المميزات، نفس الخصائص ونفس الجوهر.
– س: هل ترجمت أعمالك الروائية والشعرية إلى بعض اللغات العالمية؟
– ج: أجل ترجم ديوانا “ورق عاشق” و”أي سواد تخفي يا قوس قزح” إلى الفرنسية وترجم “ورق عاشق” إلى الايطالية وترجم ديوان “تعال نمطر” إلى التركية كما ترجمت عدة قصائد من ديوان “إيماءات” إلى الإنجليزية وهناك مختارات ستصدر بالألمانية وهناك قصائد ترجمت إلى الدنماركية وأخرى إلى الإسبانية. والبقية تأتي. أنا مع هذه الخيانة الجميلة التي تسمى ترجمة. نحن نغتني من تجارب الآخرين والعكس صحيح والترجمة تمكن من التواصل بين الثقافات من التلاقح من ضخ دماء جديدة.
– س: لمن تقرأين من شعراء وشاعرت المشرق العربي ؟
– ج: أنا أقرأ لشعراء وشاعرات الشرق والغرب على السواء وأقرأ الرواية أكثر من الشعر.
أقرأ بنهم باللغتين العربية والفرنسية وبدأت مؤخرا أتعاطي القراءة بالإنجليزية.
كل التجارب الإبداعية تجارب إنسانية تستحق أن تحترم تستحق الوقوف عندها تستحق منا الانتباه. وأنا أحب كثيرا أن أفاجأ بأقلام غير معروفة أحب الاكتشاف. ربما كوني لم أتلقى تكوينا منهجيا أو أكاديميا في الآداب هو الذي جعلني متفتحة على كل المدارس دون أن أنتمي إلا أي واحدة بالخصوص. جعلني أحب مغامرة القراءة لأن في القراءة كما في الكتابة مغامرة جميلة لمن يبحث عن الدهشة.
جريدة الاتحاد الإماراتية- الاتحاد الثقافي- العدد 39- الخميس 17 يوليو 2008
www.sha3erjordan.net