غرق في ملوحة الآخر
محمد العشري
ديوان “تــعــــــال نُـــمــطــــر” لفاتـحة مـرشيـد
“إلى الذي لا يحلو المطر دونه”، تهدي الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد مجموعتها الشعرية الجديدة “تعال نمطر”، الصادرة حديثاً لدى “دار شرقيات” للنشر في القاهرة. تبث الشاعرة تجربتها الشعرية في ثلاث رخّات متتابعة، مكتسبةً صوت نزول المطر فتقسم قصائد المجموعة ثلاثة أقسام: “تعال نمطر”، “علّمني الليل”، و”أشياء للغياب”. هي بهذا التقسيم تحاول أن ترصد ذاتها الشعرية في مراحل شعورية متعاقبة، يؤدي بعضها إلى البعض، وتصب ماءها من إناء الى آخر. تبدأ بالبحث عن مفردات دالة، تمنحها توهجاً موازياً لفعل الشعر: “أبحث/ بين شفتيك/ عن قصيدة/ تشبهني”، رغبةً في أن تتحقق بفعل العشق، ومراودته، على رغم اختلاف المنهج، وتعدد السبيل في الوصول إلى ذلك التحقق: “تريدُني أخرى/ أريد رجلا/ يعيدني إليّ”.
تدلل القصيدة على أن لا اكتمال بالآخر وحده، فهو يأتي أولاً من الذات الفردية، المجرّبة فعل الحياة: “وستسألني/ أن أقامر ببعضي/ كي أربحني”. هذه المراوحة بين الذات المختبئة وراء حواسها، وذات الآخر الساعية إلى فض تلك العزلة، تخلق ذاتاً ثالثة، صوتها أعلى، تعلن موقفها بوضوح من التشظي: “ما ضرّني/ أن تبخل بمائك/ وحدها النار تعنيني”.
يتبادر الى القارئ أن هناك أموراً لا تدركها الذات الشاعرة، في بحثها الدؤوب عن كيانها الخاص، وروحها المستلبة في مدارات العشق الوهمية، ودورانها المستمر حول مركز أو آخر لا يراها بالقدر الكافي من العناية اللائقة. ربما لأنها تحت تأثير توهج عاطفي، ورغبة في الإمتلاء بالآخر في الزخة الأولى من القصائد. وهذا ما بدا في مجموعة القصائد التي تحمل عنوان “علّمني الليل”، حيث تبدأ الشاعرة تتلمس ذاتها بدوافع أقل في التوحد بالآخر، ورغبة أكثر في الوقوف على ألمها، وما يعنيها من تجربتها: “علّمني الليل…/ كي أرتدي وجعي/ بأناقة/ وأخمد بكعبي العالي/ آخر أنفاس الخريف”.
وهي في وصولها إلى ذلك الوتر الرهيف في ملامسة ذاتها، لا تلبث أن تدرك مدى وحدتها، وضياعها بدونها: “ضعني في قفصك الصغير/ قرب السرير/ منبهاً/ أغزل تجاعيد الوقت/ النابض بجفونك”. هنا يدرك القارئ أنه أمام تجربة ثرية، متخمة بالعشق، تفيض من حوافها أمواج دافئة: “هذا العشق/ أكبر/ من أن تحمله/ أوراقي”. وتمضي تلك الذات المتخمة بالعشق في قصائد عديدة تالية في غيّها، لتتخلص من أوهامها رغبة في الوصول إلى يقين ما يريحها، ويهيئها بما تبقّى فيها للهباء: “سأشرب نخب العاصفة/ علّني/ أقضي نحبي/ بجرعة حبّ/ زائدة”. وهذا ما تصبو إليه تلك الذات في توهجها: “تمتصك شفة/ تضاعف حجمها/ خوفاً من قبلاتك”.
وحين تكتمل التجربة، وتلتصق الذات بالآخر، تبدأ في تقصي ما تساقط منها، وما لم تنتبه اليه في سعيها المحموم نحو الاكتمال بالآخر. وهنا الزخة الثالثة والأخيرة في المجموعة، حيث ترسم مرشيد لوحة كونية، تغمرها بألوانها، وهديرها الصاخب: “بحر/ يعانق/ المطر/ خلف نافذتي”. وعلى رغم السوريالية العالية التي تشكل تلك الموجة، وتكسبها فانتازيا تخفف من وطء الشجن، فإنها تصطحب القارئ من وراء النافذة، وتفتح له شغاف روحها العاشقة، ليكتشف مع كل نقطة مطر أشياءها الغائبة، وليصل مع الذات الشاعرة في النهاية إلى سؤالها الذاتي: “كل بداية قصيدة/ وكل نهاية/ احتمال بداية/ فلم تبكيني النهايات؟”. هنا تسقط دمعة ساخنة على الوجه، تُغرق في سخونتها أشرعة الروح الشاردة، كما يسقط المطر في متاهة البحر، ويذوب في ملوحة الحياة.
..
النهار اللبنانية
17 مارس 2008
..