في أحد الأيام، سيطلب منها د. السجلماسي تعويضه في لقاء بالقناة الثانية لتقديم كتابه “دليل الأبوين” الذي صدر سنة 1993 وترجمه محمد الصغير جنجار إلى العربية، وقامت بمراجعة الجانب الطبي فيه، فوافقت، ليأخذها هذا اللقاء – الذي تم خلاله اقتراح إجراء كاستينغ لها لأن القناة كانت تحضر لبرنامج طبي – إلى أضواء التلفزيون واستوديوهات التصوير.
لحظتها ستتصل بها هيئة الأطباء لجهة الدار البيضاء، ليس بسبب تقصير في أداء مهمتها بل لكونها تنتمي للقطاع العام ولا يحق لها التعامل مع قنوات إعلامية بالتلفزة أوالراديو، وهو شيء يقتصر على أطباء القطاع الخاص. الأمر الذي دفعها إلى تقديم استقالتها مقتنعة بأن ما تقوم به لا يمس بأخلاقيات المهنة بل إن عملها التوعوي الإعلامي يدخل في باب رسالتها الإنسانية، هي التي تؤمن بأن “دور الطبيب لا يقتصر على التطبيب فقط ولكن على الوقاية كذلك، وهي تمر أساسا عبر التوعية الصحية للمواطنين”.
في هذه الفترة، اشتد المرض على الدكتور السجلماسي. وهو في غرفة الإنعاش طلب لقاءها، ليقترح عليها توقيع وثيقة أعدها لتتسلم العيادة مكانه. رفضت فاتحة الأمر واعدة إياه بأنها ستفعل ما يرضيه بعد عودته معافى من باريس.
عاش بعد هذه الواقعة عشر سنوات، وكتب خلالها أزيد من عشرة كتب، لكن حالته الصحية منعته من الاشتغال بالعيادة تجنبا للعدوى.
هكذا استلمت فاتحة عيادة الدكتور السجلماسي الذي لاتزال ملاذها الروحي إلى الآن.
في سنتها الأولى بالقطاع الخاص(1998)، اقترح عليها مدير دار الإنتاج كوروم، السيد سيف مستاري برنامجا أسبوعيا حول التربية الصحية بالقناة الثانية، لتكون بداية تجربة ثرية دامت عدة سنوات وكان ثمرتها كتاب “الإسعافات الأولية للطفل” الذي أصدرته فاتحة سنة 2005.
*عيادة تحرسها الجنيات
منذ أن وطأت قدماها العيادة، أحست بشئ غريب يشدها إلى هذا الفضاء المثقل بفوضى الحواس. كل قطعة منها تشف منها قصة وحكاية. كل ركن يتكئ على ذاكرة.
قضى د.السجلماسي بالعيادة 30 سنة، لم تغير فاتحة من معالمها كثيرا. بل لا تزال تحتفظ ببعض اللوحات التي تركها ناطقة على الجدران. غرفة التحميض التي كانت مخصصة لاستخراج الصور التي كان يتقنها بعناية الجرّاح والقناص معا. مساعدته مونيك وعاملة النظافة “مي فاطمة”. كانت العيادة تسير وفق ناموس الدكتور الذي تسكن روحه المكان وتعتبره فاتحه أباها الروحي الذي وهبها متعة السكون إلى النفس ومحاورتها ومجاورتها.
عندما غادر العيادة ترك كل شيء، ربما كان يحافظ للأشياء على دفء أمكنتها الأولى، في قيمة نادرة للوفاء ، وفاء بادلته فاتحة بحب كبير هي التي حافظت على يافطة اسمه الى جانب اسمها بباب العيادة وبمدخل العمارة.
تقول فاتحة عن لحظاته الأخيرة بالعيادة: “لم يحتفظ من عيادته التي شغلها زهاء ثلاثين سنة إلا بفردة حذاء لرضيع ضاعت منه ذات كشف. يضعها في مكتبه بالبيت، كوسام تقديري على كل العطاءات التي غمر بها الأطفال المغاربة الذين أصبحوا آباء وأمهات ومازالوا يترددون على العيادة بكل وفاء يسألونني عن صحته”.
استمرت العلاقة الأبوية الروحية بينهما إلى أن توفي يوم 18 أكتوبر 2007، لكن روحه ظلت تسكن المكان والذاكرة والقلب، إذ كلما نطقت اسمه لمعت عيناها بفرح الحنين والفخر.
ذات لقاء بالكاتب المغربي إدمون عمران المالح، وبينما كانا يتحدثان عن مسارها الابداعي وعن الصدف الجميلة التي كانت تقود قلبها قبل قدميها إلى هذا الضوء الذي اسمه الكتابة، أخبرها إدمون عمران المالح أن تلك العيادة التي اشتغل بها السجلماسي 30 سنة، كانت من قبل لفنان فوتوغرافي يهودي كبير وطبيب أطفال في نفس الوقت اسمه “كلود سيتبون” لاتزال أعماله الفوتوغرافية معروضة بالمتحف اليهودي بالدار البيضاء.
أدركت فاتحة لحظتها أن القدر لم يكن أحمق الخطى، وأنها اختارت الفضاء الأنسب لممارسة جنونها العاقل، عيادة تحرسها جِينات وجنِيّات الخلق.
الحلقة 16: “أطباء بصموا المسار الطبي لفاتحة مرشيد/ الدكتور محمد السجلماسي: عيادة تحرسها الجنيات وفردة حذاء”، الاتحاد الاشتراكي، الخميس 18 يوليوز 2019، العدد 90122.