0%
Still working...

عودة الشاعرة فاتحة مرشيد إلى كنف الشعر

عودة الشاعرة فاتحة مرشيد إلى كنف الشعر

عبد اللطيف اليوسفي

بصدور ديوانها الجديد (انزع عني الخطى) تكون المبدعة المغربية فاتحة مرشد قد عادت إلى بيت الشعر وحياضه بعد انغماسها لزمن في ملذات الرواية وطقوس القصة القصيرة. وبهذه العودة تكون صاحبة جائزة المغرب للشعر سنة 2010 عن ديوانها (ما لم يقل بيننا) قد سجلت وفاءها لشيطان الشعر وجاذبيته الإبداعية.

1- على سبيل التقديم :

يقع ديوان ( انزع عني الخطى) الصادر عن دار توبقال في 104 صفحة من الحجم المتوسط. ويضم أربع مجموعات شعرية. اختارت لكل منها عنوانا موحيا في انفلاته من المعاني المباشرة. بحيث لا يسلمك العنوان مفتاح النصوص المنضوية تحت لوائه، فيجبرك على القراءة ليتم الاكتشاف. وليتم التذكير بالمعاني والصور والإحالات الشعرية التي نجدها في مختلف دواوين هذه الشاعرة.

تقدم الشاعرة لكل عنوان من العناوين الأربعة ببيت/قول شعري لفريدريتش نيتشه. وهو اختيار يطرح على القارئ ألف سؤال مرتبط بسر الإحالة على فلسفة نيتشه ورؤيته للعالم. فهل تقصد بهذا الاختيار إحالتنا على عمق المواقف الإنسانية التي تلتقي فيها إيحاءات النصوص الشعرية في هذا الديوان مع نيتشه ونظرته للحياة؟ أم أن ذلك يشكل مقبلا لوجبة مغايرة في كل موجة من الموجات الأربع المكونة للديوان؟.

الموجة الأولى:  عنوانها ( انزع عني الخطى) يتقدمها قول نيتشه :

“أيتها الأيام الوحيدة / عليك أن تتقدمي خُطوة أكثر جرأة / ويا أيتها الأخرى / لا أراك ثقيلة إلا ..

حين أراني على ذاتي / أثقل !”

وهنا يتضح تواطؤ قول نيتشه مع العنوان المختار (انزع عني الخطى) بالتبئير المقصود على الخطو والتقدم وثقل الخطوة وثقل الزمن. وهو من المعاني المضطردة في كثير من دواوين هذه الشاعرة ومن أمثلته ما نجده في قولها في ديوان (ما لم يقل بيننا)، “كلما خطونا / خطوة إلى الخلف / سبقت حتفي إليك” فالتركيز على الخطوة والخطوات والخطى في كثير من النصوص يدل على حركية مادية أو معنوية لا يكتشفها القارئ إلا من خلال سباحته حد الغرق في المعاني المتوالدة باستمرار من مثل قولها : “تطربني / ترنيمة خطواتك / حافية / تطأ مسالك الروح”.

الموجة الثانية : (لن أموت مرتين)

يتقدمها قول نيتشه “أنظر أمامك / إلى الخلف لا تنظر / من شدة التوق إلى العميق / تهوى الأشياء إلى الأعمق”

فالموت سيرا إلى الأمام لا يتيح أبدا النظر إلى الماضي فهو عمق العمق ومنتهى النهاية. والنهاية نفسها هي نهاية التوق إلى الأعمق. وما بعد الموت من قرار أعمق ولا أبعد. ولذلك فالموت لا يتكرر مرتين وعليه يصدق العنوان. وبالتالي لن نموت مرتين. ومحاورة الموت من المعاني التي نجدها تتكرر عند الشاعرة في دواوينها المختلفة تحاور من خلالها الموت من مختلف الزوايا سواء وهي ترثي أو وهي تعبر عن الفرح، إذ نجدها في ديوان (ما لم يُقل بيننا) تقول : “تعلم كي تحب أن تحتضر قليلا” والاحتضار مدخل الموت. ولا ندري إن كان الموت هنا يعني العدم والنهاية أم أنه بداية البدايات أو ليست هي من قال في ديوانها تعال نمطر “أموت هذا / الذي يلبسني / أم ولادة؟”.

الموجة الثالثة : (عطلة حب)

يتقدمها قول نيتشه “هل جمد فتوره ذاكرتي؟ / هل شعرت إطلاقا بهذا القلب / من أجلي يدق، وبي يحترق؟”

تتقاطع أسئلة نيتشه عن علاقة الفتور وجمود الذاكرة والشعور بقلب الآخر يدق ويُغنِّي حد الاحتراق مع توليفة العنوان بين العطلة والحب وهل للحب عطلة؟ فحين يتعطل الحب عن الانفعال إنما يكون في حالة كمون وانتظار فلا  يلبث  أن ينتفض مع المؤثرات. وإلا فكيف يُسمى حبا؟ خاصة وأن القلب مازال يدق به حد الاحتراق على حد قول نيتشه وعلى حد قول الشاعرة في ديوانها (تعال نمطر)، “سأشرب نخب العاصفة / علني أقضي نحبي / بجرعة حب زائدة”.

الموجة الرابعة : (هلوسات الماء) وهي المجموعة الكبرى التي تحتل نصف الديوان، يتقدمها قول نيتشه “حيث كان الخطر أشعر أنني في مائي / هناك أكبُرُ / هناك خارج الأرض أنمو”.

تحيل الهلوسات على الخروج عن سكة القول المضبوط المحكم، الخروج عن الخطوط المستقيمة للسكة حيث الخطر الذي وحده يجعل نيتشه في مائه، في توازنه،. إنه لا يكبر إلا في الخطر وخارج المألوف ينمو. فتصبح الهلوسات طبيعية وهي التي لا قانون لها وخاصة وقد مزجتها الشاعرة بالماء حيث يتماهى الخطر بالغرق وبالتيه فيستقيم النمو المراد.

هذه إذن مقاطع الديوان ومكوناته التي تحتاج إلى تأمل أعمق ومقارنات أدق لسبر أغوار هذا الديوان وتقييم وضعه الإبداعي في تجربة هذه الشاعرة.

 2 – على سبيل التأمل والقراءة :

 يقدم لنا ديوان (انزع عني الخطى) تجربة إنسانية حبلى بفيض من المشاعر المتفاعلة في تناقضات  صاخبة بين الفرح والحزن، بين الدفء والوحدة، بين الارتياح والقلق مشاعر سكبت في أطباق لغوية  أخاذة تدل على أن الشاعرة تمتلك أدواتها التعبيرية وتتحكم في توظيفها لخدمة التعبير الأنيق عن لواعج متناقضة ومواقف تنحو نحو الغموض أكثر من الوضوح مما يرغم القارئ على التأمل والتحليل والتفكيك والتأويل . ففي مجموع قصائد ومقاطع هذا الديوان نجد أنفسنا أمام حوار الضمائر بين الأنا والأنا الآخر تارة، وبين الأنا والأنت تارة أخرى. من مثل قولها 🙁 بيني وبيني /سوء فهم/ وسوء حب /وبعض ولاء / لطفلة /ما زالت تمارس الوقوف /كي تبهرك ). وهكذا تبدو الشاعرة في حوار لجوج مع نفسها تحترق في أسئلة الذات وأسئلة المشاعر المتضاربة والتائهة في اللا استقرار. فوجع السؤال عن الذات وحقيقة مشاعرها وتضاربها وانفعالاتها تتقوى من مقطع إلى آخر ومن موجة إلى أخرى. ولا تصل إلى نهاية. بل لا يكاد يستقر بحوارها الدائم مع الذات والآخر  القرار في موقف حتى يعود إلى نقطة البدء. وكأن استقرار الذات وتوازنها لا يتم إلا عبر التيه وقلق  السؤال :  كيف  ألفظك /خارج مداراتي /وأنت قطبها ؟) وقولها : (أنا الحالمة /بالمعجزات /قد تفاجأ يوما /بحقيقتها ).

كل ذلك، رغم صدق البوح الذي غالبا ما  يتسرب في غفلة من القلق وهروب منه .في قولها “لا يزال سوارك / بمعصمي / يحاصر نبضي / كيلا يتيه / عن إيقاعك”. وما اختيارات الشاعرة لنيتشه نفسه إلا بعض من هذا الاختيار الغارق في التيه. حيث إن نيتشه نفسه لا يكبر إلا في مدارج الخطر وخارج نواميس الأرض فهو القائل : (حيث كان الخطر أشعر أنني في مائي / هناك أكبُرُ). وإذا كانت اختيارات الشاعرة لمقاطع معينة ومحددة من أقوال نيتشه تسهم في التيه لدى القارئ وتجعله غارقا في أسئلته الجميلة، فإن ذلك إنما يؤكد لدى الشاعرة هذا النهج الزئبقي في الموقف من الذات ومن الآخر في العديد من أبياتها حيث تقول : “دع الشمس تنطفئ / ولنمسك بالعتمة / إنها ظلنا الأوفى / قد أستغني عن الفرح / أما الحزن / فعماد الأعماق السرية”.

وهكذا نجد الشاعرة تتكئ على عصاها اللغوية السحرية لتدخل قارئها في صور شعرية أخاذة. وهي تعبر في العمق-بلغتها الجميلة الزئبقية المنفلتة من الوصف البارد أو التقرير المباشر – عن هذا التيه الكبير تقول “أتعثر بك / كما تتعثر سمكة / بتجاعيد الماء” فالقاموس اللغوي هنا ينهل من مجالات البحر الذي ظلت الشاعرة في كافة دواوينها تقريبا تشير إليه وتمزجه بالرفقة حين الوحدة كما تمزجه بفضاء الارتواء والراحة والانسياب والبوح للطبيعة، وهي القائلة : “وحده البحر يليق بتوتري”.

وهكذا نجد في كل إشارات الديوان الإبداعية الجميلة ارتدادات زلزالية في تعبيرات الشاعرة شكلا ومضمونا هي ما يحفظ في النهاية توازنا غير مقصود وروعة شعرية تشعر القارئ باللذة حين يسبح في سحر العبارة التي تسعِف الشاعرة فتبدو ماسكة لرقاب جملها وعباراتها التي لا تُسلم قيادها إلى القارئ العادي بسهولة. ذلك أنها تُشعِر القارئ بسحر الصورة وفي الآن نفسه بالقلق الدائم ليصير متلهفا على الآتي إلى النهاية. تلك النهاية التي تؤجلها الشاعرة مع نهاية الديوان وكأنها تضرب لقارئها موعدا مع ديوان آت لعله يجد فيه راحة الجواب.

فهل يكون هذا الديوان إيذانا بعودة قطعية إلى كنف الشعر الذي تغري إيماءاته ودلالاته وبحوره ومعانيه أكثر من غيرها؟ أم أن ملذات الرواية والقصة ستربح معركة التجاذب؟ أم أن هذه المبدعة من ذلك الصنف الذي لا يؤمن بتلك الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية والفنية فتكون انتظاراتنا للإصدارات المقبلة مفتوحة على هذه الأجناس وعلى كل الاحتمالات؟.

جريدة الأحداث المغربية، العدد 5567

الأربعاء15 أبريل 2015

Leave A Comment

Recommended Posts