0%
Still working...

عمر العسري دهشة الماء والبلل بكل أنواعه

دهشة الماء أو البلل بكل أنواعه قراءة في ديوان تعال نمطر

عمر العسري:

1 كان الشعر أسبق الفنون الأدبية الأدائية في التعبير وتصوير تجارب ووقائع معينة، وما يزال، وفضلا عن كون القصيدة هي تعبير عن شعور مكثف موجه إلى عواطف لتحدث تأثيرا مركزيا وسريعا، ومن تم تكون الاستجابة وحدود التفاعل فورية إلى حد ما. وقد ازداد هذا الأداء المقرون بالحالة النفسية وبالواقع المعيش انتشارا، وأصبح الشعر منظارا شفافا يستطيع المرء أن يرى من خلاله بنية الذات والواقع الفاعل فيها بجميع مستوياته المختلفة. وهذا الدور الخطير الذي أصبحت تقوم به القصيدة قد كشف عن معطيات دقيقة لها صلة بالواقع النفسي والاجتماعي والسياسي والفكري للإنسان، وقد أصبح التعامل مع الشعر هو تعامل مع واقع حقيقي يؤثر في الناس على نحو يقول كل شيء له ارتباط بهم.

ولم يعد الشعر يقرر ويمتدح راهننا بل بدا، في أغلب النصوص الحديثة، عملا إنسانيا في الدرجة الأولى، وقيما جمالية تعمل على جهة الوعي والمعرفة والإرادة، ويؤدي دوره باعتباره فعلا انتقاديا للواقع والآخر، وقد نقول إن كل ما يكتب الآن من شعر هو بمداد الحياة نفسها.

لقد كان وراء استدعاء هذه الإشارة بما ينطوي عليه ديوان الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد تعال نُمطر1  من كوة قرائية فسحت لنا المجال لتأمل منجزها الشعري وما يستبطنه من حالات واقعية ونفسية جد قوية، وقد وجدنا فيه أنه نزعات داخلية تتمثل الخوف والحزن والحلم وسوى ذلك، في حين أن تمظهرات هذه المداخل جاءت لتعالج علاقة الدوال بالمدلولات بل الحقيقية بالمجاز، ولا نغيب دور العاطفة التي منحت الديوان إيقاعا خاصا يزاوج بين الرغبة والرهبة، وبين الحلم والتذكر.

2 يقول رومان جاكبسون:« الشعر هو حلم مكتوب ولكن ليس الحلم الذي نحلمه أثناء النوم، هو حلم يقظة حيث يمكن لنا أن نتصور تحت كل قصيدة حلما، حلم الشاعر أو حلم الإنسانية أو حلم القارئ. في الشعر تحلم اللغة ويحلم الإنسان. وبهذه الأحلام الشعرية يتعالى الوعي الإنساني بالذات، وتتعالى اللغة على الاستعمال العادي »2

وجدنا في ديوان تعال نمطر أن الشعر أقرب إلى الحلم؛ لأنه يبحث في تجليات النفس وبما فيها أرقى تلك التجليات وهي الحلم، لأن من خلاله وقفنا على ماهية الحلم وليس العكس. فما أن تهيمن الذات وتستأثر بواقعها أو تحاول تجاوزه تنثال اللحظات الحلمية باختراق الواقع وذلك بإرادة ووعي يستدعي احتواء الواقع وتصعيد واقع حلمي داخل في التخييل. تقول الشاعرة:

    أحلم

    أن أرتقي

السلالم المائية

نحو الأفق

حيث يدك

بدفء الشفق

تسحبني3

واضح أن المثال المقدم ينقلنا إلى طاقة ذاتية تتجه نحو نزعات داخلية تستمد صورها، في الدرجة الأولى، من الآخر، وفي الدرجة الثانية من الحلم. ونلاحظ في صورة الآخر أنه يستخدم كوسيلة للتعبير عن مزاج الشاعرة المتناقض بين الحلم والإحساس بالألم، وبين الخيبة والحب، وهي الصور الأكثر إثارة لاستدعاء الآخر.

ليل آخر

يمر

لا دمع بكر

لا نواح

ولا زغاريد

تعال نغرد

فطيور الليل

يداعبها الضجر4

يتسم الآخر في هذه الصورة بخاصية علوية كما يتمتع بقوة تجاوزية أيضا، وتتضمن هذه السمات ترددا في المعاني المقرونة بالحب والغناء، وبالمعاناة والموت. وتشمل الصورة أيضا لحظات اكتئاب قصوى(ليل آخر) إذ من المفروض أن هناك ليلا مضى وآخر سيأتي، وقد توحد الكل في لحظة كثيفة وفريدة توحي لنا بأن الشاعرة تتوق للآخر، وقد سمحت لها الفرصة كون لا ألم ولا حزن، لذلك كانت الرغبة قوية، والإرادة أقوى في استغلال الحياة، لأنها تدرك جيدا أن صوت الحزن واليأس أولى من حالة الفرح القصيرة. من هنا انتقت الشاعرة صورة الليل وقرنتها بالغناء وبالحب واللقاء، وقد وظفتها بغاية التعبير عن حالة نفسية. فالشاعرة لا تضعف أمام الآخر ولا تتعالى عليه ولا تقترب منه، بل تدعوه إلى الاقتراب منها(تعال…)وهو أمر ملزم للندية وتقاسم المصير.

ثمة صورة شعرية محكومة بوضعيات الآخر وبما ينطوي عليه من قيم وجودية هي في الآن ذاته تترجم نداءات الأنا التواقة إلى زرع قيم الوصل والتجاور، ومنح  الإنسان قيمة وجودية ونفسية لا تقابل بالألم أو بالخوف، وإنما تقتضي التواصل والتفاعل والتبادل وإشباع الروح.

3 لا يعكس الديوان قضية اجتماعية وإنما يثير تحولات عاطفية التقطتها الشاعرة وصاغتها فنيا، وفق بناء شعري يجسد نداء معينا ويقول شيئا مهما. ويستأثر الآخر بحضور كثيف يبدو من خلاله عنصرا يتوجس منه الخطر والحذر، وتبدو الأنا في الديوان مثل الفصول متقلبة ومتحولة، واقترابها من الآخر ليس إلا باعتباره هدفا رغم ما يقابل هذا الفعل من ألم وحزن. تقول:

    أنت البعيد

    كدمي

    ضاجة

    بك الحواس

    فأين أخفيك

    عن عيون الرغبة5

يقدم المقطع الشعري الأنا في علاقتها مع نفسها وما تنطوي عليه من مطامح وتطلعات وانتكاسات خاصة في ما أبداه الآخر من رفض عبثي ملحق بمراتب الغموض المصاحبة للألم والوحدة.  صورة الآخر هي حدسية جاءت رافضة مربكة لمنطق التجاور الحتمي، وبدت الأنا في مواجهة وضعيات إنسانية غريبة تسعى من خلالها إلى التحرر من الأوهام المؤدية إلى الخيبة6.  

يبلغ الحوار مع الآخر مداه عبر التفاعل، أي؛ الأثر الذي يحدثه تدخل الأنا مع الآخر في إطار حوار، وقد تحقق ذلك في الحالة التي بدا فيها الأثر باعثا على فعل معين لدى الآخر، ومشيرا للأنا، وهذا التحديد للتفاعل يقتضي مفهوما آخر هو التبادل باعتبار التفاعل عملية تبادلية في أجرأتها.

بالعودة إلى قولة رومان جاكبسون نجد أن حدود التعالي الذي تنحوه اللغة الشعرية قد ساهم في تعميق صورة تراجدية على نحو بدا الآخرقرين أوضاع مأساوية ، وقد نتوصل إلى ما خلص إليه دو أونامونو في قوله: « بما أننا لا نعيش إلا في التناقضات وبالتناقضات فإن الحياة تراجديا، والتراجيديا صراع دون انتصار أو أمل في النصر إنها تناقض»7  إن المنطلقات الفكرية للأنا هي ما تشكل من خلال الاتجاه التراجيدي، حيث يترجم معجم الحزن قلق الأنا، ومدى إحساسها بغياب آخر إيجابي .

لقد بدت الصور التراجيدية في علاقتها بالآخر العبثي مرتبطة أساسا بالحوار الذي تضمنه الديوان، وهو حوار مؤسس على لغة إيحائية بعيدة عن سنادات التبادل والتفاعل والحس المشترك، وإنما تحولت إلى جدال رهيب بدت فيه عاطفة الأنا تنزف ودائمة البحث عن ولادة أخرى.

4 لقد خلقت مشاعر الحب والحزن والسأم في شعر مرشيد فلسفة جديدة تتغيا الدنو من الآخر والاقتراب منه، وعلى ما تبدى في نصوص الديوان نجد أن هذا الآخر كائن متحول، فمرة مرغوب فيه ومرة ملام، وبين الحالتين نجد أن الأنا تحتاج إلى ولادة جديدة في زمن قياسي. ولكي نتبين هذا الطرح ننصت إلى هذه البنيات النصية.

    أشبحك

    أم ظلي

    هذا الذي يغفو

    على أرقى

    أم أنه

    شاهد غياب

    يبحث عن يقين؟8

وتقول أيضا:   

    أحلم

    بنافذة تطل على البحر

    بمدفأة حنون

    بيدك تزيح الصخر

    عن صدري

    أحلم

    برذاذ بطعم عرقك

    بليل أطول من أرقي

    ومزهرية9

في هذين المقطعين اختزال فني كبير لصورة الذات وهي تنهض كمعادل لمفهوم الأنا الشديدة الاضطراب الضائعة والمنكسرة أمام رغبات مخاتلة، وبقدر ما كانت الأنا  قريبة أو بعيدة من الآخر إلا وتم إطلاق العنان لرصيد باهظ من الرغبات على حساب وجود متلاش باستمرار. هذه الأنا التي بدت مثل عاطفة نازفة باستمرار تجاه الآخر المتحول، وهذا الوضع يجعلها تتغذى من قلقها المستمر وقدرها كامن في المقاومة والتجدد.

5 يمثل تعال نمطر الحلم. إن الحلم بما يكشف عن حقائق نفسية، وبما يزيحه من أستار عن مكنونات، يمثل عينا لا شعورية نافذة الرؤية تتجاوز العين والوعي والإدراك. تشير عين الحلم في الديوان إلى لحظات التأمل العميق في الآخر، وفي غمار تلك اللحظات تنزف الذات وتحيا ألمها، إنها لحظات مستاصلة من الوعي المصيري المرتبط بمفاصل هامة من مشروع الأنا.  لقد امتزجت معرفة الأنا برؤية عميقة تمعن في إثارة مستويين الوجداني والتخييلي، على نحو يوحي بعلاقة نازفة باستمرار.

“دهشة الماء والبلل بكل أنواعه”، عمر العسري، كتاب الفرشاة والتنين، مكتبة الأمة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 2010.

Leave A Comment

Recommended Posts