0%
Still working...

عبد اللطيف البازي في تدبير العواطف

في تدبير العواطف ومجاورة العواصف قراءة في رواية “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد

عبد اللطيف البازي:

في البدء قدمت المبدعة فاتحة مرشيد نفسها للقراء على أساس أنها شاعرة، تشهد على ذلك دواوينها:بإيماءات بورق عاشقب واتعال نمطر بواأي سواد تخفي يا قوس قزح؟ لتقترح علينا بعد ذلك روايتها الأولى لحظات لا غيرب. وهذا ما قد يفسر الملمح الأساسي لهذا العمل الأدبي أقصد تأنقه ولغته المنسابة والكثيفة وصوره التي تتقصد إثارة المتلقي.

والحظات لا غيرب تستند على فرضية مركزية تعتبر أن الكتابة بمقدورها أن تكون سلاحا فعالا لمواجهة الموت والفناء وشكلا راقيا للاحتفاء بالحياة والافتتان بمقترحاتها، وبمقدورها كذلك أن تكون وسيلة فعالة للتحكم في الزمن لجعله يتوقف أو يرجع إلى الوراء حسب أهوائنا أو احتياجاتنا لذا كانت هذه الرواية بمثابة استرجاع طويل شكل،على الأرجح، فرصة مناسبة لأسماء الغريب، الطبيبة النفسانية المرهفة، لكي تتأمل وتحلل علاقتها الاستثنائية والعاصفة مع وحيد الكامل الأستاذ الجامعي المرهق والشاعر الذي حاول الانتحار ذات ضياع فلجأ إلى أسماء لكي تساعده على نسج روابط جديدة مع الوجود لتصل هي إلى الخلاصة التالية اقد أعدته إلى الكتابة هو الذي لا يعلم أنه قد أعادني إلى الحياةب(ص64). وقد حضر الموت كعنصر رئيسي في توصيف وحيد الكامل لفعل الكتابة إذ أكد مخاطبا أسماء معشوقته:بالحب والموت هما المحركان الأساسيان لكل إبداع..وأنا عاشق يحتضر..إذن أنا سيد المبدعينب(ص161)، أو حينما أقر دونما تردد: االكتابة الحقيقية لا تتم إلا عندما نجبر أنفسنا على الكتابة كما للأموات، لمحاورتهم وإضافة شيء جديد لم يسعفهم الوقت لكتابته. اكتبي في عزلة تامة عن ضجيج هذه الفظاعة الكبرى التي تحمل اسم العالمب (ص112). فهل نكتب إذن لننوب عمّن رحلوا وكأننا نصوغ وصاياهم المتأخرة؟ وهل الحياة هي بالفعل غير محتملة وفظيعة إلى هذا الحد؟. وكانت أم وحيد قد توفيت إثر حادثة تسبب فيها على ما يبدو أب سكير مما جعل علاقته معه بعد هذه الفاجعة، أي طوال الرواية، تتسم بالتوتر وبجفاء رهيب. وقد أسر لقرائه بما يلي:بيهيأ لي أنني لم أكره أحدا في حياتي مثلما كرهت والديب(ص18) ووحيد هنا هو سليل شخصيات تعرفنا عليها في كتابات مبدعين معروفين كمحمد شكري وادريس الشرايبي وعبد الحق سرحان، شخصيات أعلنت الحرب دونما مواربة على صورة الأب المتسلط.

 والدكتورة أسماء الغريب هي الأخرى تحاول أن تبدع وتكتب قصصا حينما لا تكون في استقبال مرضاها، وهي قد تمكنت من التغلب على ورم خبيث ابتليت به ومسحت آثاره عبر إجرائها لعملية تجميل لنهدها الذي اختطفه منها السرطان، وقررت بموازاة ذلك الانفصال عن زوجها ذي الانفعالات المبرمجة. وهي لم تقاوم فكرة ارتباطها بوحيد رغم علمها بأنها كانت تلعب بالنار وأنها ستمنع لا محالة من ممارسة مهنتها من طرف احماة الأخلاق’، وإصرارها ذاك نابع ربما من شعورها الدفين بأنها قد أعادت وحيد إلى الحياة أو منحته حياة جديدة هي التي حرمتها أنانية زوجها من أن تكون أما. لذا فإن علاقتها مع وحيد شكلت بالنسبة إليها تعويضا من نوع خاص ما كان بمقدورها التفريط فيه.

ويمكننا بيسر أن نصنف الحظات لا غيرب ضمن الروايات الذهنية فالساردة /الشخصية الرئيسية تبحث عن معنى جديد لحياتها وهي تحاول بإصرار أن تجد أجوبة شافية لأسئلة وجودية كبرى كسؤال الحب وسؤال الوحدة وسؤال الإبداع. وتشكل الحوارات بين أسماء ووحيد الرافعة التي تشد بناء الرواية بمحتواها الفكري الرفيع واستشهاداتها باللغتين العربية والفرنسية واستحضارها لمصطلحات متخصصة وحكم وعبر وآثار قراءات وافرة مما يجعلنا نستنتج أن هذه الرواية يهمها بالتأكيد أن تأسر وتبهر متلقين من عيار خاص، وإن كانت لا تقطع روابطها مع الشرائح الواسعة من القراء وذلك عبر شرك ممتع هو رومانسيتها المعلنة ليس فقط لأن الساردة / الشخصية الرئيسية تصرح بذلك بل إن عناصر عديدة تقوي هذا الملمح مثل الصراع المرير والمستحيل مع المرض ومع الموت الذي يترصد الشخصيات وقراء الرواية من البداية إلى النهاية ومنذ هذه الجملة الافتتاحية ذات النبرة الاستعطافية:بتريث قليلا أيها الموت…إني أكتبب. ويبرز الطابع الرومانسي كذلك في استعانة الساردة بأوضاع الطبيعة للتعبير عن حالاتها النفسية وأفكارها الدفينة كما في هذا المثال : اسماء باريس هذا الصباح متواطئة مع حالتي النفسية..تزيح عنها الغيوم برفق لتفسح الطريق لخيوط ذهبية خجولب(ص63) وفي سياق آخر يعترف وحيد، واسمه نفسه ذو إيحاءات رومانسية:بأيتها المدهشة/ افتقد البحر في ضحكتك، والسماء في صمتكب(ص103). أما الساردة فتخبرنا بهذه الحقيقة البسيطة والمؤثرة في آن:بكانت تنتابني رغبة في البوحب(ص81). وأن تكون رومانسيا معناه عدم تحكمك في هذه الرغبة الجامحة والحزينة التي تنتابك أحيانا لتكشف عن أسرارك ومشاعرك الأكثر احتجابا. ثم إن باريس المدينة التي درس فيها وحيد وقصدتها أسماء في عز أزمتها وحيرتها هي قبلة الرومانسيين ومرفؤهم.

وهذا الملمح الرومانسي يفضي بنا ويتقوى بملمح ثان هو الملمح الإيروتيكي الذي يخترق مجموع الرواية ويسمها بحسية أنثوية محببة تجد ترجمتها النصية في التطرق لموضوعات بعينها كالشهوة والاحتفاء بالجسد وتحولاته سواء تعلق الأمر بجسد المرأة أو جسد الرجل. تتذكر الساردة بمكر: اوأنا صغيرة، كنت أحب طقوس الحمام وكل العناية التي توليها النساء لأجسادهن، كانت تشي باحتمال مكافأة ما.. (ص89).وهي تختار لتتغزل بمعشوقها مثل هذا التعبير الأنيق: اشعره مبلل كأنه يخرج لتوه من غيمةب(ص36). إن الملمحين الرومانسي والإيروتيكي يمتزجان ههنا لجعل الساردة تحتفي بجسد معشوقها وتزهو بأنوثتها المستعادة.

ومن جهة أخرى، تتأمل هذه الرواية في معاني الفن ووقع الجمال والإبداع علينا وتعتبر الساردة مثلا أن: اأهمية الجمال لا تكمن في كونه يجدي نفعا..تماما كالشعر قد لا تكون له منفعة ملموسة لكنه أساسي لوجودناب(ص75) وهي تلتقي في ذلك مع العديد من المبدعين الكبار ومن بينهم الكاتب والسينمائي الأمريكي بول أوستر الذي أكد في سياق معينبأن قيمة الفن تكمن في انعدام جدواه. إن إبداع أعمال فنية هو ما يميزنا عن باقي المخلوقات المتواجدة بهذا الكوكب وما يجعلنا متفردين في الجوهر باعتبارنا كائنات إنسانيةب(1).

إن هذه الرواية تستمد أهميتها من بنائها العام كما من التفاصيل التي تتخذ أحيانا شكل التماعات تدهش القارئ وتجعل أحيانا يبتسم دونما سبب واضح وتجعله يستشعر إحساسا جميلا بالامتلاء واستنفارا لذيذا لإمكاناته التخييلية. وهذا العمل يتأمل نفسه فيما هو يتأمل العالم ليؤكد أن الإنسان هو أعقد الكائنات الموجودة في هذا الكون وأعلاها قيمة، وأن الحياة، بالرغم مما يبدو عليها أحيانا من قسوة ومن جحود، تستحق أن نلج متاهاتها وأن نستمتع بمفارقاتها وغموضها.

جريدة الحياةالعدد 29- 10-16 أكتوبر 2008

جريدة القدس العربي السنة العشرون- العدد 6040- الإثنين 3 نوفمبر 2008- 5 دوالقعدة 1429

www.alquds.co.uk

Leave A Comment

Recommended Posts