0%
Still working...

طبيبة تُبلسم بالكلمة جراح الروح والجسد

طبيبة تُبلسم بالكلمة جراح الروح والجسد

بين حمل القلم ومسك المشرط مساحة بوح كبيرة يختزلها الفرح في بضع كلمات تنتشي بالألم، وبين الانصات لنبض الشعر وأنين السقم ترسم علامات التضاد، أن تكون شاعرا هواية تلتصق بمدى الإحساس بمعاناة الآخر، وأن تكون طبيبا مهنة تحاصرها الرغبة في زرع الابتسامة. الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد إحدى أشهر الطبيبات المغربيات تكتب في وصفة الدواء أبيات الشفاء من هموم الحياة، وتوزع بسماحة ملاك أدوية الانتشاء كالبلسم. هي طبيبة أم شاعرة؟ أم هي شاعرة قبل أن تكون طبيبة؟ وبين اللقبين تصر فاتحة مرشيد على أن تتحول إلى سيارة إسعاف تصرخ في وجه هذا الاغتراب، وتطلق صفارات التحذير من مرض مقبل اسمه فقدان حاسة الذوق الإنساني. في عيادتها بالدار البيضاء استقبلت “المرأة اليوم”، فكان هذا الحوار:

حاورها: سعيد بونوار

س: كيف زاوجت بين مهنة الطب و كتابة الشعر، و أيهما تفضلين إن طلب منك الاختيار؟

ج: الشعر هوية وهواية والطب مهنة. و يمكن القول إنني شاعرة تمتهن الطب و بإمكان الشاعر أن يمتهن أي مهنة يحبها تمكنه من العيش بكرامة. فالشعر عندي سبق الطب. و الطب كان اختياري بمحض إرادتي، و ممارسته جعلتني أومن بأنه من أقرب المهن للشعر إذ يقربنا من المعاناة الإنسانية، فالكلمة بلسم لجراح القلب و الروح و الجسد. ونحن نتحرر من معاناتنا، من آلامنا حين نسميها، نعبر عنها، نلبسها كلمات. فغضبنا الداخلي و اكتئابنا هما كبت لكلمات.

عملي كطبيبة أطفال جعلني أدرك أننا فعلا نكبر بالكلمة، الطفل يكبر حينما يضع كلمات على الأشياء، يحس بأنه يمتلك الكون بامتلاكه كلمات.

لا مجال للمفاضلة بين الطب و الشعر، و أتمنى أن لا يطلب مني يوما الاختيار بينهما. فأنا أجد نفسي في هذه الازدواجية، ولو أنه سيأتي يوم أحال فيه إلى التقاعد كطبيبة، ساعتها سيسعدني أن أتفرغ للشعر و الكتابة بصفة عامة.

س: كيف تعلقت بالكتابة باللغة العربية ونحن نعرف تكوينك الدراسي باللغة الفرنسية؟

ج: حبي للغة العربية يرجع إلى بِئر الطفولة، فقد ترعرعت في بيت رجل التعليم. والدي كان أستاذا للغة العربية و أنا مدينة له بافتتاني بها. و تكويني لاحقا باللغة الفرنسية و ممارستي اليومية لها ما كان ليجعلاها ترقى إلى مستوى أحاسيسي العميقة، فالعربية لغة قلبي و حزني و فرحي و ذاكرتي الطفولية.

اللغة تبقى أساسا أداة للتعبير، ونحن نختار بالطبع الأداة الأقرب إلى أنفسنا.

س: في ديوانك “إيماءات” حضرت المرأة بأفراحها و أتراحها لكن أعلنت الثورة على هذا الاختيار في ديوانك الشعري المقبل، ما الدافع؟

ج: الإبداع ولادة، وأعمالنا الإبداعية أبناء لنا، ويمكن أن أقول إنني أنجبت في البداية بنتا أسميتها “إيماءات” والآن لي ولد اسمه “ورقٌ عاشق” كتبت مجموعته الأولى بصيغة المذكر.

“إيماءات” تجربة كان من المفروض أن ترى العالم منذ عشر سنين خلت. و هي تجسد مرحلة من حياتي كان لا بد أن أتصالح معها كي أتمكن من النظر إلى الأمام .

أما “ورق عاشق” فهو وليد الحاضر بنضج الحاضر و بإحساس الحاضر. وأفضل أن لا أقول أكثر كي لا يولد خديجا.

س: قليلة من الأصوات الشعرية النسائية المغربية التي استطاعت الصمود، فما هي برأيك دوافع هذا الانحسار للصوت الشعري النسوي، هل يتعلق الأمر بالتضييق الرجالي؟

ج: كون عالم الكتابة و الإبداع فضاء للحرية فهو يتعرض للمصادرة من طرف أعداء الحرية باسم الدين أو الأخلاق… والكتابات النسائية على الخصوص توضع تحت المجهر، مما يقلص لدى المرأة مساحة البوح. فالمرأة في مجتمعنا العربي عامة و المغربي على وجه الخصوص يلزمها الكثير من الثقة، من الجرأة و من التحدي حتى تصمد، و هي مطالبة أكثر من الرجل بإثبات كفاءتها في كل المجالات التي تقتحمها. وهذا لم يمنع وجود أصوات نسائية مغربية مبدعة وجميلة نعتز بها.

س: قال وزير الثقافة محمد الأشعري أن البرامج الأدبية في القناتين المغربيتين تحتاج إلى وجوه نسائية، فهل ترشحين نفسك لتقديم برنامج أدبي أسوة بتقديمك السابق لبرنامج صحي؟

ج: أنا أعتقد أن كلتا القناتين تحتاج إلى برامج في التربية الصحية تمكن من النهوض بالوعي الصحي في بلادنا. فعدد الوفيات في صفوف النساء من جراء الحمل والولادة ما زال مرتفعا بشكل كبير، و كذا وفيات الأطفال. و يؤسفني هذا الفراغ الذي لا تبرير له.

هذا لا يعني أننا لسنا في حاجة لبرامج أدبية ( ولا يهم إن كانت الوجوه التي تشرف عليها نسائية أم رجالية مادامت لها الكفاءة المطلوبة)، و لكنني أجد نفسي مؤهلة أكثر بحكم تكويني وتجربتي في الميدان السمعي البصري للإشراف على برنامج صحي، إذ أومن أن واجب الطبيب لا يقتصر على معالجة المرض حينما يظهر لكن في الوقاية منه كذلك، وهذا لايتم إلا بواسطة توعية صحية شاملة.

ربما تحلم الشاعرة في داخلي ببرنامج يقدم قراءات شعرية. تتسرب من خلاله داخل البيوت حاملة لأصحابها أكاليل من كلمات بلسم بألوان قزحية. لتصبح فعلا “الطبيبة التي تعالج الناس بالشعر” على حد قولك.

س: هل يقبل الرجل العربي بالمرأة الشاعرة؟

ج: يفترض أن أقول نعم، فنحن أمة ترعرعت في أحضان الكلمة وتغذت بالشعر منذ قرون خلت، و” الشعر فضيلة العرب” كما قال الجاحظ. لكن شتان بين ما يفترض أن يكون و ما هو كائن، فإن كان الرجل الشاعر نفسه يعتبر مختلفا، وعلى حافة الجنون، فما بالك بالمرأة الشاعرة. الرجل العربي يقبل بالمرأة الشاعرة صديقة، زميلة أو حبيبة فهي تمنحه مساحة للحلم. لكن يلزمه الكثير من الحكمة و التحضر حتى يقبل بها زوجة.

مجلة “المرأة اليوم” (العدد 111) 22 أبريل 2003