د. رسول محمد رسول
تجربة شعرية جديدة للكاتبة المغربية الدكتورة فاتحة مُرشيد يضمها ديوانها السابع (انزع عني الخطى) الصادر عن دار توبقال في الدار البيضاء 2015، والذي جاءت هندسته النصية إلى أربع قصائد مطوّلة هي: انزع عني الخطى، ولن أموت مرتين، وعطلة حب، وهلوسات الماء، وجميعها فرشت موجوديتها بمقاطع شعرية مشذرة تقدمتها ثلاث عتبات نصية للفيلسوف الألماني فردريك نيتشه إنْ هي إلا مفاتيح قرائية لما سيرد في متون النصوص الشعرية في الديوان.
يحبل عنوان الديوان بدلالات ذاتية هائلة لما فيه من مطالبة بتهديم حُجب ما تنوء به الذات الأنثوية من هموم واشتياق إلى لحظات التوتر الوجودي المثمرة؛ فالخطى تبدو ألماً وجودياً حاد الطية لا بد من تقويضه، وبقاء ذلك الألم مضمراً “لن يمنع الإحساس به”، والذات الأنثوية المسرودة في البناء الحكائي – بحسب تجربة هذا الديوان – لا ترضى أن تكون مجرَّد “سمكة حمراء تلتف حول نفسها” وسط قليل من ماء ذكورة باهتة ما يعني ضرورة استنفار مكامن لحظة العيش الحيوية عبر همس القول الشعري، بل لا بد لليل أن يفتح عينيه”على أسرارنا”، تقول الشاعرة، بغية نزع “الخطى المكابدة” عن ذوات اللحظة الوجودية المشتركة الذي تعاني من ظلمة ليل عاتم بحسب ما يريد قوله خطاب هذا الديوان.
في القصيدة الثانية (لن أموت مرتين) تتصاعد حدّة الشعور الوجودي بمأساة ما يجري للذات التي تريد أن توجد لكنها تعيش “عزلة المكان” في “اللحظة الخطأ”، بل وبرودة الرغيف حيث “لا نار بالجوار”، والظهيرة منحنية “مكسورة الظهر تزحف نحو حتفها” لتبقى الذات الشاعرة متعثرة بهموم الأثر الذكوري “أتعثر بكَ كما تتعثر سمكة بتجاعيد الماء”، ولا ثمة إيقاع يزف للروح بهجتها، بل “لا شيء ينتمي إلينا”، تقول الشاعرة، “في المكان الخطأ؛ لا اشتعال الذكريات، ولا رماد النسيانّ”، إنه هشيم جثة لا تقبل التحنيط، هشيم ما كان علينا أن نكنسه”. ومع ذلك يأتي تحدي الصوت الأنثوي صاعقاً: “أيتها الطعنة الخرساء، دوِّ بين الضلوع، فلن أموت مرتين”؛ إنه التشبث الأصيل والتاريخاني بالحياة ضد العدم.
في “عطلة الحب”، وهو القسم الثالث من متن الديوان، تتواصل الذات الجريحة مع الآخر في أهواء مشتركة: “لي قرابة بحزنه، له اغتراب يدهشتي”، تقول الشاعرة، بعد أن”ظل الزمن بيننا منكمشاً كرداء قديم” بحسب وصفها للعلاقة المتوترة بينها وذات الآخر الذكوري لتمر “العطلة معطَّلة الإحساس لا دفء فيها سوى الشمس”.
لهذا، سرعان ما ينتقل البوح الوجودي شعراً إلى القسم الرابع “هلوسات الماء” الذي تتمظهر في شذرياته حسيات الجسد عبْر صور شعرية عابقة في أدائها السيميائي؛ صور جمالية نافرة الحضور حتى يتحوَّل الصوت الأنثوي فيها إلى مُخاطب، وتصبح الذات الذكورية مُنادى في تواصل جسداني تقدمه فاتحة مرشيد بلغة شعرية رائقة المذاق: “الرغبة عندكَ عين، وعندي أذن، وشوش في أذني، يسقط عني العمى!”.
وهكذا يتم تواصل العين مع الأذن، النظر المرئي مع الصوت الهامس، ومن ثم تخاطبه قائلة: “صمتي نهدُ الكلام ينتصب كلما سرى همسكَ في الشريان”، ليبدو ذلك حاجة مرآوية تحدوها رغبة عارمة: “صب عليَّ رذاذ عينيك لأبصر ما اشتهي من حقيقتي!” بحيث تعلو لغة التواصل بشعرية مكثفة عندما تسأل الشاعرة نظيرها البشري كمُنادى: “أين أدسُّكَ حين لا رداء سوى العطر؟” في لحظة تخبره فيها بأنها يتطابق ليهيبها مع أنفاسه ونبضه لتلعب الناصَّة هنا على شعرية الأداء الصوتي في أكثر حضوره شغفاً بالحب: “كلما انشقت أصداف الأنوثة انتصب صوت الذكورة في الحشى ولا أهتم، من أي الجنسين أنا!” ، ليبقى المعشوق الذكوري مدار تساؤل حر: “كيف أعشقك خارج مداراتي وأنت قطبها؟”.
ولا تني الشاعرة تحتفي بموجودية الآخر المرغوب به حلماً للعيش عبر موجودات صغيرة مشتركة بينهما: “لا يزال سوارك بمعصمي يحاصر نبضي كيلا يتيه عن إيقاعك”، وبالتالي تخبره قائلة: “تطربني ترنيمة خطواتك حافية تطأ مسالك الروح” لتطلب منه متوسلة: “حررني من نقاء الحرف وحده الدنس على رقعة البياض يُخلِّف الآثار”، حتى تختم مخاطبةً إياه في مداعبة طفلة لرجل: “سمكة أنا وعواطفي هلوسات ماء”.
http://www.alsabaah.iq/ArticleShow.aspx?ID=100269
14 شتنبر 2015