0%
Still working...

شعرية البوح وبلاغة الشذرة في ما لم يُقل بيننا لفاتحة مرشيد

شعرية البوح وبلاغة الشذرة في  » ما لم يُقل بيننا » لفاتحة مرشيد

د. محمد المسعودي

  يأتي ديوان/قصيدة « ما لم يُقل بيننا » ليضيف إلى أعمال فاتحة مرشيد الشعرية جديدا من حيث طرقُ الاشتغال وتنوعُ النص وانفتاحُه على أشكال أخرى من الكتابة الإبداعية. إننا في هذا الديوان الذي صدر حديثا أمام نصوص تبوح بما لم يُقل عبر بلاغة الكتابة الشذرية المكثفة التي تجمع بين ومضات الشعر وحكمة الشذرة في تألقها النابع من تمرس بالحياة وممارسة لألاعيب الكتابة ومكرها.

         إن الذي لم تقله الشاعرة عبر نصوصها المستفيضة الطويلة والقصيرة المكثفة على السواء، والتي ضمتها دواوينها السابقة، ترسله عبر بلاغة شعرية قوامها اللمحة الدالة والإشارة الخاطفة في ديوانها الجديد. وهي بلاغة تجمع بين القدرة على البوح والكشف والتصريح، والقدرة على الستر والحجب والإيحاء. وبهذه الشاكلة

تتشكل نصوص الديوان صانعة عوالمها الشعرية عبر متخيل يمتح من الذات وينفتح على الآخر حسب متطلبات البوح والقول الذي لم يُقل من قبل. فما الذي لم تقله الشاعرة سابقا وتبوح به شعرا في راهن نصوصها؟

         مما لا شك فيه أن البوح في هذا النص الذي يمكن اعتباره قصيدة واحدة يشمل أشياء عديدة مما تشغل الذات المبدعة، ومن ثم نجد أن مساحة البوح شاسعة وإيماءاتها عديدة. إن البوح في « ما لم يقل بيننا » ينطلق من التعبير عن أحاسيس ومشاعر عميقة ليمتد إلى اليومي والواقعي مرورا بالجسدي وينتهي إلى الكامن في الروح. وعبر هذه التقاطعات الشعرية والتباساتها يتشكل النص/القصيدة دلالة وفنا. وتؤدي بلاغة الكتابة المكثفة في امتدادها الخفي دورا فعالا في منح هذا البوح نكهته التعبيرية الخاصة.

         يجد القارئ نفسه في هذا الديوان أمام نصوص شعرية خلت من عناوين، بعضها يرد في صفحة واحدة من الكتاب، بينما تمتد نصوص أخرى إلى صفحة ثانية لا أكثر. ومن يتأمل هذه النصوص التي تبدو مستقلة عن بعضها ظاهرا يرى أن هناك رابطا خفيا يصل بينها، إنه رابط البوح والكشف من جهة، ورابط الاشتغال الشذري الذي يأبى إلا الامتداد في طيات الديوان جميعا، من جهة ثانية. وبذلك نجد تصاديا بين أول نص في الكتاب والنصوص الأخيرة فيه ما دام المدار هو البوح بما يعتمل غور الذات إفصاحا ورمزا، وما دام الخطاب موجها إلى ذات أخرى تعد جزءا من الذات الشاعرة وكيانا لصيقا بكيانها، عاشا تجربة واحدة، فكان ما كان مما تخبر به القصيدة . يقول النص الأول:

          » جريحان

         نحترس من ليل

         انتظرناه طويلا

         وكان أقصر من لذة

         تنقر دقائقه

         على تعبنا

         كوهم بهدوء

         وقد كان حلمنا

         وعدا بصخب ». (ص.5)

         وتقول النصوص الأخيرة التي توزعت على ثلاث صفحات من الكتاب:

          » التقينا صدفة

         أحببنا صدفة

         وهذا الوجع

         الذي يتسرب

         إلى حقائب متعبة

         على رصيف القرار

         نطفة

         سقطت صدفة

         في رحم العناد

         خذني

         خذني

         إلى نهاية أخرى

         حيث الصدف مواعيد ».( من ص.70 إلى ص.72)

         بهذه الشاكلة تقول القصيدة بعضا مما لم يُقل عن طريق توظيف بلاغة الإيحاء والتكثيف. إن ما كان يعِد به الليل من لذة ومتع صار وهما وتعبا وصمتا قاتلا تلاشى معه وعد الصخب والعنف: عنف محبة الحياة. وقد كان الليل سببا في الجراح بحيث أصبحت الذات تحترس من ثقله وما يلقيه عليها من عبء بدقائقه التي ترسخ الإحساس بالتعب والشعور بالوهم والخديعة. وهذه الدلالات جميعا تمتد عبر صفحات الديوان/القصيدة وتزكيها النصوص الأخيرة- التي ذكرناها قبل قليل- إذ تؤكد أن هذا الوعد بالصخب والمحبة والارتباط بالحياة صار وجعا ووعدا بالفراق والرحيل لأنه اصطدم بالعناد وصعوبة القرار. ومن هنا ترجو الذات حبا لا يخضع للصدفة وألاعيبها، وإنما ينبثق من مواعيد تتزيى بلبوس الصدف وتصدر عن سبق حب مترصد ومصر على مغالبة الليل بقهره وثقله وتحويله، فعلا، إلى ليل موفور أو مخفور باللذة والمحبة.

         ولعل هذه المعاني التي وقفنا عندها، في هذه الإشارات الشعرية الوجيزة، هي بعض من منطوق النص الذي قد يقول أشياء أخرى لم يُقل بين الشاعرة ومحاوَرها، أو بالأحرى بينها وبين ذاتها، كما لم تقله لي، بدوري، القصيدة؛ وقد تفصح به لقارئ آخر. ولكن ما أثار انتباهي أن هذا القول الشعري وظف أوجز العبارات وأقل الإمكانات التصويرية والتعبيرية لقول هذه الأشياء. فإلى جانب توظيف أدوات بلاغية مألوفة مثل التشبيه والاستعارة والمجاز، تستند شعرية البوح المكثف في هذه النصوص إلى تقنية التداعي ولغة السرد المتواتر التي تخلق إيقاعا شعريا منسابا متدفقا، وتحقق نمطا من امتداد النص على الرغم من حفاظ النصوص على استقلاليتها.

         وإلى جانب هذه الأدوات توظف الشاعرة نمطا آخر من التقنيات تسهم في تشكيل بلاغة الشذرة، كما نرى في النص التالي:

          » العيون ترى ما تعشق

         وما درب العشق بأكيد » (ص.28)

وهي شعرية تتوكأ على بلاغة الإقرار واليقين والإخبار، مع النفي والشك. وبذلك تبين أن عشق العين خادع نظرا إلى أن دروب العشق ملتوية خفية على الرؤية. إنها دروب يلفها الصمت والغموض، والصدف والمواعيد اللامتوقعة… وقد قال النص حكمته الشذرية في سطرين قصيرين قوامهما جملة إخبار مردوفة بجملة إنشاء، لكنها اتخذت سمت الخبر.  

وإذا كان النص السابق قد استعمل هذه الوسيلة التعبيرية سبيلا نحو تشكيل دلالاته وبلاغته، فإن الشاعرة توظف بلاغة السؤال وتوليد المفارقة أيضا لقول ما تود قوله:

          » أي الأدلة

         خلف الستائر

         الموصدة

         تفتح

         عيون الليل؟ »(ص.27)

         إن هذا الغموض أوالستر الذي يلف كل شئ يفتح عيون الليل على خفايا الحياة وأسرار متعها حتى إن كانت هذه اللحظات قصيرة سريعة في صخبها وعنفوانها، مما يجعلها دون أحلام الذات وتطلعاتها. وهذا النص الشعري يشكل بلاغته الشذرية من خلال المفارقة التي يجريها بين الستائر التي تحجب وعيون الليل التي تتفتح لترصد عوالم الخفاء. وقد أدى السؤال/الاستفهام دورا في تحقيق مفارقة هذه الشذرة لأنه يرد في شكل استنكار أو في إهاب سخرية وتهكم.

         من خلال هذه الرحلة مع « ما لم يُقل بيننا » نجد أن الشاعرة قد قالت كثيرا في أقل كلمات ممكنة، وبأدوات فنية مختلفة حققت للنص بلاغته الشذرية وجماليته الممتدة في آن واحد. وبذلك كان هذا العمل إضافة أخرى إلى دواوينها السابقة التي انتصرت إلى جماليات القصيدة القصيرة المكثفة وإلى بلاغة الشذرة. 

جريدة العلم، يوم 17 /6/ 2011.

Leave A Comment

Recommended Posts