0%
Still working...

سؤال الفكر المقصي في الأزمنة المعاصرة 

قراءة في كتاب “الحق في الرحيلللأديبة فاتحة مرشيد 

دراسة نقدية من إعداد: د. محمد دحمان  (ناقد وكاتب مغربي) 

تعتبر مرشيد شأنا إبداعيا بالغ الأهمية في الأزمنة المعاصرة، ليس لأنها مهمومة بأسئلة الأنثروبولوجيا والتاريخ واللسانيات وعلم النفس، بل لأن فرادتها تكمن أيضا في كونها قد عيّنت، وبهكذا دفعة واحدة، الوضع المقصي للذات ضمن تاريخ الفكر في قالب أدبي ينتظم وفق جنس الرواية. ويعد كتاب” الحق في الرحيل” باكورة إنتاجاتها المنفتحة أكثر على المواضيع المسكوت عنها في العالم المعاصر. يلامس هذا العمل الواقع من خلال استبطان أسئلة تطال الذات في تمفصلها مع المجتمع، ومع الذاكرة، ومع الأسطورة، ومع المعرفة الإنسانية. كما تتداخل فيه الإرادة بالرغبة والشهوة، والوعي والشعور باللاوعي واللاشعور، وتحقيق الإشباع أو تأجيله. قد يدعونا هذا النحو من التفكير إلى طرح الإشكالات التالية: 

 كيف يمكن القول أن مرشيد صاحبة الصيغة التقويضية المعاصرة؟ وعلى أي أساس تم اعتبار المؤلفة ذات أفق إبداعي لتأويل العالم؟ وكيف عملت على الزحزحة الفعلية لنرجسية ميتافزيفا الذات المتضخمة والمتمترسة وراء خطاب الحضور؟ 

1 – مرشيد بوصفها صاحبة الصيغة التقويضية المعاصرة 

إذا كان المقصود بالتقويض وضع اليد على الأحداث والنصوص الكبرى وعدم الاكتفاء بمساءلتها فقط، لكن بغية إبراز ما يعتمل داخلها ومن ثمة مقارعتها. في ضوء ذلك نفهم كيف فكرت مرشيد في أفق مراجعة وتقويض التقليد على وجه الخصوص، وهو التقويض الذي استثمرته في عملها هذا. إننا أمام الاشتغال المباشر مع الفكر الحي الذي يختبر عمق الأشياء في علاقتها مع الواقع ومع المتخيّل كما يؤمن بالمعايير والقيم النبيلة كما هو الأمر أثناء الحديث عن مفهوم الصداقة لذاتها وليس لغيرها، جاء على لسان الراوي:” كان لطفولتي عنوان اسمه صلاح.. صلاح الصديق والأخ الذي لم تلده أمي.. وكثيرا ما كان يطلب مني مرافقته لثقته في أخلاقي.. فضلا عن كونه من النوع الذي يقدس علاقات الصداقة”، ص ص 68-69. كما تتقن المؤلفة تقنية الغوص في أعماق النفس البشرية: “أروع العشيقات أكثرهن ضررا”، ص 96.  

من هذا المنطلق ينبغي التفكير مع مرشيد أبعد من مرشيد “الحق في الرحيل” لا سيما وأنها تعتبر أن الانفلات من ضغط اليومي كامن في البوح بالشعر كما هو شأن هيدغر لحظة استلهامه لهولدرين أثناء حديثه عن الدازاين وفكرة الخلاص من خطر الميتافزيقا مجسّدة في اكتمال التقنية عندئذ نفهم ما قاله هولدرين:” عندما يتعاظم الخطر تتعاظم علامات الخلاص”. 

ليس الغالب على مرشيد النقد كما هو سائد في الساحة العربية، بل تتخطاه إلى ممارسة فعل التقويض، أي تقويض بنى الشعور الجماعي من خلال نقاط التماس المشكّلة لجوهر اللاشعور المتحكم في منطق إنتاج المعرفة من جهة، وفي التمفصلات التي تنتظم فيها العلاقات الاجتماعية من جهة ثانية: بنية الزواج، بنية القرابة، بنية الصداقة.. هكذا كرست المؤلفة حيزا من كتابها هذا للبوح عن سيكولوجيا الأعماق من خلال ما نعتته ب”الحلقة” التي يمكن اعتبارها عبارة عن مناجاة وبوح لما يختلج الذات: “ما أن يبدأ النبيذ في الإعلان عن نفسه في رؤوسنا  حتى نفتتح الحلقة”، ص 88 وما لحقها. وعلى ذكر “الحلقة” وما يستعرض فيها من مواقف وتعبير عن وجدان يكون هذا الكتاب قد عمل بلا كلل على تقويض أسس الوعي الذاتي بإطلاق العنان للاوعي كي يبوح بمكنوناته.  

من هذا المنطلق عملت المؤلفة على تخليص الثقافة من ورطة مركزية الذات كما عملت على تقويض سلطة المعنى. وهي بفعلها هذا تكون قد قوضت ميتافزيقا النص التي تفترض سلفا سلطة المعنى الذي يفترض تسلسل الأحداث بشكل مسبق، يقول الراوي:” من الصعب على أي رجل طبيعي ألا يهيم بامرأة مثلها. لكني ابتعدت عنها.. لن أعطيها أملا خاطئا.. فوجود شبح صلاح بيننا يمنع احتمال أي علاقة”، ص 82. 

 هذا وتبتعد المؤلفة عن منهج الوصف والسرد التبسيطيين. إنه الابتعاد عن الحكي التقليدي للنص. إننا هنا أمام البحث عما هو مقصي وهامشي بالغوص في باطن النفس. إنه البوح والتعبير عما يخالج الذات وما يصاحبها من طموح:” أنا أحب المقامرة بالحياة. أحب اللعب بالأموال وأتحداها. تعلمت كيف أكون لاعبا حذقا. أنا مع الحياة تاجر شاطر”، ص 120.  

هكذا لم تركن مرشيد إلى ما هو سائد كما لم تتبنى منهج النقد المتعارف عليه نظرا لمحدوديته حيث ينحاز بصاحبه ليقع في شراك ميتافزيقا النص معتقدا أنه وصل للحقيقة وامتلك المعنى الذي يقصده المؤلف. إنه بهذا المعنى واهم على اعتبار أن النص يفيض بالمعاني. لهذه الغاية يصح القول بأن المؤلفة تبنت منهج التقويض المفكك والمقوّض للبنى الاجتماعية والأطر الفكرية والمعرفية. 

2 – مرشيد أفق إبداعي لتأويل العالم أو مرشيد معاصرتنا 

إن طريقة التفكير المتداولة ليست هي الطريقة الوحيدة للتفكير، بل على العكس من ذلك هناك إمكانيات هائلة لمعالجة قضايا وأمور يحفل بها نظام التفكير لينفتح على المغايرة بما هي اختلاف وتعدد ما يسمح بامحاء كل إمكانية للإقصاء:” إنك لن تجدي السكينة ما لم تسامحي وتطوي الصفحات الملطخة.. احرقيها يتفتح قلبك لصفحات عذراء.. اهتمي بعالمك الداخلي كثيرا، فعالمنا الداخلي بإمكانه أن يؤثر على العالم الخارجي.. اختاري أن تكوني سعيدة وسوف يتجاوب معك العالم على هذا الأساس”،ص ص 54-55. 

نحن أمام فسيفساء إبداعي يمثل فيه الفكر المقصي بؤرة استراتيجية كما ينذر بتداخل الأجناس الأدبية، لكن ليس تداخلا تقليديا لا سيما وأن الأولوية هنا تمنح للهوامش والفجوات بدلا من المركز في إطار حركية توالدية داخل لعبة الانشطار الأنثربولوجي الذي يفيض به هذا النص موضوع الاشتغال حيث الإنصات في نهاية المطاف إلى لغة العشق في جو مفعم بالسعادة والانتشاء بطعم الحياة سعيا لإرساء معالم أفق يسعد وينعم بمباهج الحياة ضدا على الفهم المتداول عنها باللهث وراء الحاجيات وهموم اليومي:” كنت مستعدا لأتبعها إلى الجحيم حتى، فكيف وهي تعرض علي الجنة، هكذا بتلقائية السعادة، رسمنا للنداء خرائطه.. فلا بوصلة سوى العشق”، ص 64. 

من خلال استقراء المؤلفة للواقع تكون قد نحت منحى يتداخل فيه المجازي بالتخيلي. لا يخلو الأمر تبعا لذلك من ممارسة الحرية سواء على مستوى البوح أو على مستوى تنقل واستنباط البواطن الداخلية للشخصية الرئيسية ولباقي الشخصيات التي تتوزع فضاء هذا النص التي تروم من خلالها إحداث ثورة معرفية كتوظيف فيلسوف الحداثة ديكارت الذي غير مجرى العالم: “بقدر ما كان صلاح نجيبا كان متعبا لأساتذته.. كل نظرية عنده قابلة للنقد.. ومقولة ديكارت: ‘أنا أفكر إذن أنا موجود’ تأخذ كل أبعاجها في حياته اليومية، يقضي وقته في تفكيك الأفكار وتركيبها، وفي طرح الأسئلة المعقدة والمؤرقة’، ص ص 73-74.  

إن اللافت للنظر هو أن مرشيد قد أتت إلى تخريج قراءتها للواقع في نطاق نظرة تشريحية- تحليلية للمجتمع. يقوم هذا التشريح بالبحث في أمور دقيقة تتعلق بأعماق النفس البشرية، أي تقليب وجوه ما هو مطمور داخل أعماق الذات باكتناه البواطن واستجلاء الدواخل وإظهار تناقضات المجتمع، جاء على لسان أحد شخوص هذا العمل:”وكان أغرب ما طلبت مني هو أن أحضر إلى إحدى مرافعاتها بالمحكمة. ما إن انتهت الجلسة حتى أشارت علي بأن أتبعها.. مارسنا الجنس بهمجية وطلبت حقها نقدا قبل أن ترتدي بذلتها الرسمية. كانت ل ‘كلود’ شخصيتان واحدة يعرفها المجتمع ويحترمها، وأخرى لا أعرفها إلا أنا ومراحيض باريس”، ص 95.  

نحن لن نقف هنا عند مسألة فكر الحداثة في عمل مرشيد، بل سنواصل فتح النقاش الدائر حول الانخراط الطوعي لها في تبني استراتيجية التأويل من شدة فرط التخييل والبوح بأفكار جريئة مستوحاة من تفاصيل ما يسود العالم ويجري على خشبة مسرحه وذلك تحت لواء ممارسة فعل البوح:” ‘الحاج اليازيد’ رجل مسالم يفنى في ذريته، لم ألمس فيه ما يبرر التصرف الانتقامي الذي يصدر عن زوجته. يبدو أنها تنتقم من العالم برمته في شخص زوجها أو ربما هناك سر في حياتها لا تعلمه إلا هي”، ص 104 

وفي سياق الدأب على مسألة التأويل وما يحفل به العالم من مشاهد من اللازم التفكير فيها، بغية استحضارها لما لها من حدوث واقعي لافت للنظر لامست المؤلفة علاقة اليتيم بالمتخلى عنه مع الاستحضار الضمني لكل التأويلات المفترضة بهذا الخصوص:”من السهل أن تكون يتيما على أن تكون في عداد المتخلى عنهم. اليتيم ضحية القدر والمتخلى عنه مذنب حتى تثبت براءته”، ص 155. 

ليس الغرض من هذه الهوامش الإعلاء من شأنها على حساب غيرها أو ضدها، بل ملامستها بغية فتح نقاش هادئ ومثمر بخصوصها قصد إنصاف كل ما من شأنه أن يقع في شراكها من جهة، ومن جهة أخرى بالبحث في التمفصلات والارتباطات المشكلة للوحدات الاجتماعية المسكوت عنها في الثقافة. ناهيك عن فك الارتباطات المفترضة بين المركز والهامش سواء تعلق الأمر بسلطة المجتمع وسلطة الخطاب أو ما يقع على أطراف الهوامش: الآثار القانونية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية (الأبوة، الأمومة، العمومة، والخؤولة، على سبيل المثال لا الحصر) لعلاقات الزواج المنتظم وفق التشكيلة الثقافية من جهة، وبما هو نتاج لعقد الزواج الشرعي من جهة ثانية.:” أعلم أن لا أحد يختار والديه، لكن لماذا يكون من حظي أسوأ وأرذل أب، ‘إنه لا يملك بذرة الأبوة’ قالت والدتي، لكن ما ينقصه حقا، هو مجرد قلب يجعل منه إنسانا”، ص 155. 

3- تقويض نرجسية ميتافزيقا الذات والحضور 

انخرطت الكاتبة في إعادة قراءة الفكر العربي الإسلامي من زاوية إعادة النظر في  المفاهيم التي يتأسس عليها هذا الفكر كما انخرطت في فتح حوار معه من خلال هذا العمل بافتراض شخوص تخييلية لها انعكاس على الواقع الأمر الذي يترجم سعة الأفق الإبداعي لديها. إن الأمر يتعلق هنا بالجرأة على إثارة بعض الأسئلة الوجودية المغيبة على مدى التاريخ نظرا لقوة سلطة الأنا الأعلى.  

هكذا تناول هذا العمل مفهوم الموت باعتباره يشكل أرضية غنية لمطارحات فلسفية لا تتوانى ميتافزيقا الذات والحضور من استبعادها. ومن ثمة إقصائها من كل حوار مفترض دفاعا عن نرجسية ميتافزيقا الحياة، وهي بذلك تعيد قراءة الكوجيطو الديكارتي باعتباره ليس الإمكانية الوحيدة للتجارب الإنسانية. 

وباستحضار هذا النقاش، فإن يمكن القول بأن للموت وجوه وأشكال من بينها عدم الاستمتاع بمباهج الحياة. إن فضاء وأفق الحياة أرحب من أن تحتويه ثنايا والتواءات الموت. من هذا المنطلق فإن للموت أشكال كثيرة ولعل فقدان الحياة لمعناها موت، تقول الشخصية الرئيسية محور هذا العمل:”نحن اعتدنا أن نتحدث عن الموت كما لو كان شيئا مخجلا.. نتعامل معه على أساس أنه عقاب وليس شيئا حتميا: أظن أن الإنسان لا يفكر في الموت بما يكفي، لأنه لو فكر فيه لأحب الحياة أكثر.”، ص 166. 

إن طرافة هذا العمل، في هذا السياق، تكمن في أمرين أساسيين، من جهة في تبني المؤلفة لمنطق الصيرورة لا سيما وأنها أفق تأويلي معاصر من حيث إن النظر للحياة  يتم وفق منهج التجدد ضدا على منطق الثبات والجمود: “الحياة تتجدد كل يوم”، ص 152. من هذا المنطلق فإن:”كل شيء قابل للتغير”، ص 73، على اعتبار أن الحياة المتكررة موت، ومن جهة ثانية ينفتح هذا العمل على الأفق التأويلي للأزمنة المعاصرة التي تتغذى من قيم الحرية:” تحرر من يقينك”، ص 189. ونقرأ أيضا: “تعلم كل ما في مقدوره أن يوسع مساحة الحرية لديك”، ص150. أمام هذا الوضع التأويلي نرى كيف أن العالم أفق يتسع للحرية والإبداع وهو وضع يكون فيه الانفتاح على الدازاين كانخراط طوعي في التفكير والإبداع وعلى ضوئهما 

وتأسيسا لما سبق نستطيع القول بأن النصوص المقصية أو المنسية تأخذ نصيبها في منهج التفكير لدى مرشيد متخذة من ذلك آلية لمجابهة النصوص الإبداعية من خلال الزحزحة لما هو سائد في نظام التفكير المتداول. في هذا السياق نفهم النص الإبداعي للمؤلفة: إنها لم تبق أسيرة ميتافزيقاها الخاصة لتضاف لإرث ثقافي تقليدي يثقل كاهل التراث العربي الإسلامي اللامع، بل عملت على استحضار ما هو مقصي في هذا التراث الغني بعطاء رجالاته من وجهة نظر تجديدية تلوح في أفق ما بعد حداثي هاجسها الإبداع، والتأويل، وتقويض تضخم ميتافزيقا الذات والحضور. 

Leave A Comment

Recommended Posts