صورة المثقَّف في المتخيَّل الروائي الأنثوي قراءة في رواية “المُهلمات” لفاتحة مرشيد
رسول محمد رسول
كشفت روايات مغربية عدَّة، صدرت خلال سنوات ماضية، عن صورة المثقَّف العربي والمغربي المعاصر وفق برامج تسريدية متخيَّلة تُسرِّب الواقع على نحو أو آخر، واقع المثقَّف فيما يعيش ويمضي قُدماً في علاقات تواصلية ذات مناح أهوائية، ومواقف تشي برؤى وأفكار واتجاهات سلوكية.
ربما كانت رواية “الملهمات” (1) لفاتحة مرشيد أحد النُّصوص الروائية في هذا المجال، خصوصاً وأنه النَّص الذي حرص على تكثيف كل ما يمكن استثماره في الكتابة المتخيَّلة لصالح تجسيد صورة المثقَّف ابتداء من العنوان، مروراً بالأحداث، وصولاً إلى تمامية ما يريد قوله خطاب الرواية.
من المعروف أن عنوان أية رواية هو “باب العمل الأدبي ومدخله”، كما أن العنوان هو نص مصغَّر يستهدف، ضمناً، محاولة إفشاء سر الملفوظ الروائي، فالعنوان يُعلن والرواية تُفصِّل. وكان شارل غريفل قد حدَّد للعنوان مجموعة من الوظائف هي: التسمية، والتعيين، والإشهار (2).
في رواية “المُلهمات” لفاتحة مرشيد، وحتى الصفحة الحادية والخمسين من متنها النَّصي، لا توجد ملفوظات سردية أو حكايات جزئية أو فرعية دالة على “العنوان”، ولكن في الفصل الثامن منه، تكشف الناصَّة Textor، وعلى لسان “إدريس”، عما له صلة بعنوان الرواية “المُلهمات” وذلك في الملفوظين الآتيين: “من الرائج أن لكلِّ مبدع مُلهمة تفتح له خزائن السِّحر” (ص 52). وأن “من المبدعين من اقتصر على مُلهمة واحدة طوال حياته كقيس ليلى، وأرغون مجنون إلسا، وهناك من احتاج إلى مُلهمات عديدات وأنا مثال حي على ذلك” (ص 53). وأضاف مخاطباً القارئ: “علاقتي بمُلهماتي كانت تتخذ الحب أرضية لها، ومن هنا كانت مُلهماتي حبيباتي وحبيباتي مُلهماتي” (ص 55). ليس هذا فحسب، بل سعى إدريس، وعلى نحو إخباري، إلى نقل موقف صديقه “عمر” عن الإلهام، عمر الماكث في المشفى فاقداً الوعي، والذي قال يوماً: “إننا كرجال نحتاج إلى ملهمات في الحياة، لأن الحياة نفسها تتطلَّب منّا إبداعاً في عيشها” (ص 55).
ومن خلال الأستاذ إدريس تعرَّفنا إلى موقف عمر من “الإلهام”، حيث قال برواية إدريس إنه كان “مؤمناً بأن العقل هو منبع الإلهام” (ص 57). لكن إدريس قال إن “كوثر كانت آخر مُلهمات عمر” (ص 57). أما إدريس نفسه فقد تحدَّث عن الإلهام في أثناء علاقته الجنسية مع طالبته “ياسمين”، وقال: إنها “تفوَّقت في لعب دور المُلهمة بامتياز” (ص 69)، وأضاف: “مع كل لقاء بها أخطُّ قصة بأكملها”، بل أكد أن علاقته بها أنتجت مشروعاً معرفياً جديداً: “أصدرتُ أول مجموعة قصصية كانت فتحاً في فن التجريب بالمغرب، واعتبرها النقَّاد مدرسة جديدة” (ص 69).
ليس هذا فحسب؛ فقد عاد إدريس إلى مسألة الإلهام عندما سرد علاقته بالرسامة الألمانية رجينا، وقال في هذا الصدد: “أنا من يُراكم المُلهمات” (ص 139). والأمر نفسه مع الراقصة الصينية “جون”. وهنا نستوضح العلاقة بين الإلهام والممارسة الجنسية في الرواية.
يبدو لي أن دلالة عنوان الرواية “المُلهمات” وجدت ضالتها في أغلب حكايات إدريس، لكنها لم تظهر مع بقية الفاعلين في الرواية سوى لدى عمر، وعلى نحو قليل، ونقلاً عن إدريس فقط. واعتمدت “المُلهمات” نسيجاً متخيلاً كاملاً في بناء حكاية الرواية؛ فحتى الصفحة الثانية والثلاثين لم نجد أية إشارة أو أي دال أو ملفوظ سردي يحيلنا على الفضاء المكاني للرواية؛ فقط وردت كلمة “مدينة” وكلمة “شارع” بالمطلق، ولكن، في أثناء لقاء “أمينة” مع صديقتها الإعلامية “صباح”، تعرَّفنا إلى أن مكان أحداث الرواية كانت قد دارت بالمغرب، وذلك عندما أجرت “صباح”، وهي إعلامية وغربية، مقابلات تلفازية مع نساء مغربيات صحراويات في “مدينة العيون”، وتحديداً عن موضوع احتفالهن بطلاقهن من أزواجهن (ص 33). وإلى جانب إشارة أخرى عن المرأة المغربية وردت في الصفحة الخامسة والثلاثين. وما ورد، كذلك، في الصفحة الخمسين من الرواية بما يدل على الفضاء المكاني الذي دارت فيه بعض الأحداث عندما تحدَّثت أمينة عن أحلامها مع زوجها “عمر” بتأسيس دار للنشر اسمها “مرايا” تكون مرآة للثقافة المغربية. إلى جانب ذلك، وهناك أسماء أخرى دالة على المكان المغربي مثل: “شارع مولاي يوسف” (ص73)، و”قرية إيمسوان الساحلية” بين مدينة “الصويرة”، و”أغادير”، وكذلك مدينة “الدار البيضاء”، (ص109) وغيرها من الأمكنة.
ليست رواية “المُلهمات” أحادية الحكاية؛ خصوصاً وأن عنوانها يشير إلى صيغة الجمع “ملهمات”، ما يعني أننا بإزاء حكايات متعدَّدة بين رجال ونساء، ولكن تبقى بعض الشَّخصيات محورية في إنتاج حكاياتها، وبالتالي نسج حكاية الرواية الكبرى، ومثال ذلك:
ـ حكايات عمر + أمينة + حكاية ناشر مثقَّف + حكاية عاشق لنساء عدَّة غير زوجته + حكاية خياناته لزوجته مع نساء أخريات + حكاية الشَّقة السرية في المطبعة لأغراض ممارسة الجنس وقضاء ليال حمراء + حكاية تعرُّضه لحادث سير + حكاية غيبوبته + حكايته الغرامية مع مضيفة الطيران كوثر الأبيض + حكايته مع الكاتبة الشابة سارة بن شقرون (ص 119)، وحكاية صداقته لإدريس + وغير ذلك من حكايات كشفها لنا إدريس مرَّة، وزوجته أمينة، وابنهما “أمير” وابنتها “خولة” مرّات أخرى.
ـ حكايات أمينة: حكاية خيانة زوجها لها مع أخريات + حكاية تهميشه لها + حكاية متابعتها لمرضه في المشفى + حكاية الروي لزوجها فاقد الوعي + حكايتها مع والدته الهرمة “مريم”+ حكايتها مع الصحافية صباح + حكايتها الغرامية مع المصور الفوتوغرافي “صبري” (ص 118) وحكايتها مع أولادها + حكايتها مع المطبعة + حكاية اكتشافها للشقة السِّرية التي كان زوجها عمر يمارس فيها الدعارة (ص 141).
ـ حكايات إدريس: حكاية علاقته مع “هناء”؛ حكايات مراحل علاقته معها: علاقة جنسية محرَّمة + علاقة حب وجنس محرَّم + حكاية زواجه منها + حكاية إصابتها بمرض السرطان + حكاية بكاؤه المتكرِّر عليها وحنينه إليها + حكاية كتابة القصص والرواية + حكايته الجنسية مع “ياسمين” تلميذته السابقة+ وحكايته الجنسية مع “زينة” الخادمة + حكايته الجنسية مع المطربة “شروق” +حكايته مع الرسامة الألمانية “رجينا” + حكايته مع الراقصة الصينية “جون” + وحكايته مع “ثريا” زوجة صديقه (ص 113) + وحكايته مع الصحافية السعودية “رجاء” التي أودت بصحته مرضاً سرطانياً (ص160) + حكايته مع “أمينة” زوجة صديقه عمر + حكاية كتابته رواية + حكايته مع “والدته” و”الدادا” والعلاقة المثلية أو السُّحاقية بينهما + حكاية عقدته النفسية وميله المبكِّر إلى الدعارة والخلاعة + حكايته مع مرض سرطان البروستات، وغير ذلك.
ـ حكايات “صباح” مع أمينة + حكايتها مع إدريس + حكايتها مع زملائها في المهنة + حكايتها مع حبيبها “سيباستيان”، حكايتها مع نساء “مدينة العيون” الصحراوية.
ـ حكاية “فطومة” الخادمة مع ابن عمها وحبيبها “الحسين” الهارب إلى أوروبا، وزواجه من عجوز هولندية.
ـ حكايات أولاد عمر مع والدتهم أمينة.
كانت كل هذه الحكايات الجزئية متعاضدة في بناء حكاية الرواية الكلية. وهو التعاضد الذي أكَّد على وحدة البناء الحكائي رغم وجود إمكانية الفصل الكلي لكل حكاية عن غيرها.
ليست روايات فاتحة مرشيد روايات الشَّخصية الواحدة؛ ففي “المُلهمات” كما في رواية “مخالب المتعة”، تتعدَّد الشَّخصيات أو الفاعلين فيها، ويتناسل حضورها في الخط السَّردي للحكاية تباعاً، لكن شخصيات مثل أمينة + عمر، وإدريس + هناء وصباح، تبدو رئيسية، فضلاً عن نساء إدريس المُلهمات.
ومع أن عمر المسجّى على سرير الغيبوبة، نراه يحضر من خلال سرد السّارد أو من خلال ملفوظات زوجته أمينة السَّردية أو من خلال ما يذكره إدريس عنه من كونه صديقاً له أو من خلال والدته “مريم” أو الخادمة “فاطمة”، نلاحظ أن حضوره الأكبر جاء بعد الصفحة السابعة والأربعين عندما تحوَّل عُمر إلى مرويٍّ له بعد نصيحة الطبيب لأمينة أن تحادثه وهو المغمي عليه، فقرَّرت سرد بعض ما عاشه في حياته مع أمينة منذ أن تعرَّفا في المرحلة الجامعية، لكن هذا السَّرد سرعان ما توقَّف! ومع ذلك كانت التفاتة تقنية جميلة بادرت إليها الناصَّة في الرواية.
ورغم أن هناء ماتت بمرض السَّرطان، نلاحظ أنها تحضر من خلال تمثيلات إدريس والخادمة فاطمة لها، لكن فاتحة مرشيد ظلَّت تضاعف من فاعلية حضور إدريس في الرواية كما لو كانت الشَّخصية الرئيسة عبرَ استعراض علاقاته ومغامرّاته الجنسية مع نساء عديدات مثل ياسمين، طالبته الجامعية سابقا، وزينة الخادمة، وغيرهن من اللواتي ذكرتهن سابقاً حتى إنه كتب قائلاً: “أنا صنيع كل النساء اللواتي عبرنَ حياتي” (ص 13)، بل إنه يؤكِّد على أنه “دائم الجوع للنساء.. يحبهن لدرجة السادية”! (ص 91).
يتعدَّد صوت الراوي في “المُلهمات”، إذ تبدأ الرواية بأمينة كراوية لحال زوجها، لكننا سرعان ما نلقى الراوي المركزي آخذاً بزمام الروي قدر تعلُّق الأمر بإدريس، ومن ثم تركت فاتحة مرشيد، بوصفها الناصَّة، تركت إدريس نفسه يخاطب القراء مباشرة (ص 160)، وعاد الراوي المركزي راوياً للحدث، وهكذا لسنا بصدد راو يروي كل أحداث الرواية، إنما أشركت فاتحة مرشيد أبطال روايتها أنفسهم في الحديث عن المسرودة في المتن الحكائي، وهي بذلك خرجت من نمطية الراوي الواحد المستبد بعملية الروي إلى رواة متعدِّدي الأصوات ليصبح الروي متعدَّد الأصوات داخل النص، وجعلت أبطال روايتها يشاركون في عملية الروي بوصفهم الرواة الفاعلون (3).
تلجأ فاتحة مرشيد كعادتها في كل رواياتها، ومنها رواية “لملهمات”، إلى توظيف التناص كأحد تقنيات الكتابة الروائية. وكانت جوليا كرستيفا تعتقد أن التناص هو “كل نص يشكَّل في صورة فسيفساء من الشواهد، وأن كل نص هو تشرُّب لنصٍّ آخر، وتحويل له”. وفي الواقع كثير من النقّاد الغربيين قد فلسفوا مفهوم التناص، فهو “يتأسَّس لدى كرستيفا ورولان بارت على مفهومٍ للنَّص باعتباره ممارسة دالة، أي أنه عملية أو عمل يُوظف فيه حوار الذات والغير والسياق الاجتماعي معاً، ودفعة واحدة، باعتباره إنتاجية؛ فليس هو نتاج عمل قام به الكاتب، وإنما هو مسرح للإنتاج يلتقي فيه الكاتب والقارئ” (4).
التناص إذن فعل وممارسة دالة في الكتابة الروائية، ويتجلى ذلك في “المُلهمات” من خلال لجوء فاتحة مرشيد كناصَّة إلى توظيف مجموعة من مقولات وملفوظات عدد من المبدعين والكتَّاب الغربيين والعرب في سياق برامج سردية ووحدات قرائية تتوارد تلقائياً في الخط السَّردي بالرواية مثل مقولات أندريه مارلو (ص 15)، وفرجينيا وولف (ص15)، وفان كوخ (ص27)، وبول إيلوار (ص28)، ولونسون تشرشل (ص44)، وامرئ القيس (ص47)، وروني شار (ص 56)، وأوسكار وايلد (ص 68)، وجورج ساند (ص 81)، ولورد بايرون (ص91)، وموريس شبلان (ص 111)، وموسيقى شارل أزنفور، وأشعار إدغار أ بو (ص139)، والشاعر فرناندو بيسوا (ص140)، وأغنيات أم كلثوم (ص 150)، وموسيقى شوبان (ص 138)، وغير ذلك مما جعل من نسيج الرواية نصاً منفتحاً على نصوص الآخرين من المبدعين، وكانت فاتحة مرشيد بارعة في توظيف هذه النُّصوص في سياق الخط السردي للرواية وبما يتناسب مع أداء كل حكاية أو حدث فيها.
إلى حدٍّ ما تنتمي (المُلهمات) إلى ما يُعرف برواية الأدراج تلك الرواية التي “تقوم على حكايات كثيرة تتوالى في ما بينها قد لا تتعلَّق مباشرة بالحبكة المركزية” (5). وأكرر قولي “إلى حدٍّ ما”؛ فعنوان الرواية “المُلهمات” يشير إلى مجموعة نساء يلهمن الرجال في فعل ما، ما يعني أن هذا العنوان لا بدَّ أن يبشِّر بالحبكة المركزية التي يتعاضد كل المشاركين في حكايات الرواية ببنائها على نحو متراص، لكننا، حين الانتهاء من قراءة الرواية، لا نجد فعل التراص ذاك سوى أن الرواية هي حكاية إدريس مع ملهماته!
ما الذي تريد أن تقوله الرواية أو ما هو خطابها أو ما تريد قوله فاتحة مرشيد في روايتها هذه؟ في الحقيقة هناك من يعتقد أن ما تريد قوله فاتحة مرشيد في روايتها هذه هو المطابقة بين الفعل الإبداعي والفعل الجنسي، وهذا غير ممكن علمياً في الواقع ـ الواقعي، لكنه ممكن في الواقع المتخيَّل كما هو الحال في نسيج الرواية، لأن العملية الجنسية تتطلَّب جهداً يستنزفه المُمارس في المضاجعة، بينما الفعل الإبداعي يحتاج إلى قوة دافعة للخلق، ولكن لا حياء لكل ما هو فنتازي.
أما أنا فأعتقد أن الرواية تريد تعرية وفضح مجتمع المثقَّفين في كل مكان، لأن إدريس المغربي، وعمر المغربي، وصبري الفلسطيني، ورجينا الألمانية، ورجاء السُّعودية، وصباح المغربية، وياسمين المغربية، وزينة المغربية، شروق المغربية، وثريا المغربية صاحبة الصالون الثقافي، وطليقة الشاعر صديق إدريس، كل هؤلاء نخبة تعمل في الإنتاج الثقافي والإبداعي. جميعهم، وبحسب الرواية، يفهم الحياة على أنها غابة يشاع فيها كل فعل محرَّم (ولعل التناص مع مقطع من قصيدة بيسوا شاهد على ذلك) (اُنظر ص 140)، وأن نخبة المثقَّفين هذه لا تعرف للقيم حدوداً ولا أخلاقاً؛ فإدريس ضاجع ثريا طليقة صديقه الشاعر، وقال عنها: “كانت تسعد كلما كتبتُ شيئاً بعد مضاجعتها” (ص 114). بل أراد التحرُّش بأمينة حتى هي، لكنه لم يلق مراده. وهذا مجرَّد موقف صارخ، وهناك مواقف أخرى حرصت الناصَّة على تسريدها كمدارات فرعية دالة على انزياح النُّخبة المثقَّفة صوب تخليع وتعهير وفجْرنة العلاقات الإنسانية بين النساء والرجال، وقدَّمت، في هذا السياق، نماذج صارخة الوضوح.
إنَّ مفهوم “الإلهام” هو واحد من المفاهيم الراقية الذي يتعلَّق بالإبداع النَّقي، لكن فاتحة مرشيد أزاحت دلالته إلى دلالة أخرى أصبح فيها رخيصاً، وذلك عندما فقد عذريته وبراءته وأخلاقيته، وصار مقروناً بالخلاعة؛ فكل الإناث المُلهمات المشاركات في الرواية كانت الممارسة الجنسية معهن من جانب الذكور مصدر إلهام، أي كانت العلاقة الجسديَّة والانتعاظية الجنسية هي مصدر إلهام في حين تغيب الروح الأنثوية مصدر إلهام للذكور، وتغيب الروح الذكورية مصدر إلهام للإناث، وحلَّت، بدلاً من ذلك، الرغبة الانتعاظية مصدرا للإلهام المتبادل بين الطرفين.
نلاحظ أن السُّلوك الذكوري والأنثوي، سلوك النُّخبة المثقَّفة المتبادل، كما يظهر ويحضر ويمارس فعل الحياة البيني والتواصلي في أحداث الرواية، أظهر شخصيات هذه النُّخب ككائنات تدفعها الغرائز الجنسية لا غير تحت تبرير قصدية الإلهام، فصار الجنس، وصارت الممارسة الجنسية، هي الغاية، وصار الإلهام مبرِّرها القريب، وصارت الممارسات الجنسية هي المولِّد للحظة الإبداع الجمالي، ويتجلى ذلك أكثر في شخصية إدريس التي انزاحت بمفهوم العلاقة بين الإلهام والجنس إلى أقصى الحدود المتطرفِّة؛ إدريس، المثقَّف والأستاذ الجامعي وكاتب القصَّة القصيرة والرواية، شوَّه مفهوم “الإلهام” عندما قدَّم نفسه كما لو كان “دون جوان” عاشقا للنساء أينما حلَّ وارتحل، وعندما جعل من الذات الأنثوية أداة طيعة سريعة الاستجابة لنزواته الجنسية، وجعل من الجسد الأنثوي مشروعاً لانتهاكات ذكورته المتكرِّرة لحُرمات ومقدَّسات هذا الجسد وتلك الذات ما يُعدُّ أنموذجاً للذكورة الفاسدة.
إنَّ هذه الذكورة التي تختبئ خلف شخصية “مثقَّف”، لا تجعل الناصَّة أو فاتحة مرشيد من انهماكها باللذات الجنسية مندلقة دونما تبرير، بل نجدها تبث في شخصية إدريس اعتقادات تبرِّر السلوك اليومي لهذه الشَّخصية؛ فالسيد إدريس يرى أنه “كمبدع في حالة بحث مستمر عن إحساس جديد، انفعال جديد، وفكر جديد، فأنا حتماً في حالة بحث مستمر عن مُلهمة جديدة”، ويضيف مستدركاً: “إلا أن علاقاتي بمُلهماتي كانت تتخذ الحب أرضية لها، ومن هنا كانت مُلهماتي حبيباتي وحبيباتي مُلهماتي” (ص 55).
لا ريب في أن كل مبدع، ومنه كاتب هذا المقال، يبحث عن إحساس جديد، وانفعال جديد، ولكن يمكن أن تكون هذه الحال الانفعالية بحد ذاتها هي مصدر إلهام، أما أن يجعل المبدع المرأة مصدر الإلهام مباشرة فذاك أمر آخر. وبالتالي نحن نعتقد أن مفهوم “الحب” الذي يتحدث عنه إدريس، ومن خلال استقراء تجاربه مع مُلهماته، هو الحب البرجماتي، الحب/ المصلحة، الحب الوصولي، الحب الوسيلة؛ فمن هنَّ حبيبات إدريس؟
إنهن نساء الصدفة، نساء الجسد المباح، نساء الذوات الحائرة، فحتى زوجته “هناء” تعرَّف إليها بداية، ودخل معها في علاقة جنسية، وانتهك جسدها، ومن ثم تزوجها، وأحبها بُعيد وفاتها، وهو الحب المغشوش، فلو كان وفياً لها لما ارتمى في أحضان غيرها من دون أن يرتبط بعلاقة زواج. وما عدا ذلك، لا توجد امرأة من نساء إدريس عاش معها “الحب”، ما عدا الحب الوصولي، الحب الذي يباح فيه جسد الضحية على نحو داعر من أجل لحظة إلهام يدعيها.
كنتُ أتمنى من فاتحة مرشيد أن تميل، كونها الناصَّة في هذه الرواية، إلى الحياد في رسم معالم هذه الشَّخصية، لكنها وقعت في فخ التطرُّف لصالح إدريس عندما ختمت روايتها بالكشف عن أسباب تطرّفه الجنسي في حادثة ما رآه في السابعة من عمره، وبعيد وفاة والده، من عملية سُحاق جنسي جرت رحاها بين أمه وما أسماه بـ “الدادة” (اًنظر ص 179)، وكان ذلك، يقول إدريس: “أول حادث زلزال في علاقتي بالنساء” (ص 180). إن مجرد الإتيان على تسريد ما جرى بطفولة المرض أوقع فاتحة مرشيد في دوائر التبرير الفائض عن الحاجة. ما يعني أن سلوك المثقَّف رهن أمراض طفولته، وأمراض محيطه، وليس في ذلك شك، لكن فاتحة مرشيد قدَّمت لنا صورة مثقَّف مغربي رسالته مداواة الناس لكنه العليل، وأية علَّة؟ إنها علَّة الارتماء في أوحال الإباحية السلبية، والإنتاج الإنساني السلبي، والتواصل السلبي الذي يستنزف الذات الذكورية بقدر ما يستنزف الذات الأنثوية على السواء؛ فلقد أودت علاقته الجنسية بملهمته السعودية “رجاء” أودت بحياته الصحية عندما أصيب بمرض السرطان جرّاء مضاجعته لها وهي تعيش زمن الدورة الشَّهرية. ولو أردنا أن نذهب أعمق لتحدَّثنا عن علاقته الجنسية بـ “ياسمين”، تلميذة الأستاذ إدريس في الجامعة التي كانت “أول من دشن عشب الحب والإبداع معي” كما يقول سيد إدريس (ص 68).
لعلنا ننتبه إلى واو العطف في ملفوظ “عش الحب والإبداع”، خصوصاً وأن إدريس سيفسِّر لنا تلك العلاقة بينهما عندما سيتحدَّث عن الفعل الجنسي والكتابة، وهو فعل إبداعي، يقول إدريس عن تجربته مع ياسمين: “فاقت مهاراتها الجنسية مهارات كل اللواتي عرفتهن من قبلها، كما تفوَّقت في لعب دور المُلهمة بامتياز، بحيث كلما انتهينا من ممارسة الحب؛ موظِّفين الخيال العلمي والفنتازيا، وجلستُ إلى المكتب، إلا وتنهال عليَّ الأفكار من حيث لا أحتسب، فمع كل لقاء بها أخطُّ قصة بأكملها، أكون أول من يفاجأ بالبناء المتماسك لأحداثها” (ص 68 ـ 69). ولعل تجربته مع الصحافية “صباح” تعد أنموذجاً في هذا السياق، فقد أخبرت صديقتها أمينة قائلة: “تخيلي، أنه بعد ممارسة الجنس مباشرة، وأنا استرد أنفاسي، نهض مهرولاً من دون أن يرتدي ثيابه، جلس على مكتبي، وبدأ يكتب، يكتب من دون حتى أن يلتفت إليَّ أو يكلمني، كان غارقاً في الكتابة وأنا أنظر إليه” (ص 78).
أما من الناحية الأخلاقية، فيبدو أن إدريس يعمل بالمتاح والممكن والمباح بغض النظر عن أية مرجعية أخلاقية؛ فكيف لإنسان يدّعي أنه مثقَّف أن يسيل لعاب غريزته الهائجة حتى على فتاة تعمل خدّامة في مكتب صديقه عمر، زينة التي ظل يتابعها كالطريدة حتى امتطاها “ثم امتطيتها.. امتطيتها كما حلمت.. من الخلف.. وهي في وضعية مسح البلاط” (ص 87). إنها الحالة المرضية التي شخصتها صباح بقولها لأمينة: “هو لا يحب المرأة، ولا يحب الحب، ولا يحب الجنس حتى، هو يحب الكاتب فيه، فقط لا غير، أما الإنسان فقد توارى إلى غير رجعة وراء أوراقه وأقلامه” (ص 79).
ليس إدريس الكاتب والقاص والروائي والأستاذ الجامعي الغارق في مضارب العهر الرخيص وحده من تمادى في دفع صورته كمثقَّف شطر ما هو سلبي، فقد كان “عمر” محسوباً على نخبة المثقَّفين كونه الناشر المثالي الذي أراد أن يختلف عن نظرائه الناشرين. وبينما كان عمر راقداً في المشفى، كشفت زوجته “أمينة” عن شقَّة سرية في مقر عمله بالمطبعة التي يملكها، الشّقة التي كان يمضي فيها لياليه الحمراء مع صديقاته أو حبيباته أو لنقل مُلهماته، ومنهن “كوثر الأبيض” التي ماتت معه في حادث سير، وغيرها من الصبايا المُلهمات. لذلك تخاطبه أمينة وهو الراقد في غيبوبته: “لم أكن أعلم حينها أنك فعلاً ستحتفظ من علاقتنا برؤوس الأقلام، وتؤثِّث حياتك بتفاصيلك الخاصة” (ص 48).
قد لا تكون أمينة، زوجة عمر، محسوبة على نخبة المثقَّفين، لكنها تعيش في فضائهم الاجتماعي والأسري، لكنها هي الأخرى دخلت في علاقة جنسية مع مثقَّف أو فنان فلسطيني هو “صبري”.
وفي حين جرَّبت “صباح” العلاقة الجنسية مرَّة المذاق مع إدريس، كما أسلفت، نراها لم تكتف بذلك؛ فصباح الإعلامية “اختارت، عن قناعة، ألا ترتبط بعقد زواج، وأن تعيش حياتها العاطفية والجنسية بكل حرية” (ص 31). لذلك انشرحت في علاقتها الجنسية محاولة أن تتميز عن العاهرات أو عن كونها مجرَّد مومس؛ تقول لأمينة: “أنا أختار عشاقي، بينما العاهرة يختارها زباؤنها، حرية الاختيار هي التي تجعل مني امرأة حرة” (ص 80).
إذا ما أردنا أن نبقى في عالم الأنوثة فإننا نجد الصحافية السعودية “رجاء”، والراقصة الصينية “جون”، والرسامة الألمانية “رجينا”، والمطربة “شروق”، هنَّ عاملات في الحقل الثقافي والإعلامي والفني، ما يعني إنهنَّ من الأوساط الثقافية. وجميعهن جرَّبن العلاقة الجنسية مع إدريس، لذلك يمكن اعتبارهن نماذج للمثقَّفات اللاتي سعت فاتحة مرشيد إلى رسم صورة سلبية لهنَّ مثلما سعت إلى رسم صورة سلبية مماثلة للمثقَّفين الذين تمَّ تسريد شخصياتهم في الرواية.
بذلك يتساوى فعل الشخصية المثقَّفة، إناثا وذكورا، في تكريس صورة للعاملين في الحقل الثقافي، صورة سلبية تحكمها مرَّة أمراض الطفولة واحتقانات التربية، وتدفعها مرّات جملة من القناعات الفاسدة التي يتوارى فيها الإنسان كقيمة رفيعة القيم خلف نزواته التي يبني عالمه الزائف لكي يجسدها على أنها ضرورة.
——–
1-فاتحة مرشيد: المُلهمات، رواية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 201.
2- عبد المالك أشهبون: العنوان في الرواية، ص 19 ـ 20، دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2011.
3-حول مفهوم الراوي الفاعل أو المشارك Narrators –agent، اُنظر جيرالد برنس: قاموس السَّرديات، ترجمة: السيد إمام، مادة “الراوي ـ الفاعل”، ص 135، دار ميريت، القاهرة، 2003
4-للمزيد حول مفهوم التناص اُنظر “معجم السَّرديات”، مادة “تناص”،، إشراف محمد القاضي، دار الفارابي، بيروت، 2010.
5-محمد القاضي: المصدر السابق نفسه، ص 216
مجلة “علامات” العدد 39، السنة 2013