د. عدنان الظاهر:
مقتبسات عن رواية ( لحظات لا غير ) للدكتورة فاتحة مرشيد . الناشر : المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء ، المغرب / الطبعة الأولى 2007 .
يا متنبي … هل أتاك حديث الطبيبة أسماء ؟ بهت الرجل ، لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال . كان مشوقاً أن يسمع أخبار حب وغرام وتولّه . تماسك فسألني عمّن تكون هذه الأسماء الطبيبة ؟ ما خطبها ؟ ما علاقتها بشؤوننا الخاصة ؟ معك حق يا متنبي ، أنت لا تعرف هذه الطبيبة المريضة التي عالجت أحد مرضاها فوقعت في حبه . شدّت هذه الكلمات إنتباه صاحبي وأثارت فيه الكثير من الفضول . تساءل مستنكراً : طبيبة تقع في حب مريضها ؟ أجل يا أبا الطيّب . وقعت فعلاً في حب المريض الذي أوشك على الموت إنتحاراً يأسا ً من الحياة لإصابته بمرض السوداء ( المالنخوليا ) . إذاً ، قال ، كانت أسماء طبيبة مختصة بالطب النفساني ؟ صح . كانت كذلك . طيب ، وما كانت علّتها وهي الطبيبة ؟ سرطان الثدي يا صاحبي . وهل أُستأُصل هذا الورم الخبيث ؟ بل تم إستئصال الثدي ، رمز الأنوثة كما تسميه . بعد عملية إستئصال الثدي المصاب وافقت على إجراء عملية تجميل الصدر . وضّح ، قال ، ما معنى عملية تجميل الصدر ؟ وضع لها الطبيب الجراح في باريس نهداً في مكان النهد الذي أُزيل … نهداً من مادة السيليكون فإستوى لها نهدان في صدرها وإستعادت عافيتها النفسية والجسدية . بعد نجاح عملية زرع الثدي السيليكوني قال لها الجراح (( ستكونين فخورة بنهديك )) . ثم قد أدمنت القول (( لا بدَّ أن نحبَّ أنفسنا لكي يحبنا الآخرون )) . وأقوال أخرى من قبيل (( كيف لا أصبر على زرع الجمال وقد صبرتُ على إستئصاله ؟ )) . ظل المتنبي ذاهلاً وهو يصغي لهذه الأحاديث التي لم يسمع بها قبلاً . تساءل صبوراً محتاراً : عرفت محنتها بعلّتها الخطيرة ولكن لم أفهم بعدُ كيف ولماذا وقعت في حب أحد مرضاها وهل يحب الأطباء ُ مرضاهم ؟ هي تجيبك عن هذا السؤال يا متنبي . قال كيف ؟ قالت (( أهو المرض يقرّبنا من بعضنا أم أن تواجدي بنفس المدينة التي يسكنها قد جعله حاضراً أكثر ؟ )) . ظلَّ ضيفي مشتت الفكر زائغ البصر لا يصدق ما يسمع . دخّن وإنصرف إلى بعض شؤونه وغمغم بنغم مجهول ، إستدار نحوي ثم قال : لا أصدق أن طبيبة ً عاقلة ً تقع أو توقع نفسها في حب رجل مجنون أو معتوه أو موسوس أو سوداوي الطبيعة مهما كان ثرياً أو موهوباً أبداً . هذا ما حصل يا متنبي ، هذا ما حصل مع أسماء الطبيبة . ماذا وجدتْ فيه ؟ هي ستجيبك عن هذا السؤال . إسمع ما قالت (( … وها هو مريض تائه حاول الإنتحار إستطاع أن يمنحني الأمان للإبحار بعيداً في محطات الذاكرة . أعادني للقراءة ، صالحني مع القلم ومع جسدي )) . قال هذه فيلسوفة ومنطقها منطق فلاسفة وليس منطق أطباء . إنها تجمع الإثنين يا صاحبي ، طبيبة وفيلسوفة ومثقفة كبيرة . ثم إنَّها تعتبر (( الفلسفة أمُّ العلوم ) . ظل المتنبي يردد بصوت خفيض [[ صالحني مع القلم ومع جسدي ]] . هل أعجبتك الفكرة ؟ قال أعجبتني وحيّرتني . قد أفهم المصالحة مع القلم ، الأقلام تتكلم وقد سبق وأن قلت :
حتى رجعتُ وأقلامي قوائل ُ لي
المجد ُ للسيف ِ ليس المجدُ للقلمِ
أُكتب ْ بنا أبدا ً بعد الكتابِ بهِ
فإنما نحن ُ للأسياف ِ كالخَدَمِ
قلتُ هذا الكلام قبل الطبيبة السيدة أسماء بعشرات القرون . لكنَّ المشكلة العويصة ظلّت كما كانت حول المصالحة مع الجسد . كيف يصالح ُ رجلٌ مكتئب ٌ غيرُ سوي طبيبةً ً مع جسدها ؟ لا تقلق يا عزيزي ، الطبيبة وضّحت القصد . قالت (( جعلني أُحب نفسي من جديد هو الذي كره َ نفسه حد َّ العدم )) . قال لم تصب ْ الطبيبة . تكلمت هناك عن الجسد بينما تكلمت هنا عن النفس . ألا يفرّق الأطباء بين النفس والجسد ؟ هل حب النفس مصالحة مع الجسد ؟ لا تتشاءم ولا تبالغ في شكوكك يا متنبي . صحة الجسد من صحة النفس . يمرض الجسد إذا مرضت نفس الإنسان . أفلم تقل ْ أنت نفسك :
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طبّه ِ أني جوادٌ
أضرَّ بجسمهِ طولُ الجَمامِ
الراحة الإضطرارية والإقامة الجبرية في بيتك هي التي أسقمتك وأمرضتك ، لا شرابك ولا طعامك . أنت ميّزتَ هنا بين نفسك وجسدك .
إعتلّت منك النفس المقهورة بالعزل المفروض عليك ( أو عليها ) فإعتل َّ فيك الجسد .
ثم قولك :
وإذا كانت النفوس ُ كِبارا ً
تعبت ْ في مُرادِها الأجسامُ ؟
لقد ربطت بإحكام بين النفس والجسد . تضخّم النفوس يتعب الأجساد . تعب أو مرض الأجساد متعلق بإنحراف النفس البشرية بداء جنون العَظَمة. قال أقنعتني بأشعاري يا رجل . سأجعلك أحد رواة شعري كإبن جنّي . قلت له شكراً ، شكراً جزيلاً … لا أصلح لهذه الشغلة .
بعد فترة إستراحة قصيرة سأل المتنبي : وهل تزوجت أسماء الطبيبة من مريضها بعد أن تماثل على يديها للشفاء ؟ وهل كانت متزوجة من قبل أن تتعرف عليه مريضاً ؟ نعم ، كانت متزوجة من رجل لم يعرْها ما تستحق من إهتمام إنسانة ً وإمرأة فإنفصلت عنه بالطلاق . قالت عنه حرفيا ً (( لم يكن لديه وقت للوقوف عند عتبات جسدي … ليتأملني أو يعرّيني بعينيه . حتى خلال ممارستنا للجنس كان يتعمّد إطفاء النور قبل أن يقوم َ بحركات دقيقة شبه آلية ، يستلقي بعدها مباشرة ً ليقرأ مقالاً في جراحة القلب …. بينما أتكوّر أنا تحت اللحاف كرضيع يبحث عن رائحة أمّه )) . جريئة والله ِ جريئة هذه المرأة الطبيبة . ليتها تتزوجني . أنا أعرف كيف أُداري نسائي …. قال المتنبي معلِّقاً . وهل تزوجت ثانية ً بعد طلاقها من زوجها الأول ؟ نعم ، تزوجت من مريضها السابق الشاعر والأستاذ الجامعي
( وحيد الكامل ) بعد إنفصاله عن ( سوزان ) … زوجه الفرنسية . زواجها الثاني هذا أفضل لا ريب َ من الأول . لأنها تزوجت شخصاً تعشقه لا غير . عشقها (( قلبها )) هو مَن تزوج . إلتحم في زواجها الثاني هذا كل ٌّ من قلبها (( هواها ، رومانسها ، أحلامها وأخيلتها )) وجسدها
(( الجنس الجسدي )) . تخالط وإمتزج َ فإلتحم َ في هذا الزواج تراب ألأرض ولازوّرد السماء … إبليس والله (( الجسد والقلب )) . فضلا ً عن إنسجام الأفكار والثقافة والميول والهوايات . كلاهما أديب وشاعر ومثقف وكلاهما يهوى الموسيقى والفن ولغة كليهما الثانية [ وربما ألأولى ] هي الفرنسية . قالت أسماء نفسها إنها لا تتزوج شخصاً من غير أن تعشقه (( أُريد أن ْ أكون َ عاشقة )) . ثم َّ إنها نوعية خاصة من النساء … غالباً ما تستشهد بقول رجل إنفصل عن زوجه فقال حين سُئل لماذا إنفصل َ
(( لأنني لم أعد ْ أحتمل الوحدة )) . تبسّم المتنبي إعجاباً بهذا القول وبصاحبه ثم بطبيبتنا عالية الرأس الفخورة بنفسها غاية الفخر . قال قد شوّقتني لقراءة كتاب أسماء ، أين أجده ؟ تستطيع إستعارته مني بعد أن أنتهي من قراءته كاملاً ومن تسجيل ملاحظاتي وتعليقاتي الخاصة بالكتاب كما هي عادتي . سأل : وهل سألت أو علّقت ؟ أسئلة كثيرة …. ضحكنا بأصوات عالية ثم طالبني ضيفي بالكثير من الطعام . كان شديد الجوع وقد أضنته قصة الرجل المزدوج الذي كان يعاني من الكآبة وربما من إنفصام الشخصية ( شيزوفرينيا // إستنتجت ُ هذا من طبيعة أجوبته على أسئلة الطبيبة أسماء وغرابة إستجاباته لبعض أسئلتها ) ثم إلتحم نصفاه وتتاما وتكاملا فغدا وحيداً ثم كاملاً .
ماذا ستقص عليَّ غداً يا متنبي ؟ قال سأفكّر طويلاً في الأمر . لدي خطوط قصة واقعية ليست خيالية كقصة أسماء حكيمة الروح والروحانيات .
إلى غد ٍ إذاً .
“رومانس المتنبي(أسماء)، الجزء الأول”، عدنان الظاهر، الحوار المتمدن، 25/10/2007، العدد 2079.