أحمد الأغبري
رواية «مخالب المتعة» (المركز الثقافي العربي /الدار البيضاء/ 156 صفحة) للكاتبة فاتحة مرشيد، من الروايات المغربية التي تعكس مستوى ونوعا معينا من التطور الذي تحقق لها، خاصة على صعيد الانتصار الفني للموضوع الشائك اجتماعياً، وتناوله بأسلوب لم يغال ولم يوغل بقدر اهتمامه الجمالي والإنساني بالقضية والفكرة. تندرج هذه الرواية ضمن الروايات التي تعالج نتائج ظاهرة، تمثل عنواناً عريضاً لمعاناة يعيشها المجتمع منذ عقود، وفي سياق هذه الظاهرة تُسلّط الرواية الضوء على مشكلة أخرى ناتجه عنها، بالإضافة إلى مشاكل أخرى على مخاطرها مازالت ضمن المسكوت عنه؛ لأنها في جوهرها تمس (تابوهات) ثقافية واجتماعية، وفي الأخير نجد الرواية، وهي تتعامل مع الأمراض الاجتماعية، التي نتجت عن البطالة، قد تعاملت مع شبكة متداخلة من المشكلات في مجتمعها، وكانت الكاتبة بارعة وذكية في تحديد مساحة حضور وتأثير وتداخل كل مشكلة بالمشكلة الأم.
تُعدّ البطالة من أهم المشاكل التي يعاني منها المجتمع المغربي، ويمكن القول إنها مشكلة متفاقمة منذ عقود، نتجت عنها مشاكل وظواهر عديدة منها الزواج غير المتكافئ، وهي الظاهرة التي نجمت عنها مشاكل، منها ما يُعرف بـ(دعارة الرجال)، وهذه الأخيرة لم تنتج عن ظاهرة الزواج غير المتكافئ وحسب، وإنما هي نتاج مركب عن المشكلة (الأم) البطالة… فالمشاكل هنا متداخلة في عواملها وأسبابها، وهو ما أرادت هذه الرواية أن تُعيد قراءتها وترتيب نسقها وتفكيكها ومناقشة أسبابها وكـشف بؤس مآلاتها… وهو ما يمكن القول هنا إن الكاتبة نجحت فيه من خلال بُنية سردية وخطاب واع، استوعبا التداخل الإشكالي واستطاعت موضعته على هوامش بؤرة (دعارة الرجال)، وتقديم صورة من صور معاناة النساء والرجال، على حد سواء، جراء البطالة، وكأنها تنتقد بصورة غير مباشرة انفتاح البلد سياحياً، قبل أن يسبق ذلك أو يتوازى معه، معالجة مسؤولة للمشاكل الكبيرة التي تمس حياة الناس، بما يحميهم من الاستغلال كسلع سياحية رخيصة.
على الرغم من أن (دعارة الرجال) مشكلة صادمة، وربما قد تثير تقزز القارئ بمجرد سماع أو قراءة ما له علاقة بها؛ لما تستدعيه من رؤى وتصورات يخاف القارئ من مواجهة تفاصيلها وصورها، باعتبارها خادشة للمشاعر، وربما لهذا السبب كانت الكاتبة ذكية في معالجتها الفنية للموضوع؛ فتعاملت مع المشكلة باعتبارها نتيجة مشكلة أكبر، وحتى وهي تناقش ذلك، لم تعمد لاستفزاز القارئ، بمعنى لم تضع القارئ وجهاً لوجه أمام تفاصيل العالم السفلي لهذه المشكلة؛ إذ أن ذلك ليس هدف الرواية بقدر ما هو مواجهة المشكلة ومعرفة مقدماتها ومآلاتها؛ ولهذا عالجت الموضوع ضمن سياقات حكائية وفّرت لها تقنيات وأدوات منحتها تشويقاً وإثاره بمستوى معين يدفع القارئ لمواصلة القراءة بهدف المعرفة؛ مستفزة من خلال تلك (الفلاشات) الثقافية الفكرية بين الوقت والآخر الحافز الثقافي للقارئ، مُرتقية بوعيه تدريجياً ليتبنى في الأخير رؤية الكاتبة في نظرتها للمشكلة، وهي نظرة إنسانية تحترم إنسانية الإنسان.
ثنائية البطل والراوي
اعتمدت الرواية بناءً حكائياً سردياً تصاعدياً دراماتيكياً، يظهر فيه الراوي يحكي مشكلته مع البطالة التي قادته إلى عالم لا يعرفه، من خلال صُدفة جمعته، وهو عاطل محبط، بصديق قديم يبيع جسده لنساء ثريات مقابل أجر. من خلال تلك الصدفة تبدأ الحكاية في الصعود في سياق يتجلى فيه (أمين) راوياً وبطلاً موازياً لبطولة صديقه (عزيز) الذي استدرجه لعالمه، حيث يجني دخلاً وفيراً من خلال إشباع شهوات نسوة من الطبقة المخملية، ممن ارتبطن بزواج غير متكافئ نتيجة فقرهن وبطالتهم. لكن الكاتبة التي ذهبت بـ(عزيز) إلى أبعد مدى في مواجهة هذه المشكلة كانت متعاطفة مع (الراوي/أمين)؛ وكأنها أرادت له أن يبقى شاهداً يحكي ما يراه خلال زياراته المتكررة لمنزل (ليلى) الزوجة الشابة لرجل ثري ومريض…وهناك يصبح الراوي جزءاً من الحدث، عندما التقى (بسمة) التي تعاني حزناً على فقدان ابنها وإهمالاً وحرماناً عاطفياً؛ فتتعزز العلاقة بينهما؛ لكن الكاتبة بدت حريصة على أن تبقى علاقتها نظيفة إلى حد ما؛ وقدمت من خلال علاقتهما شكلا من أشكال الحرمان العاطفي الذي تعانيه بعض الزوجات من ضحايا الزواج غير المتكافئ، ما يجعلها بحاجة لمن يسمع لها ويهتم بها؛ فكان هو (أمين) العاطل بما تبقى لديه من قيم حافظ من خلالها على تماسكه الإنساني، كما ساعدها بذلك على استعادة توازنها الإنساني أيضاً… مضت تلك العلاقة بموازاة خسائر إنسانية في علاقة (عزيز وليلى). أرادت الكاتبة أن تقدم من خلال حكاية كل منهما شكلين من أشكال المعاناة في إطار مشكلة (دعارة الرجال) وظاهرة (الزواج غير المتكافئ) في سياق معاناة (البطالة)، ولهذا وصلت علاقة (أمين) بمستخدمته إلى اعتقاده أنها وقعت في حبه؛ ولهذا لم يتقبل فكرة تخليها عنه واستخدامها رجلا آخر؛ ما اضطره للتربص بها ومهاجمتها وقتلها ليدخل السجن؛ فيما انتهت اللقاءات بين أمين وبسمة بأن عادت بسمة لزوجها، بعدما تركت خطاباً لأمين يتضمن توصية بمنحه فرصة عمل عاد بواسطتها للحياة ودراسته العليا، بينما وُضِع صديقه عزيز خلف القضبان… وهناك في قسم الشرطة يقف الضابط مواجهاً (أمين)، وهو يدافع عن صديقه قائلاَ له:» كفاك دفاعاَ عنه، شباب مستهتر، لم تعد لديكم حدود، وسختم البلاد، كنا نحارب دعارة النساء فإذا بالرجال ينافسونهن».
في ثنايا الرواية كانت تتسرب حكايات عديدة عن مآلات مختلفة لضحايا البطالة من الشباب والشابات، الذين تدفعهم الظروف لتقديم تنازلات تمس القيمة الإنسانية بما فيها بيع الجسد من جهة والخضوع لاستغلاله من جهة أخرى. كانت الكاتبة بارعة في الحكي المتنوع ضمن سياق سردي عال يتناول قضية يمثل الجنس جزءاً كبيراً من تفاصيلها؛ وهنا تعاملت، هذه الرواية، بحذرٍ مع إشكالية الكتابة عن الجنس؛ بل جاء اشتغالها على الجنس يؤكد مدى استيعاب الكاتبة لهذه الإشكالية، وأهمية أن يتم الاشتغال عليها وفق حدود موضوعه، حريصة على ألا يكون وسيلة لتملق القارئ، كما هو ديدن كثير من الروايات؛ ولهذا لم تستغرق في توظيف الجنس خارج دائرته الواقعية الروائية، وبالقدر الذي لا يخدش حساسية القارئ في الوقت ذاته؛ بل يمكن القول إنها كانت تحرص على منحة مساحة أضيق حفاظاً على تماسك البناء السردي وتوافقه مع الخطاب، وحتى لا يشوس الرسالة التي تريد إيصالها، على اعتبار أنها هوامش حياتيه يعود بعدها الإنسان إلى الحياة الإنسانية الطبيعية، وحينها لا يريد حتى أن يتذكر ما كان.
خطاب تفكيكي
على صعيد الخطاب السردي فقد جاء الخطاب في الرواية متماهياً بشكل لافت مع رؤية الكاتبة تجاه الموضوع ومعالجته الفنية؛ وهي معالجة لم تواز بين الفن والموضوع وحسب، بل انتصرت للموضوع فنياً؛ وهو ما يُدركه القارئ من خلال حرص الكاتبة على تسخير أدواتها الفنية لخدمة الموضوع وتقديمة بمستوى أرادت له أن يكون بمستوى رؤيتها ورسالتها؛ وهو ما يتجلى، على سبيل المثال، في الاشتغال على لغة متكئة على قاموس ثر، مستفيدة من تجربتها مع الشعر الذي أتت منه الكاتبة إلى الرواية؛ فبرعت في منح الصور والمشاهد والعبارات ما تحتاجه من عاطفة وأحاسيس تخدم الفكرة.. وهو ما يتجلى واضحاً في تنوع وقوة السياقات اللغوية، بدءاً من العنوان ففي «مخالب المتعة» من التعبير والتصوير والدلالة ما يكفي للتعبير عن موضوع الرواية والمتمثل في البطالة وانحرافها بمسار المتعة، التي تكشف الرواية عن مخالبها القاتلة؛ وهو ما يتضح أكثر في أولى عبارات الرواية «أن تكون عاطلاً عن العمل؛ فأنت حتماً عاطل عن الحب»؛ وبالتالي فعندما تكون عاطلاً عن الحب قد تنحرف لديك ميول المتعة، وقد تنبت لها حينئذ مخالب؛ فتتعامل مع الآخرين كمُستخدَمين لإشباع الرغبة بالمال… وهنا يتولد وعي جديد وثقافة جديدة.
فككت الرواية (مفهوم الرغبة) ضمن قراءة مختلفة لواقع جديد يتشكل عن بطالة متجذرة؛ فتنتج عنها انحرافات سلوكية في التعامل مع المتعة التي تصطاد ضحاياها بسهولة مستغلة العوز والبطالة؛ فيصبح أولئك الضحايا جناة في الوقت نفسه، وبمعنى أخر يصبحون مشكلة جديدة تعيق تطور المجتمع؛ لأنها تُصيبه في صميم وعيه الإنساني. لم تهتم الكاتبة كثيراً بالمضمون الثقافي للرواية وإن لم تغفله؛ إلا أنها اشتغلت جيداً على البحث الاجتماعي، فجاءت الرواية مستوعبة المشكلة جيداً في واقعها، وعملت على تشريح وتفتيت المعاناة، بدون مواجهة القارئ مباشرة بأي شكل بسياق بحثي؛ إلا أنها اعتمدت على وعيها الاجتماعي والثقافي بالمجتمع والمشكلة والظاهرة؛ فجاءت الرواية منحازة للإنسان متبنية معاناته من الاستغلال.
تعاملت فاتحة مرشيد مع حساسية موضوعها بذكاء… فعلى ما في منحنيات الموضوع من «مزالق» كان بإمكانها أن تذهب معها بعيداً عن موضوعها، وربما تحقق من خلالها رواج أكثر؛ إلا أنها استطاعت أن تتجاوز هذا الأمر وتمنح القضية تناولها الموضوعي ووزنها الفني وفق مقاييس كانت فيه ذكية في منحها حقها الجمالي بما يخدم إنسانيتها، وهو أمر يُحسب للكاتبة.
جريدة القدس العربي، 24 يوليو 2018