سعيد الجريري 2010-10-08 القدس العربي |
راكمت التجربة الإبداعية النسائية نتاجاتٍ أدبيةً وفنيةً مميزةً رشحتها لتحولات كيفية حظيت بالاحتفاء والقراءة النقدية على وفق منهجيات مختلفة، قاربت خصوصيتها واختلافها، لا على أساس ثنائية الذكوري – الأنوثي الجنسانية، وإنما بالانفتاح على ما في الإبداعيّ ولا سيما السردي – في ماله علاقة بمداخلتنا – من أصوات خفية مغايرة تعبيرياً وجمالياً، على مستوى المنظور والأساليب والشخصيات والحوار. فقد أصبحت الرواية ذات حضور أقوى مما كانت عليه بعدما دخل العنصر النسوي في هذا المجال، وثبت حضوره الفعلي بوصفه ذاتاً فاعلة في الخطاب الروائي، وليس مجرد موضوع منظور إليه، بما لتلك الذات من خصوصية اجتماعية – طبيعية ـ تاريخية تؤهلها لأن ترى أفقاً مغايراً يستغور ويستلهم ويؤثث عوالمَ ظلت طويلاً يكتنفها صمتٌ ويطويها نسيان. وبعيداً عن الخوض في إشكالية المصطلح ومفهومه، التي دار حولها ـ وما زال – جدلٌ ليس من غايات هذه المداخلة الوقوف على اتجاهاته التي راجت في المدونة النقدية المعاصرة محفوفة بضبابية حد المصطلح و حدوده، وهلاميته، وسمته الزئبقية، على الرغم من تعدد الجهود لضبط المفهوم وتسييجه. نتخذ ‘ مخالب المتعة ‘* للروائية المغربية فاتحة مرشيد نموذجاً لمقاربة تستجلي ملامح الخصوصية التعبيرية والجمالية، عبر ثلاثةِ مداخلَ رئيسية: (1) مخالب المتعة مركب إضافي، يقفل دلالة العنوان على المضاف إليه الذي يجيء أساً دلالياً لتخصيص ما هو عام في المضاف قبل أن يدخل في التركيب : المضاف جمع والمضاف إليه مفرد – المضاف نكرة – والمضاف إليه معرَّف – المضاف مفردُهُ مخلب ( مذكر) والمضاف إليه مؤنث – المضاف دال على قساوة – المضاف دال على نعومة. وهناك استبدالات تركيبية كامنة أو افتراضية ظلت خارج دائرة الاختيار: مخلب المتعة ( بإفراد مكوني العنوان ) – مخالب المتع ( بجمع مكوني العنوان). وفي عتبة أولى تصدر الكاتبة روايتها بعبارة لسقراط ‘ السعادة هي المتعة من غير ندم’. وتؤولها في حوار صحافي: أي من غير مخالب. (2) تعيد الرواية تشكيل المعادلة المألوفة، فمعنى المومس الذي يستوي فيه الذكر والأنثى لغوياً، لا يوصف به في الواقع الاجتماعي إلا المرأة ، ويُطلق على تلك التي تبيع جسدها لقاء أجر ما، لكن الرواية تتخذ من ‘ عزوز’ نموذجاً للمومس، فلا تغدو المرأة بائعة، وإنما هي التي تشتري. فشباب عزوز وحيويته لهما ثمن عند ليلى، تماماً كما أن جسد الأنثى الشابة يغري الرجال الكبار ويدفعون في سبيل امتلاكه ما يدفعون، ويغتصبونه ( مثال ليلى). لم تعد المرأة في دائرة الحاجة المادية كي تبيع اللذة، لكنها كما في الرواية في دائرة حاجةٍ أخرى، وتبذل من أجلها كثيراً من مال زوجها العاجز، غير المرغوب فيه. لكن المشترك في هذا السياق هو أن الرجل ما زال سبباً لمأساة المرأة، وانحرافها بالمعنى الاجتماعي. غير أنّ المرأة التي كانت نمطياً مفعولاً به، مدفوعاً له، ومدفوعاً بضغط الحاجة المادية، تغدو فاعلاً يدفع بسخاء بحثاً عن المتعة المفقودة. وفي المقابل فإنَّ الشاب عاطل، لكن عطالته تتحول إلى عمل مدرّ. ( نذكر هنا جزئية من رواية ‘ الخبز الحافي’ لمحمد شكري، متعلقة بشراء العجوز اللوطي متعته من الشاب المتشرد الذي كان يظن ألا قيمة لجسده، فيكتشف أن ـ شيأه ـ ذو أهمية على نحو مفاجئ، وأن بإمكانه تشغيله، لمحتاجيه الذين يدفعون من أجل الاستمتاع به!). وإن بدا السارد شاباً عاطلاً فإن لتوجيه السرد حمولات تسلبه سارديته، فهو عاطل عن العمل، عاطل عن الحب، عاطل عن الحياة، عاطل عن السرد، مسرود له. فلغة السرد أنثوية، ثائرة، جسدية، ملغومة بالجنس والرومانسية. ( الشخصيات اختيار أنثوي دالّ). ولعل الرواية توهم شكلياً، فتحيل عزوزاً وأميناً وإدريس مثلاً إلى مفعولات، وليلى وبسمة وبلقيس إلى فاعلات، لكن الموجهات السردية تحيل إلى مركزية المرأة، بصرف النظر عن طبيعة الفاعل وتوجيهه.( ليلى – عزوز/ بسمة – أمين / بلقيس- إدريس). (3) رواية ‘ مخالب المتعة’ تجربة في إعادة كتابة تاريخ المجتمع وضلالاته من زاوية ثيمة رئيسية هي البطالة، ليس بمعناها المادي الحاضر بقوة، وإنما بمعناها النفسي والعاطفي والثقافي أيضاً. يوجّه النفسيُّ والعاطفيّ والثقافيّ الأحداث فيقترح حلولاً للمادي، فتكون المتعة موضوعاً تتجاذبه أطراف المعادلة، فالمتعة سلعة، لكن الطرفين في الرواية يغايران المألوف في العلاقة، باستبدال الأدوار الذي تؤدي به الرواية رسالة جارحة للواقع وتناقضاته، لكن الشخصيات جميعاَ تظل ضحايا تضل طريقها إلى الخلاص، بفاعلية الثيمة الرئيسية التي تتجاوز دلالتها المخصوصة بالعمل إلى دلالات أشمل وأعمّ، وهنا تبدو المقاربة النسائية في اختلافها وخصوصيتها مدخلاً موضوعياً وفنياً إلى واحدة من أهم مؤرقات الإنسان في مجتمعه. ** بـ ‘ مخالب المتعة’ تدخل فاتحة مرشيد من بوابة كبرى غير منشغلة ظاهرياً بموضوعة الضدية التي تهجس بها أعمال نسوية أخرى، لتقارب المشكل النسائي من زاوية اجتماعية اقتصادية نفسية في آن، معليةً مبدأ الوجود الأول: الحرية، وفي ذلك تتضاءل وتكاد تتلاشى المسافات ما بين الذكوريّ والأنوثيّ، ويبدأ الإنسانيُّ دورته، بوصفه تجلياً لحريةٍ يتنازع الحلم بها قسيمان ليس بالضرورة أن يظلا ضدين.( حلمية العلاقة بين بلقيس العراقية وإدريس المغربي). ‘ مخالب المتعة’، فاتحة مرشيد، المركز العربي الثقافي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى – 2009 |
القدس العربي، 8/10/2010