لم يكن أحد يتنبأ بمسار التلميذة النجيبة والخجولة التي لم تكن تبرح منزل العائلة إلا للمدرسة أو العكس. لكن عالما جديدا كان بانتظار فاتحة يسترشد بضوء الرفض: رفض الظلم والقمع والانتماء لصوت الشعب والعدالة الاجتماعية.
فبعد اجتيازها المرحلة الاعدادية بإعدادية زينب النفزاوية، ستلتحق فاتحة مرشيد بثانوية شوقي سنة 1973، وهناك سيتفتح وعيها على الجانب الفكري والسياسي في الحياة، وستدخل في نقاشات فلسفية مع مجموعة من الطلبة بحديقة الجامعة العربية حيث كان يلتئم الطلبة والتلاميذ للمراجعة.
“كنا نعيش حقبة غليان ثقافي وسياسي، ووجود مكتبة المركز الثقافي الفرنسي قبالة الثانوية فتح لنا بابا على قراءات جديدة ساهمت في نمو وعينا وأصبح لنا توق كبير للتحرر” تقول فاتحة.
بثانوية شوقي، ستعجب بالمناضلة فاطنة البيه وستتلمذ على يد الأستاذ عبد السلام التازي وزوجته السابقة الكاتبة والباحثة فاطمة الزهراء ازرويل اللذان درساها مادة اللغة العربية آنذاك، ثم على يد خديجة شكير أستاذتها في مادة الفلسفة ورئيسة “سيدات الربوة” حاليا.
مرحلة جديدة ستدخلها فاتحة بحماسة الشباب المنطلق نحو التقدمية والتغيير، والرافض لكل أشكال التضييق والعنف الممارس آنذاك على قوى اليسار.
تتذكر فاتحة ضربة الاعتقالات الأولى لمناضلي منظمة 23 مارس وإلى الأمام سنة 1974 ورجال الأمن وهو يقودون فاطنة البيه من الثانوية الى التحقيق، ووشوشات التلاميذ عن خبر اقتيادها مرارا الى مخافر الشرطة، وكيف كانت تحضر حلقات النقاش السرية وأسماء المناضلين الحركية التي لم تكن حقيقية حرصا على سلامة التلاميذ والطلبة، خاصة في ظل اشتداد الآلة القمعية التي كانت تتوجس من المد اليساري في صفوف الثانويات والجامعات منذ اندلاع أحداث انتفاضة الدار البيضاء 1965 التي انطلقت شرارتها من داخل مقاعد الدراسة )*(.
بعد حصولها على شهادة الباكالوريا سنة 1975، ستلتحق فاتحة بكلية االطب، وستنضم الى حركة 23 مارس. كانت تتسلم المنشورات وتوزعها داخل الكلية هي الفتاة التي لم يكن أحد يشك في نشاطها النضالي الثوري فقد كانت تشبه ابنة البورجوازية ببشرتها البيضاء وشعرها المنسدل والهندام المرتب والأنيق. كانت تتلقى أخبار التنظيم والمهام من شخص لم تكن تعرف اسمه الحقيقي. كانت لقاءات خاطفة سرعان ما تمر بينهما.
التحاقها بتنظيم 23 مارس واحتكاكها بمناضلي 23 مارس وإلى الأمام من أمثال عبد الرحيم ازرويل، جعل وعيها يتفتح على أشياء جديدة واتجاهات فكرية مغايرة. في تلك الفترة تعرفت الى كتابات جورج بولتزر، إنجلز، كارل ماركس وغيرهم.
“كانت لنا أحلام كبيرة وكنا نشعر أن بمقدورنا تغيير العالم”. تقول فاتحة التي
كانت تعشق النقاشات التي تدور حول الفلسفة، بل إن بعض رفاقها كانوا يصرون عليها لدراسة الفلسفة بدل الطب الذي كان يُنظر إليه وقتها على أنه مسلك مخصص لأبناء البورجوازية .
تضحك فاتحة وهي تتذكر يوم طلب منها أحد رفاق النضال أن تقص شعرها على شكل “كوب كارسون” لأن شكلها وملامحها يوحيان بأنها من أبناء البورجوازية ولا يليق بمناضلة منتمية الى تنظيم يساري جذري.
انطلقت حملة اعتقالات شرسة في صفوف مناضلي 23 مارس وإلى الأمام سنة 1977، وبدأت فاتحة تسمع عن اعتقال بعض الرفاق وضمنهم فاطنة لبيه وعبد الرحيم ازرويل الذي كان اسمه الحركي إدريس والذي كانت تعتبره مثال المناضل المثقف وتنتظر بشغف نقاشاتهما الفلسفية كلما جاء من الرباط، حيث كان يدرس الفلسفة، إلى الدار البيضاء لزيارة أسرته.
اعتقل جل رفاقها ومنهم من هرب إلى الخارج. تقول فاتحة “أنا ممتنة لصديقي عبد الرحيم ازرويل الذي بالرغم من اعتقاله وإخضاعه للتعذيب، صان أمني وأمن رفاقي “.
من طرائف الأسماء الحركية وقتها، تروي فاتحة مرشيد إن صديقتها سمية تزوجت رفيقا لها، لتكتشف في الأسابيع الأولى أن والدته تناديه باسم عبد الرحيم، فيما هي تناديه باسم نور الدين، الاسم الحركي الذي لم تكن تعرف غيره.
في خضم هذه الأحداث المتسارعة سيحدث أن تتأخر فاتحة في العودة إلى البيت، لتجد يومها والدها في انتظارها وقد وصله نبأ انتمائها السياسي وتحركاتها السرية بالكلية. لم ينتظر الأب المعروف بصرامته سماع تبريراتها لينهال عليها بضرب مبرح.
” لم أر والدي بهذا العنف أبدا، ولا رفع يوما يده في وجهي. كان عنفه بحجم حبه لي وخوفه علي. لازمتُ البيت أسبوعا كاملا حيث منعني من الذهاب الى الكلية”. تروي فاتحة.
كان الوضع حينها محتقنا سياسيا واجتماعيا وكانت ماكينة القمع على أشدها لهذا كان خوف الأب على ابنته مضاعفا. تتذكر فاتحة لحظة تعنيفها من الوالد وهو يقول لها: ” هل أنت ستقدرين على الحسن الثاني؟ لم يقدر عليه الرجال السياسيون الشجعان.. منهم من تعرض للاعتقال والتعذيب ومنهم من قضى داخل السجون أو غُيّب. هل تستطيعين تحمل ظروف الاعتقال والتعذيب ؟ إذا كنت تستطيعين، فأنا لا أستطيع تحمل رؤية ابنتي في هذا الوضع..”
بعد أن طابت جراحها، ستعود فاتحة إلى الدراسة لتنقطع من يومها علاقتها بالسياسة والنضال الحزبوي دون أن تنقطع ببعض الرفاق الذين مازالت تربطها بهم علاقة قوية إلى اليوم.
“قال لي والدي وهو يعتذر لي عن تعنيفه لي بأن للنضال وجوه شتى، وأن بمقدوري أن أناضل كطبيبة، وكذلك فعلت خلال الاثنتي عشر سنة التي قضيتها بالمستشفى حيث كان العمل نضالا يوميا مع المستضعفين . أما الكتابة فهي شكل من أشكال المقاومة، مقاومة الجهل والظلم والقبح بكل أشكاله”
اليوم مازالت على موقفها من الانخراط السياسي الحزبي، مؤمنة بأن على المبدع أن يظل حرا ومستقلا، لأن الانتماء الحزبي يفترض من الكاتب انضباطا للمواقف، فيما الكتابة شرطها الحرية.
*هامش:
*كانت الشرارة المباشرة التي فجرت أحداث 23 مارس 1965 بالدار بالبيضاء وخرج على إثرها المواطنون الى التظاهر، مذكرة وزارية ليوسف بلعباس، وزير التعليم، آنذاك، تقضي بمنع التلاميذ الذين بلغ سنهم 16 سنة من تكرار قسم البروفي (السنة الثالثة ثانوي) والتوجه الى التعليم التقني، وهو ما واجهه عدد من الشباب الذين كانوا مسيسين أو ضمن تنظيمات نقابية، معتبرين أن الامر يهدف إلى افراغ قطاع التعليم من الشباب الذي أصبح وعيه السياسي والنقابي مصدر خطر على الدولة. وبعد خروج المظاهرات إلى الشارع قوبلت بقوات الجيش وبالدبابات ليسقط أكثر من 1000 قتيل حسب تقديرات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
الحلقة 8: “ذات الملامح البورجوازية تلتحق بتنظيم 23 مارس”، الاتحاد الاشتراكي، الثلاثاء 9 يوليوز 2019، العدد 82122