دراما الحيوات الممزقة
أنيس الرافعي
في روايتها الثالثة الصادرة حديثا عن المركز الثقافي العربي بيروت / الدار البيضاء في طبعتها الأولى (2011)، تواصل الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد هوايتها الأثيرة في القبض بشباك المتخيل من داخل أوار الواقع المعيش وﺤﻤﺄة اليومي العابر على عينات من الشخصيات الطاعنة في “التطرف” سواء في مشاعرها الجوانية أو مواقفها الوجودية.
رواية تنطوي شخصياتها على تطرف مشاعر غالبا ما يكون محكوما ببنية الإخفاق والفشل، يترجمه تارة صراخها العاتي للتعبير عن الحد الأقصى للحياة، وتارة أخرى صمتها السميك الذي يشف ليقول أشياء ﺃبعد من الحياة.
وفي سطور هذا العمل الجديد، الذي يجيء – على صعيد المناخ العام – استكمالا لروايتيها السابقتين “لحظات لا غير” (2007) و “مخالب المتعة” (2009)، أتى الدور هذه المرة على كل من “أمينة” و”الأستاذ إدريس”.
الشخصية الأولى، زوجة مكلومة تنخرط في مونولوج طويل مثل نهر بدائي مندفع كما لو أنها تنتقم لسنوات صمتها بالحديث إلى زوجها الواقع تحت وطأة غيبوبة كلينيكية، جراء تعرضه لحادثة سير مفجعة رفقة واحدة من عشيقاته، وهي تروي له أحداث قصة كانا في أحد الأزمان بطلين لها، دون أن تعلم إن كان باستطاعته أن يسمع أم لا، لأن ما يهمها في نهاية المطاف هو “أن تتكلم، أن تفرغ ذاتها”، وﺃن تشرع الأبواب الموصدة التي “تستقر في الغموض” .
أما الشخصية الثانية، فكاتب يمزق حجب اﻷسرار عن منابع الإلهام لديه، والعلاقة الملتبسة بين كل من الحب و الإبداع، عبر بورتريهات ﺇيروسية لنساء أوقدن جمر الحرف بدواخله، لأنه يعد نفسه “صنيع كل النساء اللواتي عبرن حياته”، ولأن كل كتاب يؤلفه “مقرون بامرأة ” ما. الكاتب ذاته، الذي وطد العزم على ” رفع الستارة الخلفية وإهدائنا المشهد الأخير.. العرض الحقيقي.. عرض الكواليس المفعم بقلق الممثلين وتقلباتهم المزاجية بعلاقاتهم السرية وانفعالاتهم الحقيقية التي يوارونها خلف الماكياج والأقنعة قبل أن يرسموا ابتسامة تستحق منا التصفيق”.
تقاطع المصائر على نهج ايطالو كالفينو، وتضفير حكايتي الشخصيتين معا في إطار نوع من “ديمقراطية السرد” التي توفر للحبكة مرونة التناوب و التداخل وتضمين محكيات صغرى لكائنات أخرى تؤثث المشهد وتتفاعل معه سلبا أو إيجابا، شكلا حيلة فنية ناجعة، توسلت بها صاحبة “ما لم يقل بيننا ” للتوغل بمسبارها بكل جسارة في المناطق المعتمة من نفسية “مخلوقاتها الورقية”، ومعالجة موضوع شائك بما يلزم من الإقناع والمتعة .
ولهذا الغرض، انفتحت الرواية بشكل مثمر على “تعددية المراجع” المعرفية التي نهلت من التحليل النفسي والفلسفة والتشكيل والأدب الكوني، حيث نلفي مقتبسات لكبار الشعراء والفلاسفة العالميين، و توظيفا “لخطاب الأريكة” على الطريقة الفرويدية، لكن دون أن يغرق “الملفوظ الروائي” في التعالم أو استعراض العضلات القرائية، بل إنه وكما تتصل العين بجفنها يندغم في صلب انسيابية السرد ويرتبط ارتباطا عضويا به .
إن “الملهمات” رواية تشعرن دراما الحيوات الممزقة بسوء الفهم الناتج عن صعوبة التواصل مع الآخر المختلف في نظرته للعلاقات الإنسانية، بالاستناد جماليا على لغة ديدنها الخفة و الإلماح بدل التصريح، تستقر على ضفاف الواقعية المخاتلة، إذ كما تقول الساردة “ماذا يستفيد القراء لو كتب الكاتب واقعا يعرفونه.. فمن يرغب في معرفة الحقيقة فليبتكرها” .
مجلة الدوحة، العدد 46، أغسطس 2011