0%
Still working...

جحيم الرغبة وقيد المحاكاة في رواية”الملهمات”للمغربية فاتحة مرشيد

مصطفى الورياغلي العبدلاوي

لم تسقط الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد، وهي تكتب عن العلاقة بين الرجل والمرأة، في شرك رومانسية الكتابة النسوية العربية، التي تأرجحت بين الوردية والسوداوية، وبين الشكوى والأنين، والتمرد المندفع على القيم الرجولية السائدة، وبين اقتحام الكتابة الإيروتيكية انتصاراً للجسد وتكسيراً للطابو والمحرم.

إن رواية «الملهمات» تتجاوز في تصويرها لعلاقات الحب والرغبة ثنائية الرجل والمرأة، حيث تتصارع الفحولة والرقة، والرجولة والأنوثة، والمحافظة والتمرد، إلى تمثيل روائي يحفر في عمق الرغبة وسراديبها الخفية التي تحكم الإنسان في علاقته بالآخرين، وتملي عليه اختياراته ونزوعاته، سواء كان رجلا أم امرأة؛ إنها «الحقيقة الروائية» بتعبير الناقد الفرنسي والأنثروبولوجي روني جيرار. تلك الحقيقة التي تكشف جحيم «الرغبة المثلثة» في مجتمعات الإنسان الحديث، إنه جحيم دنيوي لا يميز بين رجل وامرأة.

إن بناء الرواية ذاته يكشف طبيعة الرغبة المتحكمة في العلاقة بين الشخصيات الرئيسة: تتناوب على منظور السرد، والسرد المضمَّن في شكل كتابة أو بوح، شخصيتا أمينة وإدريس. أمينة زوجة، ربة بيت، تخلّت عن طموحها المهني والعملي لتتفرغ للاعتناء بزوجها وولديها.

والأستاذ إدريس، الملقب بـAالكاتب الناجح»، كاتب مشهور، لا تستقيم له الكتابة والإبداع إلا بعد علاقة جنسية، لذا كثرت عشيقاته وتباينت أصولهن ومشاربهن. وما يجمع الأستاذ إدريس بأمينة أنه صديق زوجها الحميم.

والزوج في الرواية هو الركن الأساس، الغائب الحاضر بامتياز؛ غائب عن السرد لأنه منذ بداية الرواية واقع في غيبوبة جرّاء حادث سير أودى بعشيقته، وأسلمه إلى سرير عيادة خاصة يكاد يكون جثة هامدة، غير أنه حاضر بكل قوة في كل فكرة أو خلجة أو كلمة من أفكار وخلجات وكلمات أمينة وإدريس.يظل الزوج عمر ساكناً وصامتاً في غيبوبته، لكنه سكون الآلهة وصمتها.

لقد كان قيد «حياته» مثل المغناطيس، ينجذب إليه الجميع وينبهرون به، وعلى الرغم من أنه لم يكن سوى ناشر، محبٍّ للأدب، فإن سعاد، صديقة زوجته، لا تتردد في أن تصرح أمامها برأيها فيه: «زوجك هو المبدع الحقيقي، أغلب الكتاب مبدعون على الورق أما هو فمبدع في الحياة.

لو لم تكوني صديقتي لأغويته» (ص79)، إن الرغبة المثلثة تعني أن الفرد في المجتمع الحديث لا يختار موضوع رغبته، لا يختار مَن أو ما يحب، بل يحب ويرغب في من أو ما يشير إليه طرفٌ ثالثٌ يسميه روني جيرار «الوسيط»، وهو يقوم في المجتمعات الحديثة مقام الإله في المجتمعات القديمة. لا نرغب إلا في ما يرغب فيه الآخر/الوسيط ويشير به علينا، وهو الدور الذي يضطلع به الزوج عمر في الرواية، خصوصاً في علاقته بزوجته أمينة وصديقه الكاتب إدريس.

تعيش الزوجة أمينة في ظل زوجها عمر، أحبّته، ووقفت إلى جانبه ليبني مشروع دار النشر الذي كان يحلم بتحقيقه، ثم رضيت أن تلزم بيتها، كما أشار الزوج وقد تحقق له النجاح، لتخدم الزوج والأبناء في نكران تام لذاتها، وتنازُلٍ عن أحلامها الشخصية. المهم أن يلمع الزوج أكثر، وأن يفلح ابنها وابنتها في بناء مستقبلهما.

يصاب الزوج في حادث سير رفقة إحدى عشيقاته، ويدخل في غيبوبة فتجلس أمينة، الزوجة، عند رأسه تبوح أمامه بكل ما لم تقله من قبل، فنكتشف أن عمر لم يكن الزوج المثالي، لم يكن الزوج العاشق، ولا الزوج الوفي؛ كان رجلا يحب الحياة بلا حدود، ويُقبل عليها بلا قيود.

ينتقل من عشيقة إلى أخرى، وقد اتخذ لنفسه حياة موازية لحياته الزوجية، لا يعلم بتفاصيلها سوى صديقه الكاتب إدريس.

تعلم الزوجة بكل ذلك لكنها لا تستطيع أن تنفصل عنه، متعللة بابنيها وحرصها على ألا يصدما في حياتهما، غير أن الأحداث تكشف أن مصلحة الابنين لم تكن إلا تعللا؛ فقد جاءها الحب الصادق، ممثَّلا في شخص الرسام الفلسطيني صبري، وقد كبر الابنان واستقلا بحياتهما خارج البلد، إلا أنها لم تستطع الانفصال عن زوجها، لأن ما كان يربطها به كان أقوى من علاقة زوجة بزوجها، وأقرب إلى علاقة العبد بسيّده: «وجاءت اللحظة الحاسمة [تقول أمينة مخاطبة زوجها الراقد في غيبوبة المستشفى] التي طلب مني فيها [صبري] أن أختار بوضوح بينك وبينه.

بقدر ما يبدو الاختيار سهلا وبديهياً بين الجنة والنار، بقدر ما كان صعباً ومدمراً بالنسبة إليّ.

كيف أرتاد الجنة والنار تسكنني؟» (ص189)، بل أن السرد يلقي بظلال من الشك في ألا تكون علاقتها بصبري سوى مطية إلى زوجها واسترجاع له؛ فعندما يعود زوجها من سفر رفقة سكرتيرته الجميلة، وقد قضت أمينة بدورها أياماً في حضن عشيقها الفلسطيني، يسترجع جسداهما ألق اللقاء الأول ويفاعته: «مارسنا الجنس بانسجام تام وبحنان كما في السنوات الأولى من علاقتنا.

مارسناه بامتنان للحياة. يا للمفارقة العجيبة!».

أما بالنسبة إلى الأستاذ إدريس فإن علاقته بعُمر إنما هي علاقة المريد بالشيخ، أو الذات بوسيطها بتعبير جيرار؛ فعُمر هو الذي رسم له طريقه، سواء في الحياة أو الكتابة والإبداع.

قال له عمر في بداية مسيره الأدبي: «تلزمك روح فوضوية، باطنية أكثر، تخرج العمل من تلقائيته وطريقه التقليدي. اذهب بعيداً، حاول أن تغور في المناطق المعتمة..

سيكسبك هذا شهوة غامضة وأسراراً سوداء» (ص13)، فسار إدريس على النهج الذي اختطّه له «صديقه»، لا يخطو خطوة في علاقاته الغرامية أو في كتاباته الإبداعية إلا وصوت عمر يهمس في أعماقه موجِّهاً ومعلِّماً، لذلك فإنه يتضرع إليه أن يفيق من غيبوبته لأنه لا يكون إلا به: «لكن لن تستمر [الحياة] بعدك صديقي.. فعُدْ إلينا.. أرجوك عد.. عد إليّ..» (ص176).

لقد انبنت الرواية على صوتي الزوجة أمينة والصديق إدريس لأن كليهما مرتبطان بعمر، لا يستطيعان الاستغناء عنه، بينما هو عاش متحرراً من أي ارتباط أو قيد.

كانت العلاقة بين أمينة وإدريس متوترة لأنهما يتنافسان على حب عمر، وكان التنافس بينهما قويّاً وصامتا لم يسكن إلا بموت عمر: «شعرتْ بمعاناته وهو يضمها ويحاول مواساتها لحظة الانتظار اللامتناهية، وهما في المصحة ساعة احتضار زوجها». وعندما يموت عمر تقوم أمينة مقامه في عمله في دار النشر ليستمر مشروعه الذي كرس له حياته.

أما إدريس فيختفي عن الأنظار ليعكف على تأليف آخر كتاب، ثم يرسله بعد شهور بالبريد إلى أمينة التي أصبحت مسؤولة عن دار النشر، فتكتشف أن الكتاب ضرب من السيرة الذاتية، وأن إدريس يصرح في المقدمة أن صديقه عمر قد استرجع وعيه، وأفاق من غيبوبته: «فتح عينيه، نظر إليّ مطوَّلا، وابتسم قبل أن تستقر نظرته على زوجته التي كانت تبكي من فرط سعادتها. فرح الطاقم الطبي بما اعتبره معجزة» (ص204).

لقد خالف إدريس الواقع في كتابه، مدعياً أن صديقه لم يمت وعاد من غيبوبته، لأنه لا يستطيع أن يستمر في الحياة والكتابة بدونه، إن استمرار عمر في الحياة في مستوى التخييل، أي في كتاب إدريس، على الرغم من موته الفيزيقي، دليل على استمراره في الاضطلاع بدور الوسيط والوصي، دور الإله الخفيّ، وتأثيره في اختيارات الشخصيتين ورؤيتهما للحياة والناس؛ إنها مأساة الإنسان الحديث، كما تكشفه الحقيقة الروائية في رواية «الملهمات»، محكوماً في كينونته وعلاقاته بالآخرين بجحيم الرغبة، ونير المحاكاة وتأليه الآخر/القرين.

جريدة القدس العربي ليوم الثلاثاء 28 يوليوز 2015.

http://www.alquds.co.uk/?p=379039

Leave A Comment

Recommended Posts