عن أضمومة العشق للشاعرة “فاتحة مرشيد” وما ضمها من رسومات فينانة للفنان “أحمد جاريد”
محمد بشكار
ولنا ان نتهجج بالسؤال دونما استعمال أنابيق التحليل الحمض أو المنوي، ما الذي يستولد الاخر؟ الشعر من رحم التشكيل أو التشكيل من رحم الشعر؟ وكأنا بهذا السؤال المتوتر بالجدل الفلسفي بين الادب و الفن، نستحضر إشكالية من سبق للوجود: البيضة ام الديك؟ لن نبسط استقراءنا نخالة في هذا الخم الأشسع من متاهات بورخيس، مخافة ان يزدردنا نقبا ٬دجاج التأويل؛ بل نفتح الأضمومة الشعرية الثانية للشاعر “فاتحة مرشيد” الموسومة (ورق عاشق) والتي اندلقت أخيرا بالإيراق عن دار الثقافة بالدار البيضاء، بعد أضمومتها الأولى (إيماء ات) عام 2002، لنجزم أن الحبائل الوريدية التي ورطت بدفق المحادثة والمصاحبة القلبيين في هذا الكتاب، بين الشعر (من جهة مرشيد) والفن (من جهة الفنان التشكيلي أحمد جاريد) هو العشق المشروط بدرجات حمى الخلق؛ ألم يقل الشاعر بسام حجار في كتابه الشفيق (معجم الأشواق ) “وليس من المغالاة في شيء هنا زعم العاشق بأن البصر٬ كالمحادثة، جلد ٱخر، على غرار اللمس، يستكمل به الاطمئنان المتكرر لحضور الآخر وما يعنيه ذلك من استجابة”. هنا،لا محالة تتجسد رسما وحرفا، إ يناعية العشق بربيعيته المخضوضرة٬ حتى في إيثار الفنان للتلوين الأخضر الطحلبي الذي جاء منفرشا وثيرا في عمق ترسيماته المتصادية مع النص الشعري، فحصلت تلك المحادثة البصرية التي انتسج عن تخييلها الفني ما يشبه الجلد؛ ٱليست اللوحة بقماشتها المحتوية للرسومات بكل صخبها الدلالي، جلدا يحقق اللمس الذي إنما هو حاسة يكتمل به حضور الشعر/الآخر . فقرأ إذ ننشد، نحن أيضا، تلمس هذا التجاسد الروحي اللذي يدب بالذوبان بين التشكيل والشعر، قصيدة “اغتراب المثنى”:
رجل بجواري /لست أعرفه/كيف تسلل/لفراشي/وكيف أتركه/يقاسمني في العتمة/أنفاسي/أسأل الجسد/إن كان يذكره/يومئ نهد/تئن تجاعيد.ويوشك ثغر/أن يبوح بسر/قلبي رافضه/يعترف دمع:/فراش الحب هذا/والزمن جارفه.
أما كيف تنعكس التمرئيات الدلالية، لهذا النص الشعري بأعاليه التي تقطر بعناب الإيروتيكا، في اللوحة اللتي انتسجها جاريد، فذلك يعوزه إعمال العين بالبصر.. والبصيرة بأسلوب التأويل لتمضهرات الرسم بأناقيمه العاكسة لتيمة الاغتراب بكل ما في الرحيل من مضاضات البعاد؛ اغتراب الذكر عن الأنثى الذي يتجسد في الرسم، ببرزخ المسافة الشاق بينهما؛ اغتراب اللغة العربية أيضا بانعكاس لغة لا تينية تقابلها مقلوبة؛ ناهيك عن زورق ورقي جاهز لأي اغتراب حد التلاشي القاسي في عباب المجهول: تراه الفراش، الذي استحضرته الشاعرة في قصيدتها، ويمخر إلى ذروة اللذة .. أليس هذا السفر في تخوم الليبيدو، حيث تذهل الروح في الجسد مبهورة الأنفاس عن العالم، صنفا من الاغتراب؟ غير أن الشاعرة تكاشفنا في أكثر من نص، بانتيابات شجنية لاعجة، تنطق بمأساة الروح إزاء ما ترومه شبقية الجسد من تشظ و عنفوان و ملهاة، فنقرأ :
لمذا
كلما استهواني المدى
يأسرني الجسد ؟ (أسرـ ص 135)
أو نقرأ:
نسي
بالأمس
ان يعزف
على أوتار
مفاتنها
يغني اليوم
على أطلالها (أغنية الصرصار ص 15)
المحتوم أن حيز هذا الركن، أضيق مما يختلج أو يتبركن في خاطر الاستقراء من جراء الموتيفات الجمالية التي بذرتها “فاتحة مرشيد” في نصوصها الشعرية الأشبه بورقات مقطوفة من مذكرة حب يمتزج في روزنامتها الروحية والجسدية المعيشة القديم بالحديث، لكن نسجل ان جرأة البوح، الفواح في هذه النصوص جاءت معمدة بمسحة رومانطقية شفيفة، مردها في غالب الحزن هو الجرح. كما أن رسومات جاريد بمصاحبتها الفنية المخاصرة للنصوص، انثالت خطاب عشق اخر، فكانت نورا موهجا لظلال الأحرف، وحضورا لما غاب من دلالات في ثنيات الأسطر، مما يذكرنا بقول موليم العروسي ( لنفكر في اللون، في حضوره في ذاكرتنا. لنفكر في التقليد المنتشر عبر العالم الاسلامي والمتمثل في التزويق وفي المنمنات. لنفكر في جلال الكتب العربية المزينة بالصور: ألا يمكننا الجزم بأن فنانينا طرحوا فكرة الفن مبكرا: النور و الظل؟ التجلي و التخفي، الحضور و الغياب؟ (عن: من الرسم الى فلسفة الفن ـ الوحدة :العدد 70/71) ولكم فتنتني حقا الشاعرة في نصها “ألوان القلق” الذي رصعته باب خروج من الديوان، حين توالجت و البحر في قطرة واحدة، مما يجعل ذاكرة القارئ الأشبه بصدف بحري عرضة للريح الحمالة لملح الأعماق المرجانية، تفرغ ما يعمرها من صور الذكرى الزمردية بل يمكن الجزم في هذا المتم، إنها في هذا النص، كأنها اختطفت ريشة الفنان، لتكتب الشعر تشكيلا …أوليس الشعر تفكيرا بالصورة..؟
جريدة العلم، الأحد 25 يناير 2004