المغرب ـ إبراهيم الكراوي
تعكس رواية ”التوأم” للمغربية فاتحة مرشيد، علاقة هذا الجنس الأدبي بالعالم الداخلي للذوات الإنسانية. إذ تتمثل الكاتبة العالم الداخلي لعينة اجتماعية ولعالمها النفسي، والأمر يتعلق هنا بـ”التوأم” الذي يحمل رمزية خاصة داخل سيرورة السرد.
العنوان يحمل مؤشرات دالة على عالم متفرد، وعلى نوع من العلاقات الإنسانية المتشابكة، لكن التقدم في قراءة النص الروائي سيحملنا إلى دوال ورموز تتجاوز هذا الإطار ومختلف تجلياتها في التجربة الإنسانية.
الرواية تشريح للأنا وغوص في أعماقها، وعلائقها المتشعبة مع الآخر، ولعل الخطاب الإبداعي يحتل مساحة مهمة ضمن هذا النسيج الحكائي من تقاطعه مع خطابات أخرى .
ثمة نزوع نحو الحبكة والحكاية منذ خطاب البداية الذي يدشن الفعل السردي وإلى غاية خطاب النهاية الذي يكرس استبدال سحر الخطاب، بسحر الحكاية. فجملة خطاب البداية تستهل بالضمير ”أنا” (وهي مقولة سيكولوجية) وبالضمير نفسه سيستهل خطاب النهاية. ما بين ”أنا” البداية و”أنا” النهاية مسار وسيرورة سردية تتخللها أصوات وخطابات، فضلا عن مقولة الأنا التي تحملنا إلى عالم خطاب علم النفس، تلك الأنا التي تحكي لكي تستمر في الحياة. ويبدو التعالق جليا بين خطابي البداية والنهاية ضمن مسار تشكيل الحبكة السردية، فما يوحد الخطابين مع هو خطاب الأنا.
مراد السارد والشخصية التي تجسد صوت الأنا وانكساراته وهزائمه تنزع إلى بناء ما أسميه الوهم الداخلي للذات وخطاب العالم وهو عشق نورة. هكذا يفتتح السارد الحكي ليكشف علاقته بالفن السينمائي كمخرج يتوق إلى التحليق في عالم السينما وارتياد آفاق الإبداع السينمائي، من خلال موضوع يتعلق بمعاناة المتقاعدين ”باحمان” الذين يعملون في فرنسا في ظل القوانين الجائرة في حقهم وهو ما نتج عنه سرد واقعة انتحار عبد القادر، المتقاعد الذي ضاقت به السبل وأغلقت في وجهه الأبواب. وسيكشف صوت السارد المتمرد على أعراف العشق بتبنيه قصة عشق أو وهم الواقع الداخلي أي نورة، عن أصوات أخرى تؤثث الخطاب الروائي، قد تتقاطع معه مثل صوت الفنان موريس العاشق الذي يتحصن بالفن، وصوت نورة ذاتها التي تهرب من قصة عشق آيلة للفشل، وفي المقابل صوت كمال الخلفي الذي يشكل بداية تشكل الحبكة السردية كما هو معروف في الأدبيات السردية الواقعية، وهي في الواقع أصوات علامات تحيل إلى رمزية الذات الإنسانية بالمعنى السيكولوجي، والموسومة بتقاطعات الاتصال والانفصال وأسرار الرغبة التي تنكسر داخل خطاب الواقع السيكولوجي للذات.
وتستمر الرواية في مقاربة الجانب النفسي، وعلائقه المتشعبة بالذات، الأنا والآخر من خلال مجموعة من العلامات التي تحضر باعتبارها ذوات إنسانية تشكل الخطاب الروائي. فموريس اليهودي، الشخصية العلامة ذات النسق المرجعي ينتمي إلى فئة العلامات التي تستمد سلطتها السردية وحضورها من التاريخ. إنه الآخر اليهودي الذي هرب من الترحيل القسري لليهود إلى إسرائيل، فقد فضل أن يحمل أوزار عشقه. فسقط في قصة العشق التي انتهت بحادث درامي على إثر الزج به في السجن، ما جعله يعيش حالة نفسية كان من أهم أعرضها الاكتئاب، وبالتالي نقل إلى المستشفى لتلقي العلاج.
هكذا سيحتمي موريس من هذا الأنا الأعلى، أي سلطة التاريخ التي فرضت ترحيل اليهود، بالمغارة المشبعة برمزية العزلة ومعانقة الإبداع والفن. إن تقنية استرجاع تاريخ علاقة موريس بالتحف ستتيح للمسرود له الذي يصبح هنا هو مراد، تلك العودة المجازية إلى معادلة شهرزاد وشهريار. فسعي الشخوص (مراد، كمال الخلفي، موريس) للتحرر من الضغط النفسي والابتعاد عن واقع المعاناة عن طريق اللجوء إلى الفن والحكي، هو نفسه فعل تأجيل الموت المتربص بالذات.
موريس يهرب من عالم قصة عشقه إلى المغارة الفن والعالم الداخلي الذي من خلاله يفرغ الأنا مكبوتاته وهواجسه وما يعتمل داخله من مشاعر وسلطة الأنا الأعلى، كما هو الأمر بالنسبة لمراد السارد المخرج السينمائي الذي يهرب من طفولته ومن ماضيه الذي سيتم سرد قصته وعلاقتها بالتوأم. أما شخصية كمال الخلفي الروائي فيهرب إلى فلورنسا محاولا دفن مشاعره والهروب من حب آيل للسقوط انتهى بالطلاق، فهو زوج نورة الممثلة السينمائية.
الحدود بين الروائي وبين الذات التي تعيش في كنف المجتمع واهية، بحيث أن الخطاب الروائي في نص التوأم بقدر ما يحتفي بالحكاية ويتحرر من هواجس التجريب والشكل أو مظاهر تشكل الخطاب يحاول أن يجسد لغة روائية تشتغل على إبدالات مغايرة غير التي كنا نعاينها مع تيار ما عرف بالرواية الجديدة، وبالتالي فشكل الرواية يذوب في بوتقة العلائق المتشابكة بين الشخوص كأننا أمام شكل جديد للحبكة المعروفة في الأدبيات السردية الكلاسيكية، وهو الشكل القريب المستلهم من أسلوب كتابة السيناريو.
نص ”التوأم ” كما يتضح من خلال بنية الشخوص التي تشكل صورة المبدع، يتمثل بإعتباره احتفاء بموضوعة الكتابة الإبداعية وجذورها النفسية ومختلف علائقها المتشعبة بتجربة الذات العاشقة والجريحة، داخل المجتمع الذي يحتضن هذه التجارب المتأثرة بإطاره الثقافي.
جريدة القدس العربي
الاثنين 14 نوفمبر 2016